ترسمها المرايا ،فتذهل أمانيها التجاعيد التي انتشرت على ملامح أيامها،تطلق صرخاتها الخرساء في أذن الله،تسمع وجيب عمرها الزاحف نحو المساء ،ترقب شعرها فتلملم أحلامها المتصدعة على عناد لونه المتشبث
بخيوط الشباب .
ذات حسرة وهي تهزهز أحزانها على نثيث شراينها المختنق،طرق عليها الباب فرّاش الدائرة :
- يطلبكِ السيد (عبد) ست ولاء.
ناداها بصوته الأبح الذي يصعب تمييز أحرفه المتكسرة ؛نظرت إليه بعيون فقدت مذاق الألوان
- مدير قسمنا الجديد سيدتي .
إتكأت على بقايا آهاتها،فاستقامت كأنها عرجون ؛طرقت بابه ،فتسابقت خطواتها مع الكآبة التي تعلو وجهها في الدخول عليه..رفع رأسه فلمح بنظرة خفية ظلال جمال شتته الخريف ؛أجالت عينيها باستحياء حوله ،فرأت محيا
طلقا،تعلوه بشاشة مشربة بوقار لافت ،التقت عيناه بعينيها ،شعرت بأن المكان أسفر ببريق أنار العتمة في دواخلها؛
رجل يكبرها بعشرين سنة لكنه ممتلئ بالنشاط والحياة.
بدأت تتردد عليه بحكم العمل ،صارت اللحظات التي تقضيها عنده تحرك أغصانها الساكنة ،فتسمع همهمات أنوثتها الذاوية ؛أحست بأنّ حركة الأشياء من حولها،تشبه دوائر الماء التي تحدثها الحجارة التي يلقيها الصبية في نهر دجلة ،أخذت هواجسها تطوق صورته بين أذرعها؛فتزجر عقلها عواطفها الملتهبة التي أرهقت كيانها ،وتمسح من شاشته كل الحسابات التي يجريها .
شعر هو أيضا بانجذاب نحوها،أعجبته فيها رزانتها التي صعبت عليه اقتحام عالمها ؛لكنه وبسبب الجرأة التي اعتادها،وإيمانه بالحكمة التي تقول :" إذا خفت أمراً فقع فيه"؛ لمّح لها إنّه يعاني من الوحدة رغم كثرة المحيطين به.
-قالت:أستاذ هل أنت غير متزوج ؟
-أجابها بكلمات سمرتها في مكانها ،وكادت تطير منها بقايا عقلها المشوشة :أنا مطلق ثلاث مرات ،أنا غير محظوظ بزيجاتي ،لقد فشلت في أن أجعل العلاقة الزوجية سبيلاً للمودة بيني وبين طليقاتي ..
-لا عليكِ ... قال لها ليلطف الأجواء ،وضحك بروح مشبعة بالفرح والنكتة والتفاؤل .
كلماته المكتنزة بالحكمة ،والشاعرية ،وثقافته العالية ،وآراءه الحصيفة ،وجمال هيأته ،كلها أشياء جعلت منه رجل استثنائي ،رجل يهزّ وجدانها ،ويشدّ آمالها نحوه ،كانت مستعدة في داخلها،أن تكون طوع إشارته ،وبدأت توقف نفسها لكلمة تتمنى أن تصدر من فمه ،لكنها لم تفصح له بهذا الوجد الذي أسهر ليلها ،وهشم استقرارها .
حين تخرج من العمل ،كانت ترمقه بنظرة تطبع ملامحه على صفحات قلبها .
هو كان يعاني أيضا وتؤرقه الأفكار في طريقة البوح إليها بمشاعره ، فهي امرأة تقنعه بكل تفاصيلها ،ولكن يشعر أن هناك حواجز كثيرة بينه وبينها ،وخاصة بعد أن اعترف لها بالماضي .
لم يكن يعلم انه اخذ منها روحها ،وأنها لا تبالي لو تزوج وطلق ألف امرأة .
قرر في أحد الأيام تحت ضغط الهوس بها ،أن يصارحها بحبه ،وأن يعرض عليها الزواج ،وبينما تحركت شفاهها للسلام عليه ،وبجرأته المعروفة : ولاء... أنا احبك وأريد أن اطلب يدك
سمعت كلماته ،شعرت وكأن صاعقة نزلت عليها ،أحستْ بدوار يعصف بها ،لكنها تماسكت ؛لتسمع كلماته الأخرى
اعتذر عن طريقته في الحديث ،وطلب أن يكون الأمر سراً في حال لم توافق .
أرادت لشدة فرحتها أن تجيبه بصرخة تصك أسماعه ،أن تقولها وهي ترقص وتقفز ،لكنها قالت ذلك وهي تهز رأسها بالقبول ،ودمعتها تسيل على خدها.
أجابها هذا أسعد يوم في حياتي ،كنت أحس دائما بأنّي سأجد كنزاً ثمينا في يوم ما ،وأنت بلا شك كنزي المنتظر،لقد أخرستها المفاجأة ،وصبغت حمرة الخجل وجنتيها .
عاشت معه أحلى سني عمرها ،أحست بصدق كلماته :عمر الإنسان ليست أيامه التي يعدها ،عمره لحظات السعادة التي يعيشها ،وأحلامه التي يحققها ،عمره أن يعيش حياة لذتها في الاختلاف .
صارت حياتها معه لها شكل آخر ،والوقت الذي تقضيه معه أثمن شيء في الوجود
كلماته معها قصائد غزل ،لسانه يحمل أكبر قاموس في الحب ،تنام على يده اليمنى فيملؤها شعور بأنها اغنى الناس ...... بينما تضمه إلى صدرها بكل قوة في إحدى الليالي ،كعادتها في كل ليلة حين تنام ،شعرت بارتخاء كتفه ،مدت كفها نحو كفه وهي مرعوبة ،فأمسكت بأصابع متلاصقة ،وراحة باردة استودعت عندها ضياع عمرها الآتي .