بقلم: ابتسام ابراهيم تريسي-سوريا
العودة إلى الحكاية:
أهو حنين لطفولة مفقودة؟ أم هو ذلك الإرث الذي نسجته الجدات بدربة
وذكاء شديدين حتى غدا جزءاً هاماً من تكويننا؟ أم هو تراثنا الحكائي
الضخم المبثوث في "ألف ليلة وليلة"؟
في مطلق الأحوال لا أعتقد أنّها نوعٌ من أنواع الردّة، بل هي تمسك بزمن
قابل للحضور الدائم بيننا، وكأنّه لم ينته ويزول. وربّما لأنّها الأقرب
"بين الأجناس الأدبية" للتداعيات التي تتنقل من خلالها المخيلة بين
الماضي والحاضر، وتقطع السرد بجمل لا علاقة منطقية لها بالحكاية
الأساس. في "البدء" أولى حكايات المجموعة تتجلّى تلك الخاصية
بوضوح، فالكاتب يبدأ بالحديث عن رحلة والده وأمّه الحامل إلى
بنغازي من أجل ولادة الطفل الشقي القادم، الذي "نفترض" أنّه
كاتب السطور، فالحكاية هنا ألصق ما تكون بالسيرة الذاتية. ثمّ
ينتقل بعد أسطر قليلة لسرد حكاية قالها له والده فيما بعد، ثمّ يعود
لسرد واقعة الولادة، ويذكر في الوقت نفسه أن الشهرالذي ولد فيه ،
مات فيه عمه وزوجة عمه ، وصديقه العزيز يوسف. ولا يلبث أن
يطالبنا بتحمله، فهو على يقين أنّ بعض الإطناب يجعل القارئ يشعر
بالملل، ويذكر قولاً للناقد محمد المالكي "دائما أطلب منكم أن تكونوا
مثاليين،وأنا مكتظ بالعيوب" إذن الكاتب يدرك أنّ الاستطراد يورث
الملل، ومع ذلك يسرف فيه، ويذهب حداً بعيداً حين يسرد لنا واقعة
حدثت في الزمن القريب حين التقى أحد أصدقائه القدامى، وقد أثرى
ثراءً غير مشروع ، وبان ذلك من سيارته الفخمة حين وقف وإياه
عند شارة المرور، لينقلنا بعد ذلك إلى نهاية الحكاية ، فقد ولد،وفرح
أبوه، وكانت أمّه تعدّ لحظاتها الأخيرة! . نتنفس الصعداء مع النهاية
الكئيبة التي منحتنا شعوراً بفرح ناقص،فهي فرحة تؤسس لموت قادم!
فالحياة لا يمكن أن تمنحنا الفرح صافياً، وتأبى إلاّ أن تلون ذلك
الفرح بغصة،لتنبهنا باستمرار إلى معنى وجودنا الحقيقي،وسيرورتها
التي لا مفر لنا من القبول بها كما هي.المفارقات الزمنية:
ــــــــــــــــــــــــ
تأتي أهمية دراسة الزمن في السّرد من كون هذا النوع من البحث يفيد
في التعرف على القرائن التي تدلنا على كيفية اشتغال الزمن في العمل
الأدبي،وذلك لأنّ النّص يشكّل في جوهره، وباعتراف الجميع، بؤرة
زمنية متعددة المحاور والاتجاهات.
اقترح جينيت لدراسة المفارقات الزمنية بإطلاق مصطلح "الحكاية
الأولى" على ما يشكّل نقطة التمفصل الزمني الأساسية التي تحدد
صيغة المفارقة باتجاه الماضي أو المستقبل ، وقد اعتمد الكاتب
"حكاية الولادة" حكاية أولى،شطرها استرجاع داخلي، "مثل سرد
حكاية الصديق عند إشارة المرور" وهو ما وصفه "جينيت"
بالحكي الثاني أو القصة الغيرية. واسترجاع خارجي ، وهو متصل
بالمدى والسعة، وهذا الاسترجاع كان جزئياً ، فقد جاء على شكل
حكاية رواها الأب لابنه، قفز عنها السارد ليعود مرة أخرى لحكايته
الأولى. وهذه الاسترجاعات التي جاءت في الحكاية، يمكن تصنيفها
بخانة الذكريات التي لا تتصل بجوهر الحكاية الأولى ، لكنّها تقوم
بمهمة توضيحية غير ذات أهمية تتعلق بالشخصية الرئيسة في
الحكاية.ولم يكتفِ الكاتب بتقنية الاسترجاع فقط، وإنما استخدام
أيضاً "الاستباق"بما يتميز به من خاصية التنبؤ، وهي تقنية حاضرة
بقوة في السيرة الذاتية،فالسرد بضمير المتكلم يسهّل استخدامها، وهي
استباقات تكميلية نعرف من خلالها ما سيكون عليه مصير الشخصية
فيما بعد، وتحكي حدثاً لاحقاً لزمن السرد، وقد استخدم الغزالي هذه
التقنية في حكايته عن زوجة أبيه"الدرناوية" فهو يصف لنا معاملتها
له وعواطفه تجاهها، وأثر ذلك في شخصيته، قاطعاً السرد بعبارات
بين قوسين "عرفت امرأة جميلة بعدها كانت ابتسامتها أقصى ما
أتمناه" وذلك في معرض حديثه عن ابتسامة زوجة أبيه الشحيحة
والنادرة. وأيضاً قوله: "عرفت هذه التعاليم في مدرسة البركة رقم
1" وهو يسرد المهام التي عليه أن يقوم بها فور استيقاظه من النوم
والتي فرضتها عليه زوجة أبيه "أغسل وجهي بالماء والصابون،
وأنظف أسناني ...."وقد اكتفى بهذا القدر في حكاية الدرناوية،
فبدت أقرب للقصة في تنامي الحدث، ونقطة التنوير في نهايتها.
وقد تخلى السنوسي في قصّته الثالثة عن ضمير المتكلم، مستخدماً
سارداًعليماً ، في الظاهر يبدو السارد "غيرياً" ينقل كلام الشخصية
كما هو، لكنّ السرد يتكشف عن اندماج السارد مع الشخصية حدّ
الاعتقاد أنّ الحكاية هنا سيرة ذاتية آثر الكاتب أن يرويها على لسان
راوٍ عليم. فالحكاية لا تخرج عن السّيرة "سيرة التّعب" تلك،
بتفاصيلها الحميمة، وعلاقة الكاتب بأسرة أمّه المتوفاة، والمشاعر
التي يحملها لأخواله، والتباس تلك المشاعربالمروي عن ماضي تلك
العلاقة المتعلق بوفاة والدته. يعود بعد هذه السيرة،إلى ضمير المتكلم،
فيروي بالمقدار ذاته من الحميمية قصة عشق "الزهرة السحابة" ،
منذ العنوان وهو عتبة النص، يلوح لنا المظهر المخادع، أوالسراب
الذي اكتنف الحكاية، فقصة زهرة تبدو كسحابة، وربما سحابة صيف
غيرماطرة! هذا ما سترويه لنا الحكاية. بكل بساطة الراوي يقع فريسة
الخداع،لكن أهي زهرة من خدعته؟ بل هو من مكّن صديقتها من الخداع،
ربّما كان ميراث جيل كامل لم يعتد أن يصل إلى غرضه مباشرة،
وبوضوح تام، بل دائماً يلجأ إلى طرف ثالث يقوم عنه بالمهمة !
الغزالي يحكي من البداية كيف تعرف على زهرة في أمسية أدبية، ثم
وسّط صديقتها لإيصال مشاعره إليها وكيف قالت الصديقة بأن زهرة
لا تستحقه وهناك الكثيرات يتمنينه ، ثم زواج زهرة واكتشافه بعد
زمن أن صديقتها كانت كاذبة ولم توصل الحديث لها! تحيلنا الحكاية
إلى عادات اجتماعية، وصور من الحياة الليبية، تتزامن وشباب الكاتب.
كما ترسم من دون قصدية مسبقة البيئة بتفاصيلها الحميمة.
حكاية بسيطة يرويها السارد كما حدثت في الواقع من دون اللجوء إلى
أساليب تشويق مفتعلة. وقد كان زمن الحكاية ممتداً، قام الغزالي
باختصار عدد من السنوات معتماً على الأحداث التي جرت خلالها ،
ليصل بنا إلى نهاية الحكاية، وهي ما يهمه أن يصل إلى القارئ.
وتقنية التلخيص تلك، أو الحذف الصريح "بحسب جينيت" أشار إليها
الكاتب بقوله ( وبعد سنوات)، جعلتنا نشعرأن هناك فجوة في السرد، قفز
عنها الكاتب ليصل إلى خلاصة السرد متنفساً الصعداء.
المفاجئ أنّ الكاتب يعود بعد الحكاية الخامسة ليسد فجوة السرد تلك،
في الحكاية السادسة. فنحن هنا نعرف تفاصيل تلك السنوات التي قفز
عنها في قصة زهرة، ونكتشف قصّة عشق أخرى لجميلة أخرى اسمها
دولا، وهو اسم متخيّل لشخصية لم يبح الكاتب بكامل صفاتها خشية
أن يعرفها القارئ ، وهذا يحيلنا إلى شخصية واقعية بعينها. ويدفعنا
الكاتب باستخدامه تقنية الاستشراف لتخيل فتنتها، فيما لو رأيناها،
بأنّها مؤهلة لإثارة الزلازل والحروب والأهوال ! يا له من جمال قاتل!
وهو ينفي أن يكون جمال دولا مما تصوره مخيلة العاشق ، بل يجزم أنّ
كلّ الناس هائمون بها ! في هذه الحكاية يستخدم الكاتب تقنية الاستباق،
فهو يقطع السرد ليخبرنا بما دار بينه وبين زوجته بعد سنوات. ليعود
بسرعة فيسرد لنا لقاءه الأول بدولا، مذكراً إيانا بقصته مع زهرة. وكما
حدث مع زهرة ، حدث مع دولا ، إلاّ أنّ مفرق الأحبةهنا رجلٌ وليس
امرأة ، قام بالدور الذي قامت به صديقة زهرة. والسارد استسلم لقدره
ثانية من دون اعتراض أو بحث عن السبب الحقيقي وراء نصيحة ذلك
الرجل. وجاءه آخر من أصدقائه ناصحاً أيضاً، أن يبتعد عن دولا، و
أخبره بأن يسعى لتحسين وضعه وهو سيقوم بمهمة خطبتها له. لكن
السارد يكتشف أنّه وقع في خديعة أخفاها عنه الصديق خوفاً عليه كما
زعم، ونعرف أن السارد هنا كان متزوجاً ولديه أطفال! وأنّه اتفق مع
زوجته على الانفصال الودي، ولم يعد هناك حواجز بينه وبين دولا!
إذن هناك فجوة أخرى ، مدّة زمنية، تزوج خلالها السارد، وأنجب أطفالاً.
وبتقنية الاستباق أيضاً، يخبرنا السارد أنّه بعد مضي "سنوات" عرف
بمرض صديقه وعاده بعد تردد، ليكتشف المكيدة المخبأة في أوراق
صديقه التي تركها له بعد الرحيل. أهل دولا لم يرفضوه ، لأنّ الصديق
لم يخبرهم أصلاً ، لأنّه كان يحبها! هكذا تصوغ الحكاية أقدار أقوى من
تصورات السارد. وتمضي تلك الأقدار، لتفاجئنا بأنّ السرد لم ينته
بعد، فما زال للحكاية بقية. ولا زال الكاتب يكرّر على مسامعنا ، لو
قيّض لدولا أن تعرف ، ماذا سيحدث؟ وذلك بعد مرور خمسة عشر
عاماً على الحدث.وكذلك تأكيده من خلال التّكرار على صفة أصبحت
لصيقة به. وكبقية حكايات المجموعة تمتدّ الحكاية في زمن يصلح
لعمل روائي، يقوم السارد باستخدام تقنية الحذف، والتلخيص،
والاستباق ، والاسترجاع، والاستشراف. تستثنى من ذلك بعض
الحكايات، مثل "أبو العذارى"و "بيت مسكون بالبركة" فزمن السرد
قصير، والحكاية تتنامى في تصاعد درامي أقرب للقص, وحكاية بيت
مسكون بالبركة، حكاية أقرب إلى أقاصيص عزيز نسن، لا تشتغل
على أيٍّ من التّقنيات السابقة.
"صديق التعب" القصة الخامسة ، و"أكل وشرب وسيقان القصة التاسعة"
"قمباري" القصة الحادية عشرة، "سبب" القصة الثانية عشرة،
"حكاية الموريس الحمراء" القصة الثالثة عشرة، "الأبله" القصة
الرابعة عشرة. في هذه الحكايات، تراوح التبئير بين براني داخلي،
وبراني خارجي. قام الراوي برصد الحدث والشخصيات من دون أن
يكون هو داخلها أحياناً، فقد تم منظور الرؤية من داخل الشخصية
المرصودة "داخليا" عبر سارد خارجي. ودخل السارد الحكاية
أحياناً ليصبح التبئير "جواني خارجي" فنراه أحد الشخوص
المرصودة في السرد، بالإضافة لكونه يرصد الحدث ويصف
الشخصيات من الخارج . تشابهت الشخصيات في هاتين الحكايتين
(صديق التعب، وأكل وشرب وسيقان) فكلا الشخصيتين تمتعتا بالحياة
والنساء من دون رغبة في تحمل المسؤولية، وإن اختلف الحدث
المسرود، فاختلف مصير الشخصيتين.
وبذلك نلاحظ أنّ الكاتب اعتمد تقنيات مختلفة لسرد حكاياته، حرص
فيها على التنوع، وإظهار المفارقات، واشتغل بشكل رئيس على
الفضاء الزمني داخل الحكاية.
خارج زمن الحكاية/ أقاصيص:
ـــــــــــــــــــ
"سرايا" حكاية امرأة عجوز اتهمت السارد بالسرقة ، زمن الحكاية لم
يتجاوزالليلة الواحدة التي قضاها السارد في السجن، وفي اليوم الثاني
تنازلت العجوز عن المحضر من دون إبداء أسباب ! في هذه "القصة"
حدثٌ تنامى،ومشهد، وحوار ، ونهاية غير متوقعة! ابتعد الكاتب عن
أجواء الحكاية، ولم يحفل بالزمن فيها. أمّا "فكرة" فهي حوارية
قصيرة، زمنها لا يتجاوزالدقائق.وبحسب ما تيسر لي من مراجع،
لم أجد مجموعة من الحكايات، سوى مجموعة محمد السنوسي الغزالي،
وقد لجأت إلى كتاب الناقد عبد الحكيم المالكي "السرديات والقصة
الليبية القصيرة" فوجدته قد قسّم القصة في ليبيا إلى خمسة أقسام ،
لم يدرج خلالها الحكاية. فهل لا زالت الحكاية فناً مقصوراً على التراث
الشفوي، وألف ليلة وليلة؟ أم أنّ المستقبل سيعيد إليها وجودها الحقيقي
كفن يتناسب مع معطيات العصر؟.
- نشرت في مجلة الثقافة العربية (ليبيا)ورقيا في عدد فيراير2011م..
ــــــــــــــــــ
بعض من سير التعب / محمد السنوسي الغزالي / إصدارات مجلس
الثقافة العام / 2008 /
*ابتسام تريسي : قاصة وروائية وناقدة سورية ، صدر لها
مجموعتان قصصيتان خمس روايات ، حازت على ثلاث جوائز
في القصة والرواية ومن اعمالها:
- جذور ميتة مجموعة قصصية.
- عين الشمس..رواية
- المعراج..رواية.
- جبل السماق..رواية