شتاء و مدفأة...
أو حينما ينقلنا الحب إلى الزمن الرابع...
لن نتوقف عن منح الأوصاف الوارفة للحب، فلكل منا وصفه الخاص، و لكل منا حيازته الخاصة لما يعتبره الشخص-المرآة، أي الشخص الذي يتيح له الإقبال بشراهة على إعطاء السلطة العليا لنصف الكأس المملوء. و ما بين " الأنسنة " و " التشييء " كأصدق ترجمة لروح الحب المغمورة بالتناقض الخلاب، تتراكض أدوات الإفراج الذاتي بين مذاهبنا التجسيدية ( لوحات تشكيلية ) و مذاهبنا الأدبية ( قصائد و خواطر و مسرحيات ...)، و قد أمسكت بمذهب في الإنتماء إلى الحب، تجسم في نص " شتاء و مدفأة " لأستاذة النثر الفني المسجور بالمعاني و المدلولات، السيدة سلوى حماد و التي انتصرت بلمستها العالمية على سجن اللازم و المتعدي في السوسيولوجيا الشرقية التي صادفت ( و لا تزال؟) صعوبات قاسية لإيجاد الفضاء المشترك بين فرد و جماعة يعيشان بسلام.
ذات لحظة انتعاش ما، كتب رونيه ديكارت أن أعظم إحساس ينتاب الإنسان هو الإحساس بالبهجة، رفقة صاحب التأملات و مبتدع الشك الخلاق، يحق لنا أن نتساءل : ما مصدر البهجة؟ شخصيا لن أفكر طويلا و لن أتردد في التأكيد بأن البهجة أو الانشراح، صادران عن الحب و ما بينهما ليس بأقل من الصلة العضوية.
ما نتمناه للحب كأرقى الأحاسيس الإنسانية الجميلة هو الديمومة، السمو فوق الإكراه الزمكاني و لم لا، السمو فوق الذاكرة ثلاثية الأزمان، و الانتقال إلى قمة تأثيث المعتاد اليومي من خلال ابتكار " الزمن الرابع". هذا حقا ما تتطاول إليه أمنياتنا الأخاذة النابعة من قلوب بيضاء تقطنها براءة الطفولة.
لا أعني طبعا بعبارة " المعتاد اليومي " الرتابة مثلما قد يتناهى إلى ارتسامات البعض، إنما أعني بها ما نستدر به الحظ انطلاقا من شعورنا بأننا على قيد الحياة. لن أتجرأ أكثر و لن أمنح للحب معنى " رساليا "، بيد أنني أميل إلى منحه هذا المعنى كتجسيد إنساني أسمى لهذا الإحساس المازج بين المتناقضات إذ يتحول أحيانا إلى خالق غير آبه للاستياء بيد أنه غالبا " رئة ثالثة "، " حياة أخرى...و الحياة نفسها ".
كذلك أرادت الأديبة سلوى حماد، حيث اختارت، بعناية لافتة و برغبة و إصرار مفعمين بالدلالات، استهلال نصها الحالم بتحديد معالم البيئة المصغرة لانثيال المشاعر السيالة، فاستخرجت عبر أسلوب موسوم بلمسات النثر الفني " بيت الحب و سيرته الزمنية " :
في يوم بارد ذات شتاء
أنت وأنا وحدنا
وصوت المطر يداعب مسامعنا
على النقيض من استياء الطبيعة الذي صورته الأديبة باقتدار مسترسل بين الرعد المزمجر و البرق المولع بالوميض بين الوقت و الوقت، فإن حضورها إلى جانب جليس ارتساماتها المبتسمة يحيل تجليات الشحوب إلى تذكرة ذهاب إلى ملكوت الأحلام، إلى حيث لا يمكن، بل لا يجوز للخليقة أن تتوقف عن نحت الجمال.
فلنتذكر من فضلكم : إننا نعيش ،كقراء، مع الأديبة الزمن الرابع، زمن الحب.
ليس عبثا أن نلاحظ أن شخوص المقاطع الوصفية تتسم بارتباط وشيج و وثيق بالطبيعة، إن لم تكن جزء ماهويا و هوياتيا منها، فبالإضافة إلى الرعد و المطر و البرق الذين واصلوا بلا انقطاع، و في خشوع، ممارسة نشيدهم الأزلي، تتبدى المدفأة التقليدية و أعواد الحطب و فناجين القهوة المعطرة بالهيل، كل هذه العناصر تشكل حقلا سيميولوجيا / دلاليا واحدا متصلا بالطبيعة، و التفسير ليس بعيدا عن المتناول : الحب إحساس طبيعي يتأثر بالاستباق و بالتلقائية و لا يتأتى تصنعه أو استزلافه.
كاستنتاج يفرض نفسه، سنقول و نحن مطمئنون إن رحلتنا القرائية تتخلل حالة شعورية صادقة تأسست على الطبيعة الموصوفة بكياسة مرموقة. مؤشر آخر للتوجه الحازم نحو إثبات الانتماء الطبيعي للأحاسيس، يتراءى لنا في غياب ( أعتبره شخصيا و دون الإستغراق في التحليل السايكولوجي أو في رسم حدود "المكتسب" و "الطبيعي" في النصوص المرتكزة على أدوات النثر الفني، " تغييبا" ) الشخوص المحيلة إلى الغزو المتلاحق للتكنولوجيات الحديثة لمختلف مظاهر المعيش المتكرر و لو في مناحيه الأقرب إلى الحميمية.
لقد أرادت صاحبة النص الكتابة بأصابع البراءة عن وضع وجداني عميق، فتحقق لها ما أرادت، إذ قدمت لنا مقطوعة يانعة تمتح من روافد الطبيعة البديعة، تقول الكاتبة :
وفنجان قهوة يتنقل بين أيادينا
ورائحة الهيل تسري في الأجواء
والحطب المشتعل يناجينا
ويحفز فينا روح المغامرة
فتجن خيالاتنا وتتناسل بسخاء
رداء البهجة منسوج من العشق - أو الخيال المجنون بسخاء طبقا لرأي الكاتبة - الذي يتناهى الارتواء منه إلى الإبداع تماما مثلما تتناهى الحاجة إليه إلى الإبداع، ذلك أنه ليس كائنا موضوعيا مجردا بقدر ما يعتبر خليطا من الاستثناءات المتشابهة و المتباينة في نفس الآن، لذلك ليس مفاجئا أن توصلنا صحبة العشق أو علبة العجائب أو ربما حديقة الأحلام، إلى حالة البهجة المنشودة، و عندها، مثلما قالت الكاتبة :
يشتعل النبض في العروق
ويشتعل الجمر في المدفأة
فيخضب بالدفء الأجواء
فأغمض عينيك بقبلة
وأغزل من شهد الحرف قصيدة
أقرأها لك
ولك وحدك سيكون الإهداء
التوقيع
لا تأكلي الشمس...فما في حوزتي سوى كلمات و وردة ...هي لك