للأخ الحبيب ناصر علي البدري
***
جاء في قصة السيدة خديجة أم المؤمنين المقررة على الصف السادس الابتدائي في معرض الحديث عن بدء الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
(... وفجأة وَجَدَت محمدا يدخل عليها خائفا، يصيح مرتجفا قائلا: زملوني زملوني.
فأسرعت إليه وعاونته على السير إلى فراشه ... حتى ذهب عنه الروع وفتح عينيه، فكشفت عنه الغطاء وعاونته على النهوض وبدلت ملابسه التي بللها العرق الغزير، وجلست بجانبه ونظرت إليه نظرة مملوءة بالحنان، ثم قالت باسمة:
ماذا حدث يا أبا القاسم ؟! شغلت قلوبنا عليك. فنظر إلى أعلى الحجرة ثم قال في خوف: لست أدري يا خديجة ماذا سيكون !! إني خائف على نفسي، فقد رأيت عجبا ! ... كنت في الغار... فرأيت جسما لطيفا ليس مثل الناس فارتعدت فرائصي واهتز جسدي فما عهدت أحدا يتسلق هذا الجبل غيرك أنت ومن كنت تبعثينهم ليطمئنوا علي وعلقت عيني بهذا الجسم الشفاف وهممت أن أصيح به فسمعت صوتا قويا ملك علي سمعي وهز جسمي وناداني صائحا بي قائلا:
- اقرأ
- قلت: ما أنا بقارئ... ) ا.هـ
ويؤخذ على هذا الجزء المذكور أمور: أولها أن صاحبه لم يراع ما ذُكر من أصول بل راح يخترع نصا من عنده ويرسم صورا لم توجد خدمة للنص بعبارة ركيكة كأنها مستوحاة من جلسات العامة، وليس من معجم البلغاء بحال، بل إن صوره توقع في نفس الأطفال الذين قررت عليهم هذه الرواية أن رسولهم الكريم يخاف من مجرد جسم شفاف وهو ينطلق من صورة ذهنية يتخيلها الكاتب ليست عليها دليل من قريب أو بعيد.
ولقد حاولت جاهدا أن أتلمس ما اعتمد عليه الكاتب في تخيل هذا الموقف الذي لا يدعمه النص الشرعي فقلت: لعله اعتمد في ذلك على صورة جزئية ثم ربطها ذهنيا بصورته تلك وبدأ برسم لوحته البيانية ضاربا بأصول الاعتقاد ضرب الحائط عمدا أو جهلا، وأظن أنه إلى الثانية أقرب.
أما عن الصورة الجزئية التي أتصور أن الكاتب قد بنى عليها صورته هو ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم))، فعمد الكاتب إلى هذا الحديث وتخيل أن جبريل عليه السلام نزل على شكل نور شفاف لطيف وهو إن دل فإنما يدل على ضعف الكاتب في تصوره ابتداء وعلى قلة علمه حيث إن الملائكة خلقت من نور إلا أنها قد تتشكل في صورة آدمي له جرم ومادة، ودليل ذلك هو ما أخرجه البخاري في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الحارث بن هشام رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول)).
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
ثم ما أخرجه البخاري أيضا في بدء الوحي عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: (ما أنا بقارئ). قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم}. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال ( زملوني زملوني ... الحديث).
فالحديث ينفي هذا التخيل للكاتب، ويثبت أن جبريل عليه السلام أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فغطه أي ضمه وعصره حتى حبس نفسه حتى بلغ غاية وسع النبي صلى الله عليه وسلم.
فأين هذا الجسم الشفاف واللطيف الذي بمجرد أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يغشى عليه؟ أين هذا في الحديث؟ إنَّ فعل جبريل هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يذكره الكاتب إنما يستدل به على أمور عديدة ذكرها العلماء على شرح الحديث لا يفيدها قط ما قام الكاتب باختراعه هذا، فقد ذكر أهل العلم أن في فعل جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الغط حتى بلوغ الجهد ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليه بنفس الإجابة عدة فوائد منها:
- ليدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن ما وقع له لم يكن من باب التخيل أو الوهم أو الرؤيا وإنما على الحقيقة.
- إظهار الشدة والجد في الأمر الذي سيلقى عليه وليبلو صبر النبي صلى الله عليه وسلم عليه ويحسن أدبه ويرتاض لتحمل ما كلفه به من أعباء الرسالة.
- تنبيه القلب والنفس بما سيلقى عليها من الأمر الإلهي.
- اختباره هل سيقول شيئا من قبل نفسه مع وجود ما يلاقيه من الشدة أم لا.
وهنا السؤال: ماذا استفاد الطلبة بما فعله الكاتب سوى تربية النشأ على اعتقاد خاطئ يتعلق بأهم موقف تاريخي وشرعي عرفته البشرية منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليه، بل ويفتقد الطلبة إلى هذه المعاني المستخرجة من هذا الموقف التاريخي بعدما عبثت به يد الكاتب وانحرف به خياله بعيدا عن الصورة الحقيقة التي يجب أن تترسخ في أذهان الطلاب؟ وما الذي يمنع بناء على ما ذكره الكاتب أن يعتقد الطلاب أن هذا الأمر برمته ربما كان وهم أو تخيل؟ ما الذي يمنع؟ أليس جسما لطيفا أشبه ما يكون بتلك الصورة النورانية التي ترسمها الكنيسة بالضوء للعذراء البتول في زعمهم ليخدعوا به أتباعهم؟
هذا، وأتمم نقد النص السابق فأقول: لقد اخترع الكاتب النص الذي حكى فيه تبديل ملابس النبي صلى الله عليه وسلم نظرا للعرق الغزير مع أن هذا كان يصيب النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الوحي كثيرا ولم ينقل أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدل ملابسه نتيجة لذلك.
إن هذه الصورة الذهنية التي عمد الأديب إلى اختراعها دون أن يكون ملما إلماما كافيا بالنص النبوي وشرحه وما يفيده في الاعتقاد والفقه والتاريخ أدى إلى أخطاء عدة ليس ما سطرت هذه الكلمات حوله أقواها بل يوجد غيرها كثير سنعرض لها لاحقا إن شاء الله تعالى.