رواية ”هلال” لديانا أبو جابر..تعكس هموم المغتربين العرب في أميركا
نادر جداً أن نقرأ رواية أميركية عن العرب في أميركا، رواية لا تشوّه أو تهين أو تنتقد أو تذم، بل بالعكس، تتغنى بكل ما هو عربي من الموسيقى إلى الشعر والملابس التقليدية ولا سيما المأكولات. وهذه هي رواية «هلال» (Crescent) لديانا أبو جابر الأميركية من أصل أردني حسب صحيفة العرب اونلاين.أما العنوان «هلال» فتوضح الروائية نفسها اختيارها له على أنه رمز الإسلام، وتراه يدلّ على مكافأة من يصبر، من يكون مستعداً للانتظار (ص383). أليس هذا ما يقترن بهلال رمضان؟ وأحداث الرواية تثبت مكافأة من صبر وانتظر. هذا، فضلاً عن أن الجرح المندمل في طرف عين بطلها حنيف كان في شكل هلال.
تتناول الرواية مشكلة المهاجرين إلى أميركا، من العـــرب وغيـــر العـــرب، أو المنفيين إليها من بلادهم. وفـــي كثير من الدقــــة والعـــمق العاطفي تصــور شعورهــم بالغربــــة وحنينهم الدائم إلى أوطانهـــم المفقودة. فأحاسيس المهاجرين في أميركا تلعب دوراً أساسياً في الرواية. تقول نادية، صاحبة المقهى الذي رواده من هؤلاء المهاجرين أو المنفيين: «وحدة العربي أمر فظيع، إنها تستهلكه. إنها موجودة مثل ظل خفيف تحت قلبه حين يلقي رأسه في حضن أمه. إنها تهدد بابتلاعه بكامله حين يغادر وطنه، مع أنه يتزوج ويسافر ويتحدث مع أصدقاء أربعاً وعشرين ساعة في النهار» (ص21). وعن كاتب مهاجر تقول: «كان يكتب ويكتب ويكتب، محاولاً أن يملأ الفراغ في داخله بطبقة من الحبر». (ص122). وحنيف الذي لا يستطيع أن يتعود على المنفى، على حرمانه وطنه العراق، يقول «إن تركه وطنه يشعره بأن جزءاً من جسده قد قطع منه، فيتخيل أن جسمه يؤلمه بسبب فقده هذا الجزء... ويشبه المنفى بغرفة مظلمة، رمادية، تملأها الأصوات والظلال، ولكن ليس فيها شيء حقيقي أو واقعي». (ص182). ولذلك يقبل هؤلاء المهاجرون على «مقهى نادية» اللبنانية المتخصص بالمأكولات والحلويات العربية، فتدخل الكاتبة في تفاصيل أوصاف هذه المأكولات والحلويات ومقوماتها وإعدادها كمن يعرف تماماً كل أسرار الطبخ والمطبخ (والكاتبة، في الواقع، تكتب تقارير للصحف عن مطاعم أميركا). لا تعرفها فحسب، وإنما تحبها أيضاً، إذ تمزج إعدادها بتأملات عاطفية، كقولها: «تعليم فرم الجوز وتسييح الزبدة كان أيضاً تأملات حول الأمل والورع» (ص68).
ويذيع المذياع في «مقهى نادية» الأغاني والموسيقى العربية، والتلفزيون أخباراً وأفلاماً عربية. والطباخة الجميلة الماهرة في هذا المطعم، أو «الشيف» كما يسمونها، هي سرين، بطلة الرواية. والدها العربي الأصل ووالدتها الأميركية كانا قتلا حين كانا يقومان بإحدى مهماتهما الإنسانية في بلد افريقي، فنشأت سرين في كنف عمها العازب الذي رعاها كابنته. وقد امتهنت طبخ المأكولات العربية لأنها تذكرها بالأطعمة التي كان والدها يحبها. لم تعرف سرين العربية ولكن حين كانت تسمع زبائن المطعم يتحدثون بلغاتهم الأم: العربية أو الفارسية أو غيرها، كانت تسمع فيها أنغام الشوق والحنين.
وبين رواد المطعم حنيف الأياد، لاجئ من العراق، شديد الشوق والحنين إلى بلده الذي لا يستطيع العودة إليه. حنيف أستاذ جامعي، واسع الثقافة جداً، يترجم روائع الأدب الإنكليزي والأميركي إلى العربية، أعجب بجمال سرين، ولا سيما بإتقانها طبخ المأكولات العربية، وما لبث أن تطور الإعجاب إلى حب، وتقضي سرين بعض الليالي عند حنيف، ثم يهديها شالاً عراقياً تقليدياً قائلاً لها إنه كان لوالدته. ولحنيف صديق أميركي ومصور فوتوغرافي كان أمضى في بغداد بعض السنين، يلتقط صوراً لحياة الناس هناك، لا سيما بعد الحصار الذي ضربه الأميركيون على العراق. يقول ناثان إن حبه لفتاة عراقية هو الذي أبقاه في بغداد إلى أن اتهم بأنه جاسوس واضطرّ إلى الفرار من البلاد. ونعرف في ما بعد أن الفتاة التي أحب هي ليلى، أخت حنيف، وأن السلطات البعثية قبضت عليها بدلاً من ناثان وقتلتها. فتلاحقه مسؤولية كونه السبب في موت حبيبته. وإذ تظن سرين أن حنيف يحب إحدى طالباته ويخونها معها تنتقم منه لنفسها بأن تقضي ليلة مع الشاعر عزيز، ولكنها تندم حالاً على هذه الخيانة. ويقرر حنيف العودة إلى العراق مع معرفته بأن الموت الأكيد ينتظره هناك بسبب نضاله القديم ضد الديكتاتورية البعثية. وتصف الروائية عذاب سرين وألمها ويأسها لفقدها حبيبها، لا سيما بعد أن ترى في صحيفة عربية صورة ثلاثة رجال أعدمهم النظام العراقي وفي طرف عين أحدهم هلال الجرح المندمل الذي كان في طرف عين حنيف. وتؤكد لها موته مسبحته الزرقاء التي وصلتها بالبريد مع رسالة محت الرقابة نصف كلماتها فلم تفهم منها شيئاً. إلا أن ناثان كان التقط خفية صورة لها ولعزيز في موقف حميم على شاطئ البحر، رآها حنيف صدفة قبل أن يسافر، فقال لصديقه إنه لا يعرف ما إذا كان في إمكانه أن يغفر لسرين. حين علمت سرين بذلك أحست أن صورة خيانتها كانت السبب في سفره وشعرت بمسؤوليتها عن موته.
وما يلفت في هذه الرواية الأميركية إصرار الكاتبة على عرض المآسي التي أصابت العراقيين نتيجة الحصار الأميركي. فناثان وحنيف يستمعان إلى محاضر يعنّف جمهوره على سكوتهم عما يرتكب باسم الشعب الأميركي في الحصار المضروب على العراق حيث يموت مئات الآلاف من الناس والأطفال لانعدام الغذاء والدواء. وتصف الرواية غضب العرب في أميركا لعدم إحساس الشعب الأميركي بما أنزلته حكومتهم بالشعب العراقي، كما تشير إلى تعتيم الإعلام الأميركي على أخبار العراق وفلسطين. لذلك يتجمهر الطلاب والأساتذة العرب في «مقهى نادية» حيث يستمعون إلى إذاعات بلادهم.
قد يبدو هذا كله مألوفاً بالنسبة الى القارئ العربي، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة الى القارئ الأميركي الذي تتوجه إليه الرواية. ولا ريب في أن فن الكاتبة القصصي هو من العوامل المهمة في نجاح هذه الرواية وما نالته من تقريظ بأقلام بعض أهم النقاد الأميركيين. فالكاتبة تبدأ كل فصل من الفصول بقصة غرائبية تشبه قصص «ألف ليلة وليلة» في مغامرات بطليها في بلاد الجن والسمك تحت البحر، يقصها العم على سرين عن مغامرات عبدالرحمن صلاح الدين الذي يعرض نفسه للبيع ليكون عبداً. وكأن الكاتبة ترمز بذلك إلى وضع الشعوب العربية، إذ نجدها تقول بكثير من المرارة: «يعرف عبدالرحمن أنه حر، ولكنه عربي على رغم ذلك. إن أحداً لا يريد أن يكون عربياً - العروبة قديمة ومأسوية وغامضة ومتوحدة جداً، ومدعاة لكثير من السخط، لا يستطيع إلا العربي الحقيقي أن يتحملها طويلاً. إنها، في الأساس، مشكلة صورة. اسأل إيرانياً أو لبنانياً أو مصرياً – لا يريد أحد منهم أن يكون عربياً». (ص54). وتتضح لنا الصلة بين هذه المغامرات الغرائبية وأحداث الرواية حين نصل إلى آخرها فنراها ترمز إلى اختفاء حنيف من العراق مراراً كما اختفى عبدالرحمن صلاح الدين مراراً، وكما يعود عبدالرحمن إلى الظهور مراراً كذلك يعود حنيف إلى العراق ليسجن، وكما نجح عبدالرحمن في النهاية في تحقيق حلمه بأن يصبح ممثلاً ماهراً، ينجح حنيف في الفرار من مخالب صدام حسين ليعود إلى حبيبته. ولعل استيحاء قصص «ألف ليلة وليلة» كان من الوسائل التي رأت الكاتبة أنها تساعد أيضاً على إضفاء مناخ عربي على روايتها، تماماً مثل أشعار ادونيس وعبدالوهاب البياتي وغيرهما التي توردها الرواية. ومثل استخدام أبطال الرواية الكثير من الألفاظ والتعابير العربية. مثلاً، ليغري حنيف سرين بأكل لقمة أخرى يقول لها بالعربية «من ايدي» (ص80).
وفي الرواية، بعد، كثير من التشويق. تكتشف سرين سراً رسالـــــة أرسلتها امرأة عراقية إلى حنيف، فتتساءل: من هذه المرأة؟ هل لحنــــيف زوجة أخرى في العراق يخفـــي وجودها؟ وحين يرى ناثان الشال الذي أهداه حنيف لسرين قائــــلاً إنه شال والدته، يصعق ناثـــان ويغادر الغرفة بسرعة. ويتساءل القارئ: لماذا؟ ما قصة هذا الشال؟ ويختفي الشال، وحين يكتشف حنيف اختفاءه يغضب ويوبخ سرين نادماً على فقدها هذا الشال العزيز على قلبه. هذه وغيرها أسئلة لا نكتشف الجواب عنها إلا في آخر الرواية.
ولا أستطيع إلا أن أنــــوّه بشجـــاعة ديانا أبو جابر في تناول روايتها موضوعاً مغيباً في الولايات المتحدة ويكاد يكون محرماً، موضوع الدفاع عن العرب وحضارتهم وثقافتهم ومأساتهم، وموضوع مهاجمة سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
منقول من البوابة
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟