نساء في ليالي الحلمية

نساء في ليالي الحلمية

ليالي الحلمية من أكبر وأهم المسلسلات التي أنتجتها الدّراما المصرية على مرّ تاريخها الطّويل ، والكبير والحافل بالإبداع الدّرامي المتميز من حيث السّيناريو والإخراج والتّمثيل والذي هو عصب وعماد نجاح الدّراما ؛ فبدون ممثل قادر يقوم بترجمة أفكار المؤلف ، وبدون مخرج ذي خيال خصب ومقتدر يقوم بإخراج الشخّصيات من أوراق السيناريست إلى شاشة المتلقي فلن يصنع السيناريو عملا عظيما...
فهذا المسلسل الذي كتبه الرّاحل (أسامة أنور عكاشة) وأخرجه الرّاحل (إسماعيل عبد الحافظ) والذي بُدِءَ بإنتاج جزئه الأوّل في العام 1987، وانتهى إنتاج الجزء الخامس في العام 1995 والذي غطّى حقبة واسعة من تاريخ مصر الحديث ؛ حيث دارت أحداثه الرّئيسية في حي الحلمية الذي كان حيّا يسكنه الباشوات والوجهاء ثم صار حيّا شعبيا فيما بعد قد مثّل المرأة المصرية بكل انفعالاتها وهواجسها ومشاعرها وصّور أحزانها وآمالها وتطلعاها وبدقة كبيرة حتى باتت وكأنّ كل شخصية لا تكتمل إلا بوجود الشّخصية الأخرى وربما المتناقضة معها لكن في تناغم دقيق وذكي من المؤلف ومن الممثلات اللاتي تنافسن في تقديم أقصى إمكانياتهن الإبداعية ..
وسأقدم هنا استعراضا سريعا لأبرز الشّخصيات النّسائية في هذا المسلسل وساقتصر على اللاتي لعبن دورا فعّالا في سير الأحداث على مدى الأجزاء الخمسة :

أنيسة هانم : التي أدّت دورها (فردوس عبد الحميد) في الجزء الأوّل ، ثم (محسنة توفيق) في الأجزاء المتبقية . لقد مثّلتْ هذه الشّخصية طيبة وعطاء أرض مصر العروبة ، كانت امرأة صابرة متفانية بحبّ زوجها ووالدها ، وابن أختها علي ( ابن علية ) التي ماتت أثناء الولادة حسرة وكمدا كما كانت تؤكد أنيسة ؛ فعلية كانت سلبية ومستسلمة ؛ لقد استسلمت لإرادة زوجها "سليم البدري" في أن يبقى زواجهما سرّا غير معلن .. الأمر الذي كان يثير حفيظة أختها أنيسة كلما جاءت علية تشتكي من واقع زواجها من سليم البدري ؛ فأنيسة كانت شامخة دائما قوية حتى آخر المطاف ، لم تهزّها نوائب وفاة زوجها ( توفيق البدري) ولا هرب ( توفيق الصّغير) ابن ضرتها التي ماتت إثناء ولادته فتلقفته أنيسة وربته كأنّه ابن لها ؛ لكنه حين كبر انخرط في صفوف جماعة إسلامية متشددة ، زرعت في قلبه الكره لمجتمعه وأولهم أنيسة فقام بطردها من البيت الذي عاشت به مع زوجها كل عمرها ، وعندما لمس المنزلق الذي رمى به نفسه وعاد بعد أعوام من إفغانستان وجد حضنها وحنانها بانتظاره ؛ وهذه حالة تستلزم الوقوف عندها ؛ فقد أظهرت معدنها الأصيل فكانت كالوطن الذي ينتظر عودة المهاجر إليه ، فالمؤلف لم ينساق وراء المقولة الرّوسية بأن ّ ( زوجة الأب أسوأ شيء في الدّنيا) ، بل أكدّ أنه ليس من موروثنا المجتمعي أن تمارس المرأة العربية دورا يشبه الدورالذي قامت به زوجة الأب في قصة سندريلا أو في قصة سنو وايت ولاتلك التي ظهرت في حكاية البجعات المتوحشات ...
أنيسة كانت أرض مصر النّاطقة

سماسم : ربما كانت سماسم العالمة أكثر الشّخصيات التي تعاطفت معها في المسلسل ومع مظلوميتها؛فقد اضطرتها الظّروف أن تسلك " درب العوالم" في صباها وبداية شبابها ، لكنها تركت هذا الدّرب عندما تزوجت بـمعلم الحلمية زينهم السّماحي بل وفتحت بيتها لأكثر من طفل ؛ فقامت بتربية فاتن ابنة ( الرّاقصة حمدية) وزهرة التي رفضتها أمها نازك السلحدار بسبب كرهها لأبيها سليمان غانم الذي تزوجته نكاية بزوجها الأول (سليم البدري) وناجي ابن الشّهيد طه السّماحي إضافة لابنتها قمر ، ورغم أنهم جميعا كبروا يعانون من الفشل العاطفي لكنهم تخرجوا بامتياز في ميدان الحياة وحققوا نجاحات مبهرة ، الا إن هذا الأمر لم يشفع لها فقد ظل المجتمع والمقربون ينظرون لها بأنّها " عالمة " رغم حجّها لبيت الله ، ورغم أنّها وقفت في الشّدة والرّخاء مع كل أهل الحلمية ، ولقنت بنت الذّوات " نازك السلحدار" درسا في الجدعنة . بظني هذا الدّور هو أفضل دور قامت بتأديته سهير المرشدي .. فكانت أرض مصرية أخرى ..

وصيفة : شخصية محببة في منتهى الطّيبة والحنان والصّبر ، هي الأخرى تشبه الأرض المصرية في عطائها وبحثها عن حلول للمشاكل ولو على حساب نفسها ، لقد صبرت على استشهاد ابنها تمّام وزغردت يوم استشهاده ، وصبرت على حماقات زوجها ( سليمان غانم )وإهماله لها ، بل ووصفها بأنّها "لا تمتّ لصنف الحريم بصلة" ... هذا من وجهة نظره فهي الأرض الحنون فقد ربّت زهرة ( ابنة زوجها من نازك السلحدار ) وهي رضيعة - قبل أن تربيها سماسم - ثم عادت واحتضنتها عندما كبرت فيما بعد ، ورغم تقادم العمر بها فقد قامت لفترة من الزمن بتربية " مجدي " ابن زوجها من خادمتها السّابقة فتحية ( عايدة رياض ) والتي تزوجها سليمان غانم سرّا... هذا الدّور قامت به أنعام سالوسة ..

نجاة هانم : هنا مصر المقاومة وملهمة الثّوار ومنجبتهم ، وإن أصابها اختلال في مسيرتها الوطنية حينا من الدّهر ، لكنها مالبثت أن تماسكت لتضيء مشعل الرّفض للظّلم والفساد مجددا ، أدّت هذا الدّور المهم دلال عبد العزيز في الجزئين الأولين ثم اكملته زيزي مصطفى.

نازك السّلحدار : السّيدة الارستقراطية وذات الجذور التركية قوية الإرادة ، عاتية جدا، لكنها تخفي بحار الحب بداخلها لزوجها الأول سليم البدري الذي كان فقدانها لحبه هو غلطة عمرها ، تبدو كأن لها مخالب َ وفي حقيقتها لا تحمل غير الضّعف في داخلها ، حين خسرت ثروتها وجدت أنّه ليس لها إلا أبنائها، ورغم نقاطها السّلبية الكثيرة لكنها كانت سيّدة راقية مصون تعرف كيف تخطط وكيف تحقق ذاتها وتحافظ على شبابها متجددا ، وراق لي كثيرا هذه الشّخصية كما راق لي الأداء الكبير الذي أدّته صفية العمري ..

كوكب