تروي لنا كتب التاريخ القديم أن أول من دخل الشام من العرب سليح وهو من غسان، ويقال: من قضاعة، فدانت بالنصرانية وملك عليها ملك الروم رجلاً منهم يقال له: النعمان بن عمرو بن مالك، ثم ملك بعده ابنه مالك، ثم ابنه عمرو، ثم عمرو،ولم يملك غير هؤلاء الثلاثة.
فلما خرج عمرو بن عامر مزيقياء من اليمن في ولده وقاربته ومن تبعه من الأزد، أتوا بلاد عك وملكهم سلمقة وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتاد لهم المنازل ويرجعوا إليهم، فأدنوا لهم، فوجه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده الحرث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو ووجه غيرهم رواداً، فمات عمرو بن عامر بأرض عك قبل أن يرجع إليه ولده ورواده، واستخلف ابنه ثعلبة بن عمرو، وأن رجلاً من الأزد يقال له: جذع بن سنان احتال في قتل سلمقة، ووقعت الحرب بينهم فقتلت عك أبرح، وخرجوا هاربين،فعظم ذلك على ثعلبة بن عمرو فحلف أن لا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى مكة، وأهلها يومئذ جرهم وهم ولاة البيت، فنزلوا بطن مر وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم جرهم فنصرت الأزد عليهم فأجلوهم عن مكة.
ووليت خزاعة البيت، فلم يزالوا ولاته، واشتدت شوكتهم وعظم سلطانهم حتى أحدثوا أحداثاً ونصبوا أصناماً، ثم صار قصي إلى مكة فحارب خزاعة بمن تبعه وأعانه قيصؤ عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع قريشاً وكانت في الأطراف والجوانب فسمي مجمعاً، وأقامت الأزد زماناً فلما رأوا ضيق العيش بمكة شخصواوانخزعت عنها خزاعة لولاية البيت، فصار بعضهم إلى السواد فملكوا بها منهم جذيمة بن مالك الأبرش ومن تبعه، وصار قوم إلى عمان، وصار قوم إلى الشام فهم آل جفنة ملوك الشام، وصارجذع بن سنان قاتل سلمقة إلى الشام أيضاً وبها سليح، فكتب ملك سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم فأذن له على شرط شرطها لهم، وأن عامل قيصر قدم عليهم ليجبيهم فطالبهم وفيهم جذع، فقال له جذع: خذ هذا السيف رهناً أن نعطيك. فقال له العامل: أجعله في كذا وكذا من أمك. فاستل جذع السيف فضرب به عنقه، فقال بعض القوم: خذ من جذع ما أعطاك، فذهبت مثلاً.
فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأعلمه، فوجه إليهم ألف رجل وجمع له جذع من الأزد من أطاعه فقاتلوهم فهزموا الروم وأخذوا سلاحهم وتقووابذلك ثم انتقلوا إلى يثرب، وأقام بنو جفنة بالشام وتنصروا ولما صار جذع إلى يثرب وبها اليهود حالفوهم وأقاموا بينهم على شروط، فلما نقضت اليهود الشروط أتوا تبعاً الآخر فشكوا إليه ذلك فسار نحو اليهود حتى قتل منهم، وخرجت طيء من بلاد اليمن بعد عمرو بن عامر بمدة يسيرة فنزلت الجبلين أجأ وسلمى وحالفتها بنو أسد .
فأول: من ملك الشام من آل جفنة الحرث بن عمرو محرق، وقد اختلف النساب فيما بعد عمرو من نسبه، وسمي محرقاً لأنه من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون آل محرق وهو الحرث الأكبر ويكنى أباشمر.