يبدو نائما هذا المصباح المثبت في سقف الغرفة، و عنكبوت نشيط يشيد مصيدة لذبابة مزعجة، و يدعي أنه مشروع بيت. أتوجه بخطى متكاسلة نحو زر المصباح لإيقاظه، يتنهد و يرتعش، يستيقظ كسولا و خاملا، لا يلبث حتى يعود لهيئته الأولى، نائما بسرعة جراء انقطاع الكهرباء.
أفتش في الظلام عن شمعة ، أدخرها لمثل هذه المواقف، أثبتها بصعوبة بالغة على المكتب ، بعد ما أحرقت ذيلها. باردة و جامدة. أغريها بالنار التي كانت تحرقها. تشتعل حبا مثل امرأة تنتظرني. تلتهب النار في قلبها ، و ترسل حبها ليضيء أرجاء الغرفة، تنير دون أن تلعن العتمة، تبكي فقط ، و تشتعل حبا ؛ للحظة مجالسة كتاب أو ورقة. أشبع غريزتها، و أمنحها قبلة على شفاه سيجارة أرهقها الانتظار.
تحسست المكتب في ظل النور الخافت، الذي يشبع غريزة الوحدة، باحثا عن أي كتاب أو ورقة؛ تمنحني رحلة مؤقتة ، خارج هذا الفضاء المسطح. هنا حيث كان والدي يجري دراساته و أبحاثه. لامست يدي مغلفا ملصقا في سقف المكتب من الداخل؛ لم أنتبه له قبلا، أنيق شكله ، و كتب على ظهره: إلى البوابة بني.
لم أستوعب الكلمات ، و رحت أستفسر ما جادت به فلسفتي: هل يستحثني على الموت ، و النوم بجانبه ؟
فتحت المغلف بعناية فائقة؛ هذه اللحظات التي اختليت فيها بنفسي تساعدني على الاسترخاء. بداخله رسالة مطوية؛ موجهة إلي :
-بني؛ عندما تصلك هذه الرسالة ، سأكون غير موجود بجانبك.
هذه الكلمات كافية لتفجر اللحظة، كفيلة بتحطيم المرايا التي تسكنني.
-لم يكن العبور سهلا، و لكنه كان مغريا؛ فعالم من الرقميات ، أجبرني على التواجد بداخله، صافٍ و نقي؛ الزمن بداخله ينحني ، و يصبح لينا بحيث يتضاءل ، ويكاد يتلاشى . إن أردت ملاحقتي ؛ فستجدني عند البوابة. خذ خوذة الأعصاب التي صنعتها ، و أربطها بجهاز التعقب الرقمي، ثم ثبت برنامج البوابة الرقمية في جهازك ، و تتبع تعليمات البرنامج ..و سأعرف لحظة دخولك لهذا العالم؛ لأكون بانتظارك .. أحبك.
أبي ما زال حيا ، كنا نظنه اغتيل من طرف شركة معلوماتية ؛ كانت تريد سرقة عمله.
عالم رقمي ..و لكن كيف؟
لم أنتظر ، و بدأت أجهز للمغادرة نحوه، أحضرت كل ما أوصاني به، و قبعت مكاني ؛أنتظر عودة الكهرباء. و لكن ما الذي سيحدث لو انقطعت؟ لا يهم بقدر ما هومهم ، أن أكون بجانبه من جديد .. ثم لماذا لم يعد؟.
أسئلة كثيرة تقاسمتني ، هي و الحنين إليه في ليلة طويلة. كانت العاصفة بالخارج تعوي ، و تتوعدني. دلف الثلج ، تراقص الريح ؛ مثلما يدغدغني الشوق لحضن أفتقده منذ مدة. الريح يعزف لحنا حزينا ، على أوتار شجرة التفاح ، الصامدة بهدوء في فناء البيت . يتكدس الثلج على شرفة النافذة ببطء ، و يغدو زجاجها يشبه الشمعة ؛ و كأنه يغازلها.
شيئا فشيئا .. بدأت أسلم نفسي لسيد الظلام ؛ لأذهب في نوم عميق.
استيقظت على صراخ الأطفال في الحي. ضوء خفيف يداعب جدران الغرفة. تحاملت على نفسي ؛ لأصل إلى النافذة . تراشق بكرات الثلج، و تماثيل رجل الثلج تزين الشارع الضيق.شيخ يدفع قارورة غاز برجله المنهكة. تتراكم طبقة ثلجية عليها،و يتزايد سمكها؛ معيقة تدحرج القارورة. يهرع شاب ملتحفا رداءا سميكا، منتفخا ليساعده. يسأله:
-هل عادت الكهرباء بني؟
نعم.. الكهرباء. بسرعة أهرع للتأكد منها.ها هو المصباح يغني: نور يا عيني نور.
مستعدا للانطلاق ، و مرتديا خوذة الأعصاب ، كنت أتتبع الخطوات التي تظهر على شاشة الجهاز ، إلى أن وصلت للنافذة الأخيرة: الدخول إلى الكون الرقمي.
نقرت على أيقونة الولوج . و إذ بصعقة كهربائية تداهمني ، و تسري في سائر جسدي. نفق طويل يشبه دوامة كهربائية. كنت أعبر بسرعة عالية، أحس بدوار حتى أغمي علي.
استيقظت داخل زنزانة مظلمة ، على نافذتها عمودان رقيقان ليزران ، يومضان بنور أزرق، و على الباب أعمدة متراصة ؛ لا تسمح بمرور حتى أرنب. توجهت نحو البوابة لأخرج ، أسمع صوتا مبحوحا ينبهني: سيقطعك ، إنه ذو توتر عال.
التفت ناحية الصوت ؛ أجد عجوزا يستند للجدار ، و يحدق بسقف الزنزانة بعينين ذابلتين.. يبرق من خلالهما يأس و حزن. تأملني ، و هو يهم بالوقوف، ينظر نحوي بدهشة تعلو وجهه ، و شفتاه تتسعان ببطء ؛ لترتسم بعدها ابتسامة .. قائلا بنوع من التعجب هتف :
-غير ممكن . أنت؟
احتضنني بقوة ، و هو يقبل جبيني.
-ياسين، بني.
هل يمكن أن يكون هذا والدي؟
كان من الصعب تجاهل تلك اللحظة ، بما حملت من حميمية ، اجتاحتني بمجرد ذكر اسمي.
-أبي .. كيف استطعت أن تبقى بعيدا عنا لمدة سنة كاملة ؟
ابتعد قليلا ، و هدأت ثورته العاطفية؛ ليستسلم لصمت غير معلن. واصلت أسئلتي عن سبب غيابه. إجاباته كانت صادمة ، قال لي:
-في آخر مرة ابتكرت برنامجا ، يساعدني على إعمار هذا العالم البكر. في البدايةكان مجتهدا و مفيدا، و لكن و بعد إنهائنا غالبية البناء ، تمرد ، و أظهر عداءه ،و قام بسجني هنا. ربما مرت على آخر مرة دخلت فيها عشرات السنين.
-أبي.. بالكاد مرت سنة!
-الزمن هنا يصبح منحنيا، فيتقلص ؛ لتصبح ساعة في العالم الحقيقي مساويةلعشرات الساعات. ثم دعنا من ذلك. كيف عرفت أنني هنا؟ و كيف دخلت؟
-رسالتك التي تركتها بالمكتب .
-أي رسالة ؟...نعم نعم .. الرسالة .
قطع حديثنا صوت جندي ، تقدم من الزنزانة ، صرخ بوجهي:
-هيا إلى سيد العالم.
-من؟
قال أبي: الـ .. البرنامج المتمرد.
صرخ بوجهي ، مرة أخرى ذاك الجندي مناديا: أيها المستخدم، هيا.
استقبلني بوجه مشدودة ملامحه، فيها الكثير من الغبطة و الكره ممتزجين على عينيه و شفتيه.
-و أخيرا أتيت .. الآن فقط أستطيع الخروج للعالم.
-ماذا تريد مني؟ و لما سجنتموني؟
أشار نحو جندي يبدو ذا رتبة رفيعة بين باقي الجنود:
-نستطيع الذهاب للبوابة الآن، أحضروا والده ، و الحقوني هناك.
اقتادني بضعة جنود نحو مركبة آلية عملاقة، ثم حلقوا بنا. كانت بادية على وجهه الغبطة . خلف المركبة أسطول من المراكب التي تشبه نوعا ما الطائرات. مع وصولنا للبوابة - عرفت ذلك من حديث الجنود الذين كانوا يتبادلون الحديث بينهم، و هم على أهبة الاستعداد التام- بدأت التعبئة العامة.
أخرجوني مكبلا من المركبة ، و أجلسوني قرب والدي، الذي قال لي:
-هو من أرسل لك الرسالة عن طريق النت؛ يستطيع فعل أمور كثيرة، و الآن يستعد لإخراج جيشه لاحتلال العالم.
-كيف يمكنه ذلك؟
-يستطيع عن طريق كل جهاز ، أن يخرج جنديا ؛ و لك أن تتصور عدد الأجهزة الموجودة بالعالم.
-هل سيصبح إنسانا مثلنا؟
-كل آلة فيها أجهزة إلكترونية؛ يمكنها أن تكون جسدا يستقبل جنديا، أي أن الآلات ستصبح جنسا آخر ، جنبا لجنب معنا، بل سيقوم بسحق البشرية و استعبادها،و لكن ذلك يتطلب منه أمرا واحدا ؛ و ستحققه له أنت.
-كيف؟
-سيعيدك للعالم، و سيطالبك أن تستقبله في جهازك.
-لن أقبل حتما.
-سيهددك بقتلي، و أنا أحذرك أن تنصاع له.
هنا تغيرت المعادلة . أصبحت تائها و حائرا. أبعد أن وجدت والدي ، أقع في اختبار مشابه لهذا؟
احترت عندها.. إن أنا قلبت بخروجه سيدمر العالم، و إن رفضت ؛ سأكون حكمت على أبي بالموت ، بعد غياب و شوق إليه .. أي اختبار وقعت به؟
مباشرة حملني الجنود ؛ لإعادتي للعالم الواقعي. في ثانية من الزمن كنت أمام جهازي، و على شاشته نافذة مكتوب عليها: هل أنت متأكد من إخراجه ..و في أسفلها أيقونتان : موافق على اليمين ، و إلى شمالها أرفض.
اتجهت نحو النافذة ، و استغرقت في التفكير ؛ لما سيؤول إليه الأمر في كلتا الحالتين، كلاهما مر، الحكم بالإعدام على والدي ، أو الحكم على العالم بالموت. يقطع تلك اللحظة صوت قادم من جهازي؛ إنه البريد الإلكتروني.فتحت البريد ؛ لأجد رسالة منه: أسرع والدك أو العالم.
فتحت مكتب والدي ، بحثا عن صورته ؛ لأستمتع بوجهه. قابلتني صورته ، و وجهه البراق الحزين . والدي المسكين الذي واجه الدنيا عاري الكفين، و قد كنت واحدا من ثمانية أولاد، كلهم لاقوا حتفهم، و ها هو الآخر تمعن الحياة في تعذيبه.
قبلت الصورة ، و طبعت على جبينه قبلة ، و وضعتها مقلوبة على المكتب، على ظهرها ألمح جملة واحدة مكونة من بضع كلمات:
للقضاء على البرنامج ؛ ضع فيروس –المدمر.
نعم، هو ذاك .. اتصلت بصديقي فارس القرصان ، و الذي كان صديقا لوالدي،أخبرته بإحضار الفيروس المدمر.
الآن بقى أمر واحد ؛ و هو كيف أعيده ، و أنقذه من قبضته. حضر فارس بسرعة، عند دخوله قال لي:
-ارتدي خوذتك ، و انطلق ، و أنا سأضع الفيروس ، و سأعمل على إعادتكما.
-ماذا تقصد؟
-لقد كنت أساعد والدك على صناعة أجهزته ، و قد استأمنني على الفيروس.
أعطاني هاتفه و قال لي:
-عندما يرن ، أمسك يده.
-من؟
-أيها الغبي .. أبوك من غيره ؟
وقعت أمامهم ، اتجهت نحو والدي بالركض، و ما أن اقتربت منه حتى رن الهاتف، مددت يدي لأمسكه ، و فتحت الهاتف، لأجدني عدت للواقع .. و لكن المفاجأة كانت قوية جدا.
-أنت؟
-لقد خرجت أخيرا.
-و لكن كيف؟
-أخيرا تحررت من تلك العلبة ، و خرجت ؛ لأتنفس هواء نقيا.
بدأت ملامح وجهه تتغير، اسودت .. بدأ بالسعال ؛ ليسقط ميتا.
قال لي فارس:
-أتعرف ما لم يحسب له؟
الإنسان خلق مع جهاز مناعة ؛ ليستطيع الحياة، و مقاومة كل البكتيريا الموجودة في الأرض . أما هذا البرنامج ؛ فهو مصمم للحياة داخل عالم، لا يوجد به تلك الكائنات الجد ضئيلة، و رغم صغرها ؛ أردته ميتا ، لأنه لم يصنع لمقاومتها.