أفقت في الربع الأخير من الليل ، حذّرتك زوجتك ، فالسماء توشك أن تمطر ، والظلام دامس ، ودربك بعيد ….. لاوقت للمناقشة … ستبزغ الشمس بعد قليل ، يجب أن تكون مع الفجر عند ( الموتور ) لتنهي ري الزرع ، صوتها أيقظ الأطفال ، تشبث صغيرهم بثوبك ، حملته بين ذراعيك ، قبّلته فعاد إلى فراشه مسروراً ، التقطت المسدس ، أخفيته في جيبك وخرجت بالعباءة ، تجاوزت القرية كانت نائمة ، ومصابيحها تحتضر ،حثثت الخطا لطيّ الأرض ، النسيم بارد يضرب وجهك بقسوة ، لم تأبه لذلك ، لمعان البرق المتقطع يكشف لك معالم الطريق ، رعد السماء تتالى قوياً ، انقلب النسيم إلى ريح غاضبة ، لم تهتم ، فقد اجتزت ثلث المسافة ، قطرات من المطر تتساقط كبيرة ، وباتت تتضاعف كل لحظة ، حميت رأسك بالعباءة ، اشتدّت الريح تكنس الأرض ، تقتلع صغار الحصى وخفيفها ، تصفر كأفعى هائجة ، تعطي المطر سرعة جنونية ، قطعت بضعة أمتار ، صار المطر زخّات غزيرة تتسابق لعناق الأرض ، لففت جسمك بالعباءة ، وتابعت ، ازدادت غزارة المطر ، انعجن تراب الطريق ، وشكّل سائلاً طينياً كثيفاً ، الحذاء بعناد يلتصق به ، فيزداد ثقله ، العباءة المرقعة حوصرت من كل الجهات ، فروها السميك امتصّ الماء بشراهة ، وتدلّت منها خيوط المطر كحليب أنثى أُبعد عنها وليدها ، غارت على ثيابك ، تقتحمها بعنف ، لم تمانع ثيابك ، فمنذ حولين ، وهي تجالد معك ، تباطأت حركتك ، البرودة تنهش لحمك ، تطحن عظامك ، حدثتك نفسك
بالرجوع : متى ترحل ظعون هذا السحاب ؟
متى تعقل هذه الريح ؟
ألا أرجع إلى فراشي الدافئ ، وأؤجل العمل إلى
الغد ؟!.
وبّختها: لايانفس (( خلف الفتري )) الزرع عطش ، وقد لايصله المطر .
العباءة صارت حملاً صخرياً ، الحذاء يجذبك إلى الأسفل ، المسدس يؤلم خاصرتك ، ثيابك إسفنجة هرمة ، تطبع جلدك ببرك وجداول ، الكون كله يرتعد ، الوقت يمضي على عجل خلعت العباءة ، أودعتها يدك ، توقفت ، والمطر ينهمر كفيض يمر بمنحدر : قلّما ينزل في مثل هذا الوقت وبهذه الغزارة ، وكثيراً ماخدعنا ، نبذر الأرض ، يغيب فترة تُميتها، أو ينزل في أوقات متباعدة دونما فائدة جلية …….
خلعت الحذاء ، حملته اليد الأخرى ، سرت ، خفّ احتكاك قدميك بالطين ، ظننت أنك تأخرت ، فأسرعت الخطا ، كدت تقع في أحد مستنقعات الدرب الصغيرة ، فتابعت بحذر ، صار البرد يدغدغ شعر جلدك ، فيقف مرتعشاً كحلم الفقير في اليقظة ، اخترق المطر عمامتك ، ودخل ثنايا الرأس بيسر ، وقفت لتحكم شدّها ، سقط (( العقال )) ، تركته لحظة ، ربطت العمامة ، انحنيت لتلتقطه ، جاست يدك المكان ، غاصت أصابعك في الطين ، لم تجده ، وسّعت مجال البحث ، لم تجده زفرت بحنق : هل بلعته الأرض ، أم خطفته السماء ؟!
وسّعت المجال أكثر ، سقط الحذاء من يدك ، أسرعت في التقاطه ، دفعه الطين إلى الأمام ، عرفت حينها ما حدث للعقال ، تقدمت خطوة ، وجدته يسبح في الطين ، أمسكته بفرح ، واعتدلت ، تفحّصت ثيابك ، الطين وصل إلى ركبتيك والقطرات النازلة حفرت فيه مئات السواقي : ماذا حدث لأطفالك وزوجك ؟ فسقف الغرفة الخشبي ، قد يخر للمطرساجداً ، وجدار الفخار قد يخشع متصدعاً ، والريح تدير النعجات بجهتها ، وتشردها بغيررجعة .
ماالعمل ؟ هل تعود ؟..
مطر .. مطر .. برد .. طين .. وزرع عطش.
. لا لن تعود .
تابعت في احتراس ، خف هطول المطر ، هدأت الريح ، وتوقف المطر .
عادت السماء وقورة ، نهدت أماكن من الدرب ، وجوفت أخرى ، وقد قاربت على وصول قرية المشلب ، ( الموتور ) يتربع على كتفها بجوار النهر ، ابتسمت لنفسك ، وشممت مسك الانتصار :كيف كنت تلتقي بـ ( زهرة ) في شبابك الدارس ؟! أقدامك تقطع مسافات طويلة ، أو تضع الجربة تحت إبطك ،وتعبر الفرات سباحة تراها ، فيزول تعبك ، ثم تعود قبل الفجر ، وكأنك لم تغادر حضن الدار .
عصرت العباءة برفق ، أسدلتها على كتفيك ، وأعدت الحذاء إلى قدميك ، قروحها تفتحت كدمامل تفجرت ، لم تعتد الإذعان لمثل تلك الصغائر ، فخطوت ، لاح لك جسد يتحرك ، رأيته لثوان ، وأضعته في الظلام ، بهرك ماحدث ، فكما تعرف لا لص في الديرة ! أجاء طيف من أوهامك ، أم شبح تسلل من أنقاض المقبرة ؟
تتبركن ، فكرت بتغيير الدرب ، ولكن ستتأخر ، تنوي مناداة أهالي المشلب ، تحذرهم منه ، فقد يدخل بيوتهم ، يرعب أطفالهم ، لالن يصدقوك ، سيقولون خلف الفتري جبان ، فهم لم يسمعوا بظهور الأشباح ، منذ انتقال المقبرة إلى تل(البيعة )
ولم يبق سوى مقام (( أويس القرني )) ومن اللامعقول أن يكون مسكوناً بالأشباح .
إذاً هو لص ، ولكن اللص ليس بهذا الحجم ، وكأن الصمت نفخ جلده ، أو سيجه بسور خرافي ، ولم تعرف لماذا انتابك الخوف من المستقبل ! أيحمل مصائب تنبئ بها طلعة الشبح كما تعتقد القرية ؟ أم لأمر آخر ؟..
أحسست بعلاقة عضوية تربط الشبح بهذا الظلام ، والأرض الموحلة ، ستحلها بنفسك ، فأنت تغار على المنطقة من شروق الشمس ، ولكن هل هو لص أم شبح ؟ لايهم ، فكلاهما عدو للخير ، وستعمل بما يمليه عليك كرهك للشر .
هواجس وسوست لنفسك ، اقتلعت متاريسها ، صهرت مخلفاتها درباً ، فانتظرت ظهوره ثانية ، وكان الليل ساكناً تفوح في أرجائه رائحة الرطوبة ، والوقت توقف عن دورته الأزلية عندك ، والعتمة ستار يحجبك عن العيون ، نظرت إلى المسدس ، هذا المدلل سيخلصك من الشبح ، ولكن هل الأشباح تموت ؟ يقال إنها تختفي حالما تشعر بالخطر ، أو تتقمص هيئة كائن أليف ، ولماذا لاأكلمه ، ناديت : قف ……قف. مامن مجيب .
سأكررها له عدة مرات ، وإن لم يقف ؟’ لا فالشبح لن يقف ، واللص مسلح ، وقد يلاحظني فيؤذيني ، وربما كان الموت نصيبي ، عليه اللعنة ، ستكون المبادرة بيدي ، سيكون لي طعماً سهلاً ، وتملأ فمك المرارة ، فتقرر ضرورة موته . ومع الريح المضطربة خطر لك وجه إجرامي ساخر ، يحدثك بلسان مكتنز كعربيد جذل يلتف حول طريدة : ماذا لو عرف الشبح هذا القرار ؟!
ويحتويك الخوف احتواء القدر للذبيحة ، توشك أن تتراجع : لا فالأشباح واللصوص لاتعلم الغيب .
تنسى برودة جسمك ، تتوهج منارات الشجاعة ، تراقب حتى دويدات الأرض المسالمة ، خشية ظهور الشبح بزي مغاير ، وتجثو خلف صخرة ، ترخي عليها العباءة ، تختار زاوية أمينة : مرحباً بك أيها الشبح .
وبدا الليل أكثر أنساً رغم وجومه .
ارتكزت قدماك في دفائن الأرض ، فتمسك المسدس بكلتا يديك تشعر بقدوم خيول بفرسانها تساندك ، وقع حوافرها الرتيب يبعد الأحجار عن طريقك ، صهيلها يجتاح أطرافك يتوغل في دمك ، يفور الدم ، ويلفظ المسدس مع طلقته حقداً متجمراً تخترق الرصاصة جسد الشبح ، يميل بانتفاضة صاعقة كصفصافة قطعت جذورها ، وارتمت تحت أقدام النهر ذابلة ، دار الجسد دورتين والثالثة أودعته الأرض : من قال إن الأشباح لاتموت ؟
تتوقف الخيول عن العدو منهكة ، ويمسي السكون ندياً : لو كنت حية يا أمي ، لرأيت كيف تموت الأشباح التي تهبينها ألف عمرٍ ، وألف حيلة في حكاياتك ، وأنتم ياأهالي القرية ، سترون الشبح كومة مهشّمة ، وترحل عنكم (البلاوي ) المتوقعة ،سأكبر في عيونكم ، فخلف الفتري لا يتراجع ولو وقفت جموع الجان ضده ، وطبعاً دون غرور ، وهل أنسى الخبزوالملح ، والعشرة الطويلة ؟!
وداهمك طيف هزك بعنف : أيها الآدمي ، افترض نهوض الشبح ثانية ؟
أعادك إلى المسدس من جديد : نعم فرصاصة واحدة لاتكفي شبحاً بمثل خبثه ، فقد يكون جناً بسبع أرواح ….
وتصوّب نحو الكتلة الهامدة ، رصاصتين ، ثلاثاً حتى انتهت حشوة المخزن ، فتُلبس المسدس ثوبه الجلدي ، تدسه في جيبك ، وتمشي الهوينى باختيال ، وملايين السحب تباركك : ماذا لو ظهر للشبحأتباع ، وعلموا بالواقعة ، ألا يرمون القرية بالوباء ؟
ستبلّغ أقرب بيت ، وتغير مشيتك إلى ركض متسارع ، كدت تقع مرات كثيرة في الطين ، وكأن الجرذان حفرت لك في بساطه فخاً ، وأصوات الطلقات طاخ ط .. ا..خ ، تزحف أمامك لتدخل البيوت دون إذن ، ولتوقظ النيام دون عذر ، ولتجعل نباح الكلاب ، يرتفع منذراً بالخطر ، لبس الرجال أحذيتهم على عجل ، تقلدوا أسلحتهم ، شكّلوا ثلة للاستطلاع ، وقبل أن تتحرك الثلة باشرتهم بالخبر ، فهرعوا إلى مكان الحادث ليروا هل هو لص ، أم شبح . ؟
تشرّبت القرية الخبر بلهفة ، فأرجعت النساء أطفالها إلى الفراش ، فقد أفاقوا مذعورين ، تظاهرن بالنوم أمامهم ليناموا وبتن على الوسائد يتساءلن : هل هو لص ، أم شبح ؟! ورسمن صوراً مختلفة للشبح ، وكيف سيجدنه في الصباح قتيلاً ، فطالما سمعنا عن الأشباح أساطير مخيفة بأحداث خارقة ، أما أن تقتل وبيد إنسان فهذا فوق تصوراتهن .
وقبل وصول الكتلة ، ساد صمت جنائزي ، بعث في داخلك سؤالاً : أخشى أن يكون من أبناء القرية ؟.
يغسل بردك ، يجعلك تتخيل ذلك ، وقول الجماعة لك : إنه فلان !.
وتطوق الجثة بالفوانيس ، تأتيك الكلمات كلدغات عقارب ، تصلبك في مكانك ، تحس أطرافك برودة الموت ، وترد مساماتك المثلجة :ياإلهي رحمتك ، الظلام والريح أعمت بصيرتي .
يسري في أوصالك دبيب الاختناق ، يسعفك " عباوي " يقتادك بعيداً عن الثلة ، فاغر الفم ، مرهق الذهن ، متعب الجسد ، لتصبح أمام أشخاص ينظرون إليك بشفقة …. بحقد … بغبطة .. وشهود جمعوا مافي حوزتهم من الأقاويل ، وقاض عابس الوجه ، جهوري الصوت يملك عينين حادتين ، يلف بهما القاعة بتوقد ، تسمعه حكاية الشبح ، وتختم قولك : ياليتني غرقت في الفرات ، وما تسرّعت .
يحاول وأد ضحكة أفلتت منه ، ولا يصدق مارويته ، يجف حلقك ، تتقلص الكلمات فيه ، يلتهب جوفك عطشاً ، وتمسي في نظر نفسك قطاةً جريحة في فج صحراوي ، تقدمها أيادٍ سحرية إلى نسور جارحة ، جفاف يشمس لسانك ، يخرسك ، فلم تطلب جرعة ماء ، بل كابرت حتى خيّل للناظر إليك أنك متفرج في المحكمة ، في حين كانت زوجتك تنتظر رجوعك مع الضحى ، فالحليب تخثّر ، ونضج الخبز الأسمر ، والقرية تحلم بأشياء أخرى.
يهزك تقدم أقواهم مرتجفاً حذراً ، العصا في يمينه ، والفانوس في يساره ، يرتجف هو الآخر من هبوب الريح أعادك إلى دنياك ، ارتجفت ، يغمر المكان بالنور ، يصيح : لادليل على وجود شيء ؟!
ينتشلك من بركة وحل لالون له : خذ فوارغ رصاصاتك ، يلهو بها أطفالك .
وكاد يضحك بطلاقة ، يتبخّر الفزع تماماً ، مع تبخره ، يتقد سؤال : أأوهامنا تخلق الأشباح ؟! لم تجبك الثلة ، كانت مشغولة بالسؤال نفسه