منذ طفولتي وأنا لا أعرف العيش بين بين ، أما الوثوب الى الأعلى أو البقاء ساكنا في ذات المكان ... ومنذ طفولتي أيضا وأنا لا أحب البقاء بين الحب واللاّحب، أو بين أن أكون أو لا أكون ... ولهذا فقد كانت الغربة بالنسبة لي شيئا صادما ومعذبا حدّ الأرق .
في البدء ... حين غادرت بغداد ... وأنا أحزم أمتعتي ، مصطحبا عائلتي ، كنت أتلفت ذات اليمين وذات الشمال ... أتطلّع بأسى بالغ لكل ركن من أركان البيت الذي بنيته حجرا حجرا وطابوقة طابوقة ، ولا أدري لماذا عادت بي الذاكرة الى تلك الأيام التي كنت أستيقظ فيها عند الساعة الرابعة صباحا كي أذهب الى معامل الطابوق بعد الكمالية ، لأعود ومعي ( عشرون ألف من الطابوق الجمهوري ) تحديدا لبناء ذلك البيت الذي كنّا نحلم بالعيش به ، ولكم أتعبت ( أسطة ) البناء آنذاك في الطلب اليه أن يفرط في رش المزيد من دواء الأرضة الذي كان غاليا
وقتذاك ... وكم غاليت أيضا في وضع المزيد من ( شيش ) الحديد في الأساس كي
يكون أكثر قوة ومتانة .
غادرت البيت دون وداع ... تاركا فيه ذكريات لا تنسى .
وقبل أن أضع قدمي على عتبته الخارجية ، تناهى الى سمعي صوت ولدي حيدر
- بابا وينك ؟
- نعم باباتي
هذه جريدة الجمهورية فيها قصيدة لك وجدتها ملقاة على أرض الغرفة -
- أوه هذا عدد قديم أيّام كان الأستاذ سعد البزّاز رئيسا لتحرير الجريدة
- نعم بابا كان عمو سعد يحبك كثيرا ، وينشر قصائدك بعناية .
أغمضت عيني على دمعة حبستها بعناء شديد ... بينما كان صوت سائق ( الجمسي ) يلعلع :
- وينك ياعمو حيدر هسه وكت قصيدة .
خرجنا من البيت فجرا وعيوننا تتطلع اليه ... هكذا خلسة ودون أن يعرف بنا أحد من الجيران ، وكأننا قد اقترفنا جرما ... وليس هنالك من يصدق أنني ولأول مرة في حياتي أسمع وأرى بيتا يبكي ، اذ رأيناه ونحن ننظر اليه من الخارج كابيا منطفئا وحزينا .
بلى ياصديقي الفنان ( عاصي الحلاني ) ، وأرجوك أن لاتتعجب من قولي ، واذا كنت قد رأيت الباب ( عم يبكي ) ، فقد رأيت بيتي يبكي بكل مافيه ، أبوابه ، شبابيكه ، جدرانه كلّها تبكي .
غادرنا البيت ، ونحن نحبس داخل صدورنا حسرات تقطّعت لها نياط قلوبنا ، قلت مع نفسي : كم هو مؤلم ومخجل أن يغادر المرء دون أن يودع جيرانه وأقرباءه ، وكم هو أقسى عليه أن يترك أصدقاء العمر ومحبيه دون وداع ؟ .
وهكذا وجدنا أنفسنا نحتشد جميعا في ساعات الفجر الأولى في سيارة ( الجمسي ) ومعنا ما استطعنا حمله من أ متعة السفر ، وعند لحظة انطلاقنا صحت : اللهمّ صل وسلم على محمد وآل محمد ، فردد معي أولادي وزوجتي والسائق الدعاء نفسه ، ثم فتح السائق جهاز التسجيل ليسمعنا دعاء السفر .
بعد زمن لم نحسبهه كنا قد قطعنا شوطا لابأس به من الطريق ، حيث عبرنا ( الفلوجة ) ، أحسست أن يدا دافئة تمسح عن خدي الدموع ، انها يد زوجتي ، قالت : مابك... هل تبكي ياعادل ؟ المطلوب منك أن تكون قويا ،وأن نستمد نحن منك الصبر ،أنت أبونا وأنت الكبير ، قلت وأناأ نشج كالطفل : بل أنا الآن أصغر حتى من أطفالي ، لو تعرفين ياحبيبتي أنني أحسّ الآن بأن عجلات السيارة كلّما سارت مسافة فانها تكون قد مشت على طول جسدي قالت : الله هو المعين وحسبي الله ونعم الوكيل على كل من كان السبب في خروجنا ، قلت حسبي الله ونعم الوكيل .
وضعت رأسي على كتفها ، نعم على كتف امرأة كنت غالبا ما أغضب منها أو أنزعج لسبب أو لآخر ، وها أنذا الآن أحتاج اليها ، وأضع رأسي على كتفها كالطفل تماما ، وهاهي ذي تشاطرني الهمّ والغم .. قلت لها بهمس يختلط فيه الحزن : مانوع هذا الشامبو الذي يفوح من شعرك ؟ ... قالت : ( صن سلك ) هل نسيته يا عادل ... أنت الذي اشتريته لي قبل أيام ... قلت بلى تذكرت .
غفوت بعضا من الوقت على كتفها .... واستيقظت على صوتها بعد وقت لاأعرف كم كان طوله : عادل عادل مابك ... مالذي تقوله ؟
عدّلت من جلستي ، وأبعدت رأسي قليلا عنها ، قلت : أتعرفين ماذا رأيت خلال غفوتي القصيرة ؟ قالت وهي تتصنّع الابتسامة : ماذا رأيت ؟ قلت لقد رأيت نفسي وكأنني في احدى قاعات بغداد الكبيرة ألقي قصيدة أمام جمهور غفير ، وكان الجمهور يبكي ... قالت : ومانوع القصيدة ؟ قلت : ما زلت أتذكر قسما منها اسمعي :
أقول والنار تسري في شعاب دمي
وا حسرتاه على بغداد وا ألمي
وا لوعتي من سكاكين تمزقهـــــــا
كي لايرى من عراها أي مرتسم
ووا دماء العراقيين كم هرقـــــــت
على أديم الأسى والنار والعــــدم
ووا بكائي ووا حزني على بـــلد
كان اسمه عندما أتلوه ملء فمي
**********
لم أكن أعرف أن عيني زوجتي كانتا تفيضان بالدموع الاّ عندما أحسست بحرارة تلك الدموع وهي تبلل جزءا من قميصي حيث تبلل كتفي القريب منها ، مما أثار حفيظة السائق فالتفت الى الوراء قائلا :
( ها أم حيدر اشتغلت ، مو واعدتينا ما تبجين ) بالطريق ؟
بعدها ران صمت رهيب مشوب بالحزن والترقب والأسى... قال السائق : عمي أبو حيدر قال الله تعالى : (قل لن يصيبنا الاّ ماكتب الله لنا ) .
قلت : ونعم بالله
بعد ساعات طويلة مضنية ... كنّا نجترّ فيها الآلام ، ونتنفس أحزانها ، رأينا فيها أنفسنا نذهب باتجاه عالم نجهله ، ولكننا نعرف أنه الملاذ الوحيد ، لاحت من بعيد معالم الوليد الحدودي ، وعند وصولنا أجرى شرطة الحدودالعراقية واجباتهم ،بعدها أحسست عندما ودعنا حدودنا متجهين صوب الحدود السورية أننا نودع العراق الحبيب لأجل غير معلوم