مادونا أو الوجه المظلم للمدينة، تتنزه بغير وجهة تريدها، تبحث عن أشياء كثيرة لا تعرفها، هي تدرك أنها سقطت منها ذات غفلة منها، ذات سعادة خادعة تحولت بسرعة لحقل أحزان شائكة، الأيام عندها واحدة و الساعات هي مجرد شموع تحترق بسرعة مبالغ فيها..
تتسكع في الأزقة، تتجول بخطوات أرهقها الزمن، أحيانا تستقل الباصات للتنقل نحو أية جهة ممكنة، و كثيرا ما كانت تثور في وجه المارة بالشتائم بمجرد أن يمازحها بعض الذين يحبون أن يضيفوا لحياة المرهقين؛ جرعة من البؤس، فلو كانت رجلا لكان الناس يتحاشون مواجهته مثل "سيطوف"، فقد كانت المدينة تعيش رعبا بمجرد أن يمر في أي زقاق من أزقتها التي صممت لتختنق فيها الأرواح، يهرول بخطوات واسعة و يساعده في ذلك طول قامته، يتوقف فجأة و كأنه أنهى مرحلة معينة، ثم ينحني نحو رجليه و هو يمرر يديه بين ساقيه و كأنه يمرر الجنون نحو يد أخرى، و ربما هو يقلب الحزن نحو جهة مغايرة، و أحيانا تدوي صفعته في وجه أي فرسية قريبة منه..
مادونا هي جرح الأنثى الأبدي، يسكن في المدينة منذ ولادة البشر، هي موعد الخيانة التي تحملت وحدها تبعيتها، تقترب بسرعة نحو الموت، كيف يكون وجه المدينة بدونها، حتما سنجد وسيلة؛ لنصنع مادونا أخرى، و لكننا سنصممها هذه المرة مثل آلة تلبي رغباتنا فقط، و ستكون سعيدة جدا، لكي لا نتحمل الذنب يوميا..
كانت تجلس على المقاعد الخلفية للباص، و عيناها تنظران نحو شيء لا نراه، و كأنها كانت غارقة في ركام أحلامها، تراقب بحزن قاتل النوافذ، و هي تسأل نفسها، لماذا لا يكون لي نافذة أطل منها على الحياة بسعادة؟ أمن الصعب أن أنتظر رجلا كل مساء؟ و هو قادم بعين متشوقة لضمي؟ كيف يمكن لرجل واحد أن يدمرني؟ و كيف يمكنه أن يدمر قبيلة من النساء؟ و كيف أعجز عن إزعاج رجل واحد؟
نزلت دمعة حاولت إجهاضها بسرعة مثلما أجهض حلمها، هي لا تريد البكاء، لأنه يسحبها نحو باطن الأرض، جاهدت بقوة كي لا تنزل الدموع، و لكن النساء صنعت من ماء مالح، تنفجر الدموع، هذه المرة لم تمنع خروجها و كأنها أرادت أن تتخلص منها دفعة واحدة..
الدمعة الأولى كانت مذلة مثل العار الأول، و الباقية كانت جميعها تتحدث عما قابلها به هذا المجتمع؛ الذي يدعي الإنسانية دون وجه حق.
مرة كانت تمشي في السوق و بطنها منتفخ، حاول أحد الحمقى أن يسخر منها و بذلك يحقق متعة الشهرة بين أصدقائه:
-ابن من هذا؟
-إسأل أختك، قد يكون ابنها يصرخ الآن من أبي؟...
اقترب منها أحد السكارى، و هو معروف بين الناس بمهنة القوادة، تأبط ذراعها و اختفى معها نحو جهة غير معروفة، لتعود في اليوم الموالي و هي منبسطة البطن و كأن صاحب الفضيحة تخلص من حمولته.
تغرق أكثر في مؤخرة الحافلة، تلامس الزجاج بكفها المتعب، تحاول بقوة أن تستدرج الفرح بملمس الزجاج المتألق بنور الشمس، تغمض عينيها و هي تعلن رحلة في الماضي، تسمع صوتا صادرا من زمن بعيد:
-أحبك؟
كلمة تشتاقها و تبحث عنها منذ الولادة، كلمة من الصعب العثور عليها بين حطام الجمال في وجهها..
-كم أنت جميلة و مشرقة؟
تنهدت بعمق، و ابتعلت الطعم، دائما تصطاد الفرائس بالمتعة و الجوع، و كانت روحها جائعة، تبحث عن حب يكون وليمة طازجة، و لكنها لم تدرك أنها فراشة لم تسعفها أجنحتها الضعيفة..
-سأكون حبيبك الذي انتظرته، سأسافر معك نحو الجنة..
و أرسلها للجحيم في ليلة واحدة، الحياة تحددها اختياراتنا، في لحظة واحدة، فيمكن أن ننهار بنقرة واحدة و يمكن أن نحلق بعيدا برصاصة واحدة...
كذلك كانت الرصاصة التي اقتلعت حياتها بحرارة كبيرة، تتذكر كيف رفع سرواله و كأنه يرفع يده عن جريمته، و تحملت وحدها تلك النطفة، مثل لغم تسلل بداخلها.
نظرت نحو فتاة تجلس بجانب شاب يتودد إليها، و عيناه ممتلئتان شغفا و لهفة. و تحدثت بصوت حزين:
-أعتقد أن هذه المدينة ليست مجبرة بصناعة مادونا أخرى، غدا ستمتلئ المدينة بألف مادونا.