عندما استيقظت لم أجده ، فقد غادر إلى عمله .. رغم انه قد أُعلن _ ليلة أمس _ حالة الطوارئ في المدينة . يعجبني التزامهُ وأحترمهُ إلى أبعد حد . ازدادت سرعة دقات قلبي .. انهُ الخوف عليه .
فتحتُ الانترنيت .. وجدتهُ أمامي على ( الماسنجر ) :
_ كيفك حياتي ؟
_ لماذا ذهبت .. ألم يعلنوها عطلة ؟
_ ( هههههههه .. عطلة الك ) . كل عام وانتِ الحب .
كتبتُ لهُ و رد عليّ بحديثٍ عادي ، لكنهُ حميمي جداً . واستأذنتهُ لأفتحَ بريدي . وصلتني إيميلات كثيرة من أمريكا و ألمانيا و هولندا و من مصر و سوريا و اليمن .. كلها إيميلات إعجاب بكتاباتي . فتحتُ موقع ( إيلاف ) الإلكتروني ، فوجدتُ الحوار الذي أجرتهُ معي قبلَ أيام ، وقد عنونوه باسم : ( الكاتب العراقي لم تهزمهُ الحروب ) !
لم تهزمهُ .. ولن تهزمهُ ، فالحرب قدر قد كُتبَ على جبينِ أحلامنا إلى الأبد . لو يعلمون .. أية معاناة نعيشها .. وأي رعب أشعرُ به الآن وهو هناك في مقرِ عملهِ في أخطر مكان من المدينة .
انتهى الدوام ، ولم يأتِ ! اتصل بعد الثانية ظهراً :
_ لقد أُغلقت الجسور .. لن أستطيع أن أعود إلى البيت .. سأبقى هنا الليلة .
رديت بغضب :
_ لا أعرف إلى أين سيقودنا التزامك هذا .
ضحك ، ثم أردف :
_ ( ديري بالك على نفسك ) . مع السلامة .
وغادر . دخلت المطبخ كي أُهيئ طعام الفطور .
رن موبايلي بعد ساعتين .. انهُ هو :
_ أين أنتِ ؟
_ في المطبخ .
_ هل انتهيتِ ؟
_ بقيَ القليل .
كان الالتزام شيء من طبعه ، بل جزء من سلوكه . ضحكَ من أعماق قلبه في مرح .. وتكلم معي بحديث لأول مرة يحدثني به . استغربت خروجه عن المألوف :
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ما هذا ؟ ماذا تقول بالله عليك !
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ أرجوك ، فنحن صيام .
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ألستَ صائماً ؟
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ويحك ! إننا في رمضان !
_ دعيني أقل ما لم أقلهُ لكِ ذات يوم .
_ الأكل على النار .. دعني أذهب .
_ سأُكلمكِ بعد الفطور .
كنتُ مستغربة جداً وسعيدة جداً . هل هي الحرب تجعلهُ يلغي التزامهُ معي ، فهل الحرب تفك القيود والمشاعر والأحاسيس ؟؟! أم الخوف من أن يباغتنا الموت في لحظةٍ نجدها غير مناسبة ، فهناك الكثير الكثير الذي لم نقلهُ ولم نفعلهُ . أَم يا تُرى هو تحديٍ للقدر وانتصار نريد أن نحققهُ ، فحينَ نواجه الشدائد .. يعني بأننا نحاول أن ننتصر عليها بحسنا الإنساني .
لم أعرف كيفَ فطرت ، وكيفَ صليت ، وكيف أكملتُ عملي المنزلي . كنتُ أذكر الله في نفسي ، قد تطمئن . لا حول الله .. لي ربٌ يحميه .
اتصلتُ بهِ على موبايله ، لكنهُ مغلق .. لم يكن مغلقاً ، بل شحنهُ قد انتهى . اتصلتُ به على الهاتف الأرضي :
_ مرحباً . كيفَ الوضع ؟
_ سيئ جداً .
_ هل فطرت ؟
_ نعم . وأنتِ ؟
_ نعم . أينَ ستنام ؟
_ على الأريكة .
_ الدنيا بَرد .
_ توجد مدفأة .
وبينما كنا نتحدث سمعت دوي اطلاقات نارية وانفجارات قوية وقريبة جداً .
_ يبدو بأنها ( علقتْ ) . اذهبي سأتصل ( بعدين ) .
مَنْ سيعيد دقات قلبي إلى وضعها الطبيعي . لم تبقَ آية لم أقرأها في نفسي .. قد تحفظهُ . يا إلهي .. أي رعبٍ نحنُ فيه .. وأية حروبٍ غُرسنا في تربتها إلى الأبد ! أُحاول أن أتشاغل .. أُدير قنوات الأخبار ( الجزيرة ، العربية ، أبو ظبي ) . ما لهذا الخوف يجثمُ على صدري كجدرانٍ ثقيلة. واتصلت مرة أُخرى . نفختُ في توتر ، فلم يبقَ من رصيد هاتفي سوى دولارين ونصف :
_ كيفَ الوضع الآن ؟
صمتَ قليلاً ، ثم قالَ بسخرية حزينة :
_ بيني وبينكِ .. خفتُ كثيراً .
رديتُ مخففة عنه :
_ حقك ، فنحنُ بَشر يا عزيزي .. والضعف الإنساني طبيعة وليسَ عيباً .
_ حاولت أن أتصل ، لكني لم أفلح .
_ ماذا هناك ؟
_ لا تعرفين مَن يهاجم مَن .. هل هم الأمريكان ، أَم المقاومة ، أم الإرهابيين ؟؟؟ ما عدنا نعرف !
_ إني قلقة جداً .
_ انهُ قدرنا .. ومن العبث أن يحاول المرء مقاومة القدر .
_ أكاد أبكي خوفاً عليك .
وكي يُخرجني من جو الحرب والحزن ، غير الموضوع .
_ أسمعتِ آخر أُغنية لعاصي الحلاني و كارول صقر ؟
_ رأيتها قبلَ قليل في قناة ( روتانا ) .
_ إنها جميلة جداً .. سأُغنيها لكِ :
(( قولي قولي جاي … بعَيّد أنا
حكيلي حكيلي حكاي … بغَني أنا
حتى عمري يطول .. ألبي عني يقول
غيرك مش معقول … حبوا أنــا )) .
_ لن أستطيع أن أنام الليلة . أشعر بالبيتِ خاوٍ وبارد من حولي .. هل هي أنفاسك التي كانت تملؤه بالدفء .
_ يا ليتكِ كنتِ معي هنا .
_ في الجحيم الذي أنتَ فيه ؟
_ لكانت أعظم ليلة ( ليلة حب و رعب ) !
_ أهذا هو وقت الحب ؟!
_ ما علينا .. ماذا تلبسين الآن ؟
_ ثوبي الذي غادرتني بهِ صباحاً .
_ لم تبدليه .
_ إلى أن تعود .
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ إننا في رمضان .
_ ألم نفطر ؟
_ لم تكلمني مثلما كلمتني اليوم بالذات .
رد بهدوء و ببساطة وكأنهُ يلقي حملاً :
_ أتعرفين .. اليوم شعرت بأنه من الممكن _ في عز هذه الحرب اللعينة _ أن ننتهي فجأةً، فالموت يطوقنا من كل الجهات .. وأنا لم أقل لكِ كل شيء بعد . كم أتمنى أن تكوني الآن بجواري ، فهناك أشياء كثيرة أُريد أن أبوح لكِ بها .
_ ما أكثر ما لم أقلهُ لكَ أنا أيضاً . أتعرف .. إنها أجمل ليلة لي معك .
أي شلال من الكلام العذب غمرني به .. شلال انهمر من سقفِ ليلةٍ ساخنة بالرصاص والبارود والقذائف والرعب والخوف .
وفجأةً .. انقطع الخط .. توووت .. توووت .. توووت .. .. انتهى الرصيد .
ملاحظة : ما بين الأقواس الصغيرة كلام لا يُكتب ولا يُقال ، لكنهُ يُفهم بدون سؤال !