قصص قصيرة جداً من القسم الثاني في مجموعتي القصصية (واسألهم عن القرية...)
موعد
هرب التيار الكهربائي من الغرفة ،غطت تفاصيلها في غيبوبة ضوئية عتيمة.لكن رب الأسرة باشر عائلته بنداء أشاع الطمأنينة في قلوبهم.وصار الواحد منهم يتعرف على الآخر من صوته.علا صوت الطفل الأصغر الرضيع باكياً ،فباغتت البنت الوسط أبيها قبل أن يسرق انتباهه الرضيع هاتفة أبي المعلمة طالبتني بنشرة مدرسية أنا وصديقاتي) .فأجابها الأبلك هذا يا نور عيني).الابن الأكبر استغل الفرصة مطالباً بحصته أبي أين ما وعدتني به حين أنجح في امتحاني ؟.لقد وعدتني بساعة يدوية تزين معصمي). فأذعن الأب موفياً بوعده مع اعتذار .الزوجة وهي تهود رضيعها نبهت زوجها عزيزي غداً بلا شك سوف نعيد ترتيب الحاجيات مع قليل من الخضروات ،وعلبة حليب للرضيع). فرد رب الأسرة بالقبول، وأنه سيذهب غداً إلى التسوق كما رغبتْ.الأصوات تتدفق صوب أذني رب الأسرة.الرضيع استمر باكياً مطالباً بحصته (الحليب).البنت تغني نشيداً خافت حفظته مؤخراً،الولد يحلم بساعته الجديدة.الزوجة تتأفف لطول فترة انقطاع الضوء وكآبة العتمة.رجع الضوء أخيراً،وحين دلك رب الأسرة عينيه ،لم يجد أسرته حوله!.انقشع غبش الرؤية رويداً رويداً،اطرق برأسه حزيناً،منكسراً،حين تنحْنحَ (الجدارُ) مُذكِراً إياه بموعد تعليق صورة كبيرة لأربعة راحلين.
حين تتأخر الأمهات
تأخرت العصفورةُ طويلاً هذا الصباح!.لم أستطع إنقاذ صغارها الذين تداولتِ الريحُ أرياشهم،وتدحرجتْ على الأرصفة جثامينُهم.هَرَعتْ كعادتها تلْتقطُ حبةً هنا ،وأخرى هناك.بالرغم من صراخ الريح ،وعفونة الجو،وزمجرة المدينة .لم ترتعبْ ،لم تخفْ ،فقد كان يدفعُها دافعٌ غريزيٌّ للبقاء،المواجهة،الصبر والتحمل،من أجل حفنة أفراخ ،صاروا هباءً على يد صبية عبثوا بذلك العش الذي يقبع أمام نافذة غرفتي الصغيرة .لم يبعد العش كثيراً ،كان باستطاعتي النهوض إليهم،وطردهم ،ضربهم،توبيخهم .لولا تأخر أمي أنا أيضاً ،أمي التي عادت مع عودة العصفورة الثكلى .أم تحمل بمنقارها حبة طعام ،وأخرى تسير حثيثة وهي تلوّح لي بعكازيّ الجديدين.
أمنية
كان صانع التوابيت منهمكاً في صنع أحلى التوابيت وأفخرها.هو يصنع للناس توابيت رديئة،لكنه اعتنى هذه المرة بتابوت وحيد،حجزه لنفسه بعد موته.تمرُّ السنوات ،وتنفد التوابيت إلّا التابوت الفاخر ،المصنوع خصيصاً لمعانقة جثة الحانوتي.يمرُّ شتاء قارص.يشرب الوقود،الدفء،العزيمة.فيتجه أهل القرية إلى الخشب ،لا يبقى في القرية عمود أو منضدة أو سرير إلّا واحرقوه للتنعم بالدفء.الحانوتي احرق كل التوابيت،وظل التابوت الفاخر منزوياً. حيث لم يرض الحانوتي التفكير في التنازل عنه أو الاستغناء والتضحية به.فهو جائزته وتحفته الوحيدة.في ليلة اليوم التالي مات الحانوتي من البرد.فهرع أهل القرية إليه ،وقد غسلوه وجهزوه عند الصباح للدفن، تاركين ورائهم بقايا رماد،لتابوت فاخر ،منحهم الدفء في الليلة الماضية
صراع
لم يُبنى في قريتنا سوى جامع وحيد ،يلوذ به المحزونون ،ويتسوّر به اللائذون .ولم يكن في الجامع سوى إمام جماعة ،ومؤذن تجفل صلاواتنا من صوته الناشز.ثم ظهر مؤذن شاب،سلب ألبابنا بصوته الرخيم الحنون،حبَّبَ في نفوسنا الصلاة ،أخشع آذاننا لصوت التكبير والتهليل والشهادة .لم يرق المشهد للمؤذن السابق ذي الصوت الناشز، فصار يطوف في القرية يطلق على المؤذن الجديد التُهَمات والبهتان.فاختلط على الناس الأمر ،وتشعب الخلاف ،ودبّت الفتنة.فأحتكم الجمع عند إمام الجماعة ،نفر مع المؤذن ذي الصوت الناشز،ونفر مع المؤذن ذي الصوت الرخيم الخاشع.هناك هتف إمامُ الجماعة في حنقحاولوا رفع أصواتكم حين تكلموني ... سمعي ثقيل).
وقيعة
رجلٌ يسير بين حشد الناس في السوق،يتوقف بين الحين والحين مفتشاً عن صاحب صوتٍ يهتف وراءه ،يتتبعه أنَّى وضع قدميه، منادياً باسمه،مستنجداً بهِ!.حاول الرجل بخطوة ذكيّة أن يحصر الصوت والشخوص وكثرة السائرين .اتجه إلى شارع ضيّق.فأتاه الصوت منادياً باسمه في هلع، أدار رأسه بسرعة ،لكنه لم يجد سوى عدة أشخاص تعجبوا التفاتته المريبة. حاول التضييق ،الحصر،تفويت الفرصة على الصوت في أن يختفي مرة أخرى،فذهب إلى شارع أضيق،ومن ثم عاد الصوت ذاته.حينها نبتت فكرة كالسهم في قلبه؛حين قرر الذهاب للصحراء،حيث لا يملأ المكان غير الفراغ.في الصحراء انتقل بقدمين حذرتين ،متسائلاً عن تأخر الصوت؟!.توقف عن الحركة هذه المرة ،حين أرعبه الصوت الآتي من الخلف.ليس صوتاً منادياً باسمه،بل عواء لذئب لطخ فكيه لعاب لزج.
المتسول
في غابة متنائية ،تسيّدَ ضبعٌ على الحيوانات،بعد إرعابها بقوة الأضراس والبطش،ومعاضدة باقي الوحوش له .فصارت الحيوانات تغني وتهلّل للضبع ،في فسحة من الغابة صارت للضبع منصة، يجلس فيها وتأتي الحيوانات مغنيةً ،مبايعةً لحاكمها الأوحد ،إذ تعلو الشعارات والهتافات بحياة الزعيم وعشيرته .وكان يجلس في الجهة المقابلة للمنصة حمارٌ متسول شائخ،أفلت من عضة أسد متراخية،فتدهورت صحته،ولم يستطع العمل فالتجأ إلى التسول.أشتدَّ بطش الضبعُ بالحيوانات ،حين صار لا يفرّق في ظلمه بين حيوان وحيوان.وبعد اجتماعات سرية،ومشاورات طويلة،وتنظيمات ثورية تقودها حيوانات مجاهدة لا ترهب الحتف في سبيل حرية أتباعها. تفجرت ثورة حيوانية كبرى،أطاحت بنظام الضبع وزبانيته ،ومن ثم تسيَّدَ الموقفَ مجلسٌ يضمُّ كلَّ ألوان الطيف الحيواني.تاركاً الغابة في حلم وردي كبير.الحمار المتسول نهق عالياً بحياة الثورة ومن فجرها،وترك التسول حالماً بمستقبل يكفل حرية النهيق والعمل والعودة إلى ماضٍ جميل يحلم الحمارُ به على الدوام.مرت السنون،ولم يتغير شيئاً في الغابة.فقد عادت الشعارات والهتافات على منصة الضبع المخلوع. وعاد الحمارُ الشائخ للتسوّل أمام المنصة ،لاعناً أسداً لم يُحكمْ عضتَه بشكل صحيح.
في مدينتنا ...
السيرك
نزل في مدينتنا سرك ،فيه دواليب وألعاب ومهرجون ،وخيمة كبيرة تتسع لبضع مئات ،تتقافز فيها النمور والأسود ،على حركة للمروض بالسوط يميناً وشمالاً .وكان في السرك أيضاً محلات لبيع العصائر والفطائر وشتى الحلويات والمكسرات.تركتها جميعاً وتوجهت إلى لعبة كانت مركونة في إحدى زوايا السرك،لعبة الأخطاء والنجاحات .كان صاحب اللعبة يضع صندوقين خشبيين ملونين بألوان قوس قزحية ،وكان مكتوباً على الصندوق الأيمن (صندوق النجاحات) وعلى الأيسر (صندوق الأخطاء).وفي كل صندوق عدسة تضع فيها عينك لترى إما نجاحاتك وإما أخطاءك.كان الجمهور من النساء والرجال فقط مهتم بهذه اللعبة ،أما الأطفال فلم يكترثوا بها مفرغين طاقتهم الطفولية في ألعاب المراجيح والدواليب والمزالق .قررت أن ألعب هذه اللعبة .ولكنني تحيرت في أيهما أشارك (الأخطاء أم النجاحات)...؟وحين رأيت أن الجمع متكالب على رؤية نجاحاته ،اخترت صندوق الأخطاء حيث لم أجد منافساً عليه .قبل أن أحشر عيني في العدسة سألني صاحب اللعبة : (هل تريد رؤية كل أخطائك ،أم أشنعها ..؟).فقلت لهالفادح منها ،حين أتعرف عليه ستهون عليَّ الباقيات).وكان هذا تصرفاً ذكياً كما اعتقدت.حشرتُ عيني في العدسة وقد ملأني عطش الفضول ، ثم تحول إلى آهة تعجب ،حين رأيت صورتي منحنياً على صندوق خشبي ملون ،وإلى جنبي جمعٌ يتنافس على صندوق مُلاصق.
المَسْمَك
كان في مدينتنا مَسْمَك كبير، وكان السماكون يفرغون أحشاء السمك على أرصفة المحال.حيث تتماوج الروائح الزنخة كالأشباح،ويمارس حولها الذباب طيرانه الاستطلاعي. وكان في المسمك قط بني وسخ ،شره،يده طويلة ،وإن لم يجد ما يسرقه، يلتجأ إلى الفضلات بعد إقفال المحال.ذات يوم دخلت البلدوزرات إلى السوق ،هدمت المحال وسوتها بالأرض.ثم أتى رجل مهيب،أشقر،غريب عن المدينة يرتدي بدلة أنيقة ورباط قصير،وحوله رجال يحملون على رؤوسهم طاسات صفر عميقة.ثم بدأ البناء حتى تحول المسمك القديم إلى سوق حديث ذي محلات فاخرة ،ومقاه راقية،ومطاعم درجة أولى.فاختفت تلك الروائح الزنخة ،والمناظر الكريهة.واختفى القط البني أيضاً.اختفى مدة من الزمن ،ثم رأيناه جالساً في أحدى مطاعم السوق الجديد،يأكل سمكاً معلباً ،وقد تحلَّق حوله خدم المطعم مسرورين بتشريفه لهم.
الوزّان
كان (خريبط) يملك ميزاناً يضعه تحت أبطه ويأتي به إلى سوق مدينتنا .لديه مكان مخصص،يضع ميزانه ويجلس كصياد على نهر من الأشخاص.يأتي إليه الرجال والنساء وحتى الأطفال يزنون أجسادهم،ويضعون ثمن الوزن في طاسة قريبة.بعد مدة أصاب الميزان عطلاً،فلم يعد يميز وزن الأجساد بدقة.فصار(خريبط) يفتي بوزن واحد من عنده.هناك تعجب أهل المدينة ،هل من المعقول أن يكون وزن الناس متساوياً؟!.فثاروا على خريبط مطالبين بتغيير الميزان بآخر جديد.لكنه رفض مصراً على أن ميزانه دقيق ،بل أنه أدق الموازين في العالم.ثم بعد زمن دخل صبي يحمل ميزاناً إلكترونيا إلى السوق ،تحلَّق حوله الزبائن لمعرفة أوزانهم بدقة علمية فائقة.تاركين (خريبط) الذي صار يلعن ويسب الحظ،ويشكك بعبارة"من قال أن هذا الميزان الجديد أفضل من القديم؟كل شيء قديم أفضل".فلم يكترث له الناس ،سوى بعض الضِعاف من السقم ،تجمعوا حوله مؤمنين بميزان خريبط الصدئ.
المتنزه
وقف طفل على باب متنزه ،منشغلاً بمنظر الأراجيح ،وتنسيق الحدائق وخضرتها،وأصوات الضحكات والأغاني والأحاديث الحميمية بين زواره،والتي تبدو للسامع كأنها هدير شلال.أراد الطفل الدخول ،لكن حارس الحديقة الضخم ،ذو الملامح الصارمة منعه واضعاً يداً على الباب،ومشيراً باليد الأخرى إلى لوحة معلقة على باب المتنزه(للعوائل فقط).غادر الطفل المكان حزيناً ،وبعد سنوات عاد الطفل رجلاً بهياً ،رشيداً ،يجر بكفيه طفلين متقاربة أعمارهم .وتسير إلى جنبه زوجته التي وعدها بالجلوس في متنزه جميل ،فيه أراجيح مبهجة ،وأشجار وحدائق تسر عين الناظر.لكنه تفاجأ حين وصل إلى باب المتنزه، رآها مقفلة، وقد التحف المكان بالصمت الموحش .وزاد ذهوله حين لاحظ قطع تعزية سود تملأ جدار المتنزه ،وقد استبدلت لوحة (للعوائل فقط) بلوحة أكبر، مخطوطاً عليها سورة الفاتحة.
الروبوت
(عزيز) يقوم بكل احتياجات المنزل .بل لولاه لما استطاعت زوجته القيام بأغلب المشاغل المتعبة في المنزل." تعال يا حبيبي أريد تقطيع البصل" يهرول إلى المطبخ كقط مطيع ،ثم يضع رأسه على الطاولة ،ثم تبدأ الزوجة بتقطيع البصل على رأسه."عزيز الأولاد يريدون كتابة دروسهم" يهرع إلى الصالة حيث الأولاد ،ينحني على ركبتيه ثم يضع الأولاد كراساتهم على ظهره ويبدؤون بالكتابة لمدة طويلة ،وعزيز لا يظهر مللاً أو تعباً ،بل كان سعيداً ،سعيداً جداً ويعترف بهذا أمام الناس ويقول "أنا أسعد زوج في العالم".عزيز يدخل الحمام مع الأولاد ،حيث تحتاج الزوجة لحيته ليفةً لتنظيف جسدها وجسد الأولاد.عزيز يبلع التراب الذي جمعته زوجته من على السجادة ،مستغنياً عن (المكرافة).عزيز يقف ساعات ليلاً واضعاً في كل كف ورقة صلبة ،ويحرك ذراعيه كما المروحة الكهربائية.بعد مدة من الاستخدام يصيبه عطل ،فيقبع في إحدى زوايا المنزل كالبليد.حزنت زوجته كثيراً ،ولكن حزنها تبدد ذات صباح حين طرق في أذنها صوت في الشارع "عتيق للبيع ...عتيق للبيع".
خلاف
في ذلك اليوم ،حين أشاحت السماء بوجهها ،ولملم البحر أمواجه غيضاً.لم نفهم سبب التباعد والخلاف بينهما.ولما سألنا السماء أشارت باستخفاف صوب البحر هاتفةاسألوه).وحين سألنا البحر أجاب في كمدلا فائدة).وبعد أن وشت موجة من أمواج البحر تسللت خفية ،عن سبب خلاف السماء والبحر .عرفنا أن الخلاف يخص الزُرقة .هل السماء من ألقت بعباءتها على صدر البحر بغنج أنثوي .أم البحر من كلل عروسه(السماء)؟!.استمر التباعد،بعد أن نصبت الحيرة عمود خيمتها ،وتسلل الفتور كاللص ليسرق منهما ذلك التآلف والصفاء.وحين لم يصلا إلى حل يرضيهما ،أنهى الليل الخلاف،لما أزف وقته، سائقا ًأمامه الظلمة العتيمة.
خيبة
بثمنٍ باهظ ومعاناة ثقيلة ،استطاع في النهاية شراءَ (فرخ نسر) من أحد بائعي الطيور.ولم يرض للنسر بأكل خسيس،فقد كان يجهزُّ له حمامةً كلَّ يوم ،ليأكلها النسرُ بطريقته الخاصة،حيث يأخذُ الحمامةَ جانباً في إحدى الزوايا ، ثم يخفيها خلف جناحيه ويفترسها بصمت .كان مالكُ النسر يضحي بوقته ،جهده،نقوده،دماء الحمامات. فقط لكي يرى نسراً غازياً السماء بجناحيه الكبيرين.لكنه وبعد تلك السنوات والانتظار،أدهشه أن بائع الطيور قد خدعه، حين باع له نسراً مصاباً بفوبيا المرتفعات.
...وأخواتها
في اليوم التالي ،ومن دون سابق رأي .أفاق (المبتدأ) من نومه.جلس على السرير بعينين يملؤهما التساؤل،حين لم يعثر على صديقه (الخبر) في السرير المجاور.وبعد لحظات تيقّنَ أن صاحبه قد حزم حقائبه و اِرتَحل بلا رجعة.غادر(المبتدأ) المكان أيضاً،مهاجراً إلى مكان لم يرسم ملامحه .في اليوم التالي عمَّ الذعر في المدينة ،وأكثر المذعورين (كان وأخواتها).فلم تعد (أصبح) تبيع النور صباحاً،ولم تعد (أمسى) تبيع النجوم مساءً.(صار) تحولت إلى مسخ،و(ليس) أصابها الخنوع والمداهنة.(بات) هجرها النوم،و(ظل) تناست الاستقرار. لم تبق ألّا (كان) ،صابرة على شيخوخة المعنى سنوات وسنوات.تحكي لِاسمين طفلين حكاية قديمة،عن جدَّيْهما اللذين تخاصما وهاجرا من دون سابق رأي.
تفاهم
على أريكة انتظار الحافلة ، جلس رجلان بالصدفة .قال الذي على اليمن للجالس على اليسارالحياة مقرفة)،فلم ينبس الآخر بكلمة!.فكرر المحاولة: (الحياة مع كل بشارات التطور، تحولت إلى شيء ماسخ ...؟).استمر الجالس على اليسار ساكتاً،ناظراً باستغراب للجالس بجواره.أقبلت الحافلة ،فانتصب الرجل الجالس على اليسار واقفاً ،سائراً بحذر شيخ ليركب الحافلة التي غادرت المكان مخلفة كمية من الدخان ،وكان مكتوباً على جانبيها عبارة(معهد الأمل للصم والبكم).في ذلك الأثناء وقف الرجل الجالس على اليمين ، بعد أن شعر بمغادرة الرجل الجالس قربه ،مرتدياً نظارة سوداء واسعة،ثم غادر المكان وهو يجسُّ الأرض بعصاه.
رحيل
النهر الذي تجلَّدَ الاصطبار،لم يعد يحتمل تفاهات المدينة،أولادها المشاكسين،قيأها،نفاياتها، عبث المتبولين ،جثث الحيوانات ،هجرة الأسماك،توبيخ النخيل.حين تفاخر بالماء كسروا هيبته بالجسور.توعَّدهم بالجفاف ،فهددوه بالسدود.زمجر فائضاً،فألقموه بالتُرس. في ذلك الحين، جمع جرفيه وشاورهما الأمر؛فوافقاه.حزم حقيبة أمواجه ،وارتدى عباءة زرقته،وغادر المدينة صوب المحيط.هناك حيث انتحرت قبله انهار المدن التي خيم على شفاهها اليباب.
نهاية
إطار سيارة المسؤول،يتفاخر بهيبة حين يهرول على الطريق.تخافه إشارات المرور،والأرصفة،والإسفلت والحصى والتراب. بعد مدة ليست بالطويلة.وجدوه مرمياً في ساحة أنقاض ،بعد أن تم استبداله بإطار جديد.قرر الانتقام ،حين تبرع بحرق نفسه منتحراً،في مظاهرة قام بها ثلّةٌ من الجياع.
ذاكرة
لا يتذكر عددَ السفن التي أبحر بها قائداً ،لكنه يتذكر جيداً طوق النجاة الذي أرجعه إلى جزيرته.
تبادل
الجنديُّ الذي عاد بساقٍ يسرى ،لم يعد مهتماً بأحذية القدم اليمنى،فتبرع بِهنَّ إلى جنديٍّ آخر فقد ساقه اليسرى.
التوقيع
أتزهر في روحي حدائقُ جنةٍ
ثلاثونها المسكينُ كالطفل يقبعُ