في تلك القرية الغارقة في عطر الاقحوان والبابونج والتي ترقد على ضفاف بردى الرقراق ، حيث النسمات العليلة تمازح أوراق شجر الصفصاف والجوز ، فتتراقص الأوراق على أنغام تغريد الحساسين ، بين ظلال الأشجار الوارفة وأحضان الطبيعة ، يرقد منزل قديم وقد تشققت جدرانه بفعل عامل الزمن ، يحكي قصص أبناء تلك القرية الوادعة وحبهم للحياة ، وقلوبهم التي تفيض بالطيبة والتسامح .
في تلك البيئة الحالمة ترعرعت شام ، ذات العشرة أعوام ، زهرة متفتحة للحياة ، تطارد الفراشات وسط الحقول وتعب من شذا الأزاهير ، بعيد مقتل جميع آفراد أسرتها ماعدا أمها ، أضحت الحياة أكثر قتامة ورتابة ، شاخت أمها قبل الأوان وغزت التجاعيد وجهها الحزين ، فبدت كلوحة بهتت ألوانها .
كانت شام ترنيمة قلب أمها المكلوم وسلوتها في ذلك الزمن الرمادي ،حيث تتعرض القرية إلى حصار ظالم وتجويع ، بغية تركيع الأهالي ، لم تغب غربان الشر عن الأجواء في ذلك اليوم ، حيث تقذف حممها وتتقيأ حقدها الأسود كل يوم .
في صبيحة اليوم التالي ، خرجت شام كعادتها منطلقة وسط الحقول المجاورة ، تطارد الفراشات الملونة بحبور طفولي وتتراقص مثل عصافير الدوري عندما يفد شهر نيسان . تعلقت برداء أمها كي تسمح لها بالخروج وهي تتوسل :
- ماما ، مشان خاطري ، خليني أطلع ألعب شوي ، بوعدك ... ماراح أتأخر ، راح ألعب جنب البيت .
- يابنتي ، والله مابكره .. بس أنا بخاف عليك ، والله مابسامح حالي ، وبموت لو صرلك شي لاسامح الله ، ماظل عندي غيرك ، أنت من ريحة الحبايب ، راحوا وتركونا ، ياحسرتي .
وماهي سوى لحظات حتى غطت غربان الشر عين الشمس وبدأت تقذف حممها المعدنية الحارقة ، فتحيل الحقول الخضراء إلى رماد ، هرعت أم شام إلى خارج المنزل وهي تجري وقد تقطعت أنفاسها ، ولكنها تحاملت على نفسها ، يدفعها حس الأمومة بأن هناك خطب ما . وسط الحقول وبين أزهار الاقحوان وشقائق النعمان ، كانت شام مستلقية على جنبها الأيمن وقد غطت الدماء وجهها الجميل ، ترقد جثة هامدة !
السويد – 3 / 9 / 2016
التوقيع
روحي تحلق بعيداً في الفضاء تخترق الاَفاق ، ترنو إلى أحبة حيث الشحرور والحسون يشدو على الخمائل أعذب الألحان . لما رأى الحمام لوعتي وصبابتي رق لحالي وناح على الأيك فهيج أحزاني وأشجاني . أتسكع في أروقة المدينة وأزقتها .. أبحث عن هوية ووطن ! ولا شئ غير الشجن . أليس من الحماقة أن نترك الذئاب ترتع فوق تخوم الوادي ؟