عظماء بنى أمية
========
(الحلقة الأولى)
نحن فى دمشق ، فى يوم الجمعة التاسع من صفر سنة تسع وتسعين للهجرة . والبلدة خالية الطرق ، مغلقة الحوانيت . فالناس قد اجتمعوا حول قصر الخلافة . وكان صحن القصر مزدحما بالرؤساء والوجوه . أما الأمراء وكبار القواد فقد احتلوا المجالس والأبهاء . وعلى وجوههم جميعا إمارات الترقب والانتظار ، فى شيئٍ من الخشية والجزع . ذلك لأن أمير المؤمنين ، سليمان بن عبد الملك ، قد فجأه المرض واشتد عليه وأشيع أنه مشرفٌ على الموت . وفى داخل القصر ، حيث كانت منازل الحرم ، كانت نساء الأمراء من بنى أمية يترقبن الأخبار . وفى صدر المجلس زوجات يزيد وهشام ومسلمة وبقية أخوة الخليفة ، وكل واحدة منهن تأمل أن تكون البشارة لها بأن زوجها هو الذى انتخب للخلافة بعد سليمان ، الذى يتظاهرن بالحزن عليه ، والخشية من وفاته ، وتتمنى كل واحدة منهن موته ، ليخلو مكانه لزوجها !
وكان فى طرف المجلس فتاة بارعة الجمال ، بالغة الأناقة ، عليها ثيابٌ لا تدانيها فى غلاء ثمنها وجمال مظهرها ثياب واحدةٍ منهن . وكان يبدو عليها من الهدوء والوقار ما ليس مثله على واحدة منهن ، كأنها لا تشاركهن فى رغبة ولا خشية ولا أمل ، وكأنها قنعت بما نالت فما تأمل فوقه مزيدا . ولقد نالت فى الواقع كل ما تطمع فيه فتاة حازت الجمال والمجد والأدب والزوج الصالح السرىّ الغنى ، والعيش الناعم الرخىّ ، ولدت على فرش الخلافة فى قصر أمير المؤمنين ، ونشأت فى أحضان العز تتقلب فى النعيم . ما طلبت شيئا ولم تصل إلى ما طلبت ، ولا اشتهت شيئا ولم تنل ما اشتهت . وشبت فكانت فتاة فتانة بخلقها وخلقها ، بارعة فى جمالها وفى كمالها ، ولم تكن تجد إلا من يحبها ويدللها ، حبا بها ، وتزلفا إلى أبيها .. أما عرفتم بعد من هو أبوها؟ أتعرفون كم دولة اليوم ما بين المغرب الأقصى والأفغان؟ لقد كان أبوها ، وحده ، يملك هذه البلاد كلها . ما بعد أمره فيها أمر ، ولا فوق سلطانه فيها سلطان !
إنها "فاطمة بنت عبد الملك" بنت الخليفة ، وأخت الخلفاء . لقد طمحت إليها لما شبت أنظار فتيان أمية ، فاختار لها أبوها فتى الفتيان ، من التقى فيه مجد أمية وتقوى عمر ، السيد الأموى النبيل عمرَ بن عبد العزيز . وانتقلت من قصرٍ إلى قصر ، ومن نعمةٍ سابغة إلى نعمةٍ سابغة ، فزاد عيشها ترفا ورغدا ، وزادت النعم عليها تدفقا وازدحاما .