( وقفة على سفوح البلعاس : الشاعرخضر عكاري) بقلم الشاعر: مهتدي مصطفى غالب
وقفة على سفوح البلعاس
دراسة الشاعر :مهتدي مصطفى غالب
* استطاع الشاعر خضر عكاري خلال رحلته الشعرية التي بدأت منذ أواسط الستينات و لا زالت مستمرة ، أن يجد لنفسه ركناً في عالم صع، فنصب بيتاً من الشعر و جلس في صدره واضعاً أمامه منقلاً يحرق فيه حطب أيامه الخوالي ، و ذكريات حياته الماضية و الآتية ، و معاناته اليومية ، فتفوح رائحة الدخان و القهوة المرة من دلاله المرصوفة حول الجمر ، تتسكع على أطرافه تتدفأ بظلاله ، و تطأ الرماد ، و على الايقاع نجد خضر عكاري حاملاً ربابته يسافر معها و قصائده الخاصة بمفرداتها النابعة من بيئة ريفية متزواجة مع بادية تطفر من سفوح البلعاس إلى دمه المتجذر في سلمية المملوءة بالغبار و الغربان و الشعر .. ليقف حاملاً مرايا حزنه الملونة ، يرصد وجه الزمن الآتي لعله يشق درباً للضوء لسنونوات قلبه الذاهبة صوب الموت : ( منفي في آخر بادية الشام
و خلفي تركض أمي
و حبيبتي المرهونة
تترجى الصمت
تصلي القمر المخسوف
تجفل منها النخلات العطشانة
تركض من صلبتني في الحب مزاراً
تقرأ أشعاري
الماتت من زمن الغيبة )
*أتى الشاعر خضر عكاري إلى القصيدة من مدينته – سلمية – عباءته و مولاته و سيدة عشقه ، سلمية .. هموم العصافير التي تطاردها البواشق ، سلمية .. قلبه الخفاق بين البحر و اليابسة ، ، سلمية .. دمعة ديك الجن على ورد ، سلمية .. الطفلة التي تتناوق فيها الفصول الأربعة إذ يتباهى النشيد ، و ترفرف بادية الشام بغدائرها حالمة بالحنطة و الشعر ، أتى الشاعر و في شرايينه تبكي القصيدة صداها الملول ، و تتراكض لهافة كرياتها البيضاء و الحمراء و السوداء و الخضراء ... الخ ..
أتانا كما يأتي العاشق حبيبته .. إنساناً بكامل غرائزه و دوافعه ، بخيره و شره ، ضمن عالم مملوء بالخراب ، و واقع شرس كالذئب الجريح .. أتانا حلماً يروي سيرة البلعاس في القرون الوسطى حاملاً كل تناقضات حضوره و شعره ، التناقض الذي يغريك بقراءة القصيدة مرات و مرات لتكتشف أنها جزء منك يتأجج في ذاكرتك عبيراً سرمدياً : (- موسيقا و نبيذ و لهاث
و لحاف يتكوم في العتبة
أتذكرها ليلة وعدي
كأنين عاشق في قصبة
موسيقا و سكارى ،
أرصفة
حانات
كلاب
و حفيف خريف في عتبة )
* خضر عكاري يخرج إلينا من ضباب يغطي سفوح البلعاس بأشعاره التي تفتق صدر الظلام لتضيء آفاقنا العطشى لوقفة شعرية صادقة حاملاً أوجاع أمته و منغصات أيامنا ليوقظنا من أحلامنا البهية و يفجعنا بأنين قصائده الذي يخمش الروح في هذا البرزخ .
* خضر عكاري حاد المزاج كالخنجر اليماني .. لاسع المفردات كالعقرب إلا أنه مبدع و خلاق كالغيم يغالط الكون و لغاته كي يقول ما يريد ، يمتلىءحباً بالأرض و الانسان ، إنه مقهور بالشعر في زمن نواسي لا يتوقف عن الاهتزاز ، زمن الداء المتألق ، و الموت الحقيقي ، و القبلة اليابسة ، و يبقة مؤمناً أن الشعر هو الخلاص ..بل هو خاتم سليمان ..، الشعر الظالم الذي لا يظلم إلا شاعره و يحرر كلَّ المظلومين : ( - نامي
أيتها الرصاصة في جسد القبرة
و تشظي بين الأطفال هدايا
عمقي في القلب غصة
وعي صباحاً .. يا جارة البحر الأسود
المصفر
و عطري ثوبك النديان بالدم
حان آوان الزفّ
أسمع وهزّ – الدفّ –
و الكفُّ تنام على الكفّْ )
* لخضر عكاري .. قاموسه الحياتي و اللفظي الخاص ، حيث يتميز بألفاظ شعرية شرسة نابعة من علاقته التواشجية مع بيئته الحياتية و الشعرية التي يتعايش معها بظروفها المكانية و الاجتماعية و الزمانية ، ففي كل قصيدة كتبها تتوارد الكلمات كالقطيع على ماء القصيدة ألفاظاً حادة و شرسة تتقاتل كي تنال خصوصيته الشعرية ، فقصيدته تحتاج علاقة حميمية بين الشاعر و الآخر و هذا الأخر هو الوجود بكل ما يحتويه من أشياء مادية و معنوية ، فيبدو لنا من خلال قصائده كالذئب عندما تُجرح أنثاه و يقتل ولده ، و أيّ شاعر لم تجرح أنثاه ، و لم يقتل و لده : ( - أعبر ممرات النوق الأزرق
أسرق بلواي و أهرب صوب مجرات
الوله الصافي
ألجم رعبك يا بلعاس و أصطاد عزائي
قاتلتي مرت فوق رصيف أخر
أدري أن بعينيها – رغرغ – دمع عزائي
و انفلتت صيحة سكير داعب خصلتها
المرهونة للريح الشرقية
و الأغنية الغجرية
تصرخ في قاعات التاريخ المنحرفة )
* تتعب عند اقترابك من أشعار خضر عكاري فهي تدميك و لا تعزيك ، تحزنك و لا تسرك ، تدفنك في مقبرة مليئة بجثث الأشياء و لا تبعثك من جديد ، كلماته قاسية بشراسى تخمش كل من حوله ، حتى الحبيبة تبدو لنا في شعره شوكة أو سكين أو مخلب قط ، أشعاره كالبادية بشوكها و غبارها و هوامها و بواحاتها و نسيمها المسائي الرائع ، إنه لا يمتع القارئ بل يخزه بسادية قاسية و مغرقة في تعذيب النفس من خلال الأشياء المحيطة بها ، كلّ الأشياء التي حوله يحاول أن يدمرها أو يظهرها لنا عرجاء أو جلفة أو منكسرة أو مصابة بلوثة عصبية ، لا شيء إلا الحطام و الركام .. و البقايا .. لا إنسان في شعر خضر عكاري بل جثث عفنة و خربة إنما رائحتها ذكية كدماء الشهداء ..
إنه شعر الكآبة و الخيبة و البكائية و اللوعة الدائمة و التوق لرحيل مستمر خلف العذاب و الانكسار .. عالم الشاعر مدحور مرفوض و عبثي .. و لا قصيدة تخلو من هذه الانكسارات المباغتة ، و هذه الشراسة في تحطيم الأشياء و على رأسها الانسان ، و من ثم البكاء عليها كطفل يحطم دميته و يبكيها .. شعره يعطي صورة للحياة الجافة الخالية من الانسانية ، لا إنسان حقيقي في شعره ، إنما هناك أشياء تلتهم هذا الانسان الذي لا نعرفه إلا من عذابه و قهره و تحطيمه لكل الأشياء الجميلة التي حوله ، إنه يتعامل مع الانسان بالشراسة و اللعنة كي يثبت أن هذا الانسان هو الأكثر فتكاً بهذا الوجود من هذه الطبيعة رغم قساوتها فهي أكثر رحمة : ( - من حطب القلب أجمّرُ
برد شتائك
أستل بالوهج صقيعي )
* إن الشعر عند خضر عكاري نتاج علاقة حميمية بين خضر الانسان و البلعاس كجغرافية كونية تنهض لتمشي في خلاياه : ( - انظر – شهقة ليلي
في رعشة آهي
أفلت روعي
يلهث في عظمي السوسُ
و ينهد على صدرك حيلي )
لقصيدته نكهة البلعاس في ربيعه و خريفه و اخضراره و جفافه ، زراعته و قلع أشجاره أوردته الأبدية ، فتضج في عب قصيدته روائح الشيح و القيصوم و البطم و القتاد الشوكي .. و تتباهى براعم الجوري على ثدييها الطافحين بالحياة ، و بين طياتها تنمو شقائق النعمان ، و تطلع من حواكيرها هبات الحبق و البيلسان ، و تتماوج بين سهولها و وديانها غزلان البادية المنقرضة .. فالبلعاس روح و ريحان أشعاره و شاعريته ، و علاقته به علاقة المطر مع الغيم ، و الأرض مع الماء و الشهيد مع دمه .
( مطر الوقت صحا
يشرب فنجان الشاي
قبرتي
في عينيها
يتثاءب مجد النوم )
هي إشارات إلى الشاعر خضر عكاري و قصيدته المنسابة عبر مجموعاته الشعرية التي نشرها ، قد لا تغطي المساحة الشعرية التي احتلها الشاعر من خلال تجربته الشعرية في وسطنا الأدبي ( أنالت إعجابنا أم لا .. تبقى هي تجربة تستحق الدراسة و الوقوف أمامها كورقة من كلمات و زمان و مكان و إنسان ).. لكنها أشارت إلى القصيدة و شاعرها المعتق في دنانها الأبدية .