إذا كان الناس هم محور هذا الكون أعلاه وأسفله ، وفى جميع اتجاهاته، فان اى عمل مهما" كان في اى مكان ، أو اى مجال، أو اى زمان ،يجب أن ينصب على الناس ليؤثر على حياتهم وبيئتهم، وقد يكون هذا العمل ذو تأثير ايجابي ؛ ينفع الناس ويقدم لهم الاستفادة بما ينفعهم في اى منحى من مناحي حياتهم ، وقد يكون عملا سلبيا ، يؤثر بالضرر على حياة الناس ويعيقهم في اى منحى من حياتهم .وبتطبيق هذا الأمر على مجال الرواية، فيجب أن تكون موجهة إلى الناس لتؤثر فيهم ايجابيا ، بما تقدمه لهم من منفعة، وقيمة مضافة إلى عقولهم وحياتهم، و اى عمل روائي لا يقدم إضافة إلى عقل القارىء ويزيد وعيه في أمر معين هو عمل يؤثر بالسلب على عقل الناس وحياتهم، وهذه واحده من أهم أسباب ابتعاد القارىء العربي على وجه الخصوص عن القراءة . وبتطبيق هذا الأمر على ثلاثية (حكايات الأيام القديمة ) للروائي الإنتحارى زكريا عبد الغنى الصادرة عن ( مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر والدراسات – القاهرة – 2010 ) في ثلاثة أجزاء هي ( أبو خُرص ) و (قلم الإشارات ) و ( صباح العمر ) . نجد هذه الرواية الطويلة توجد فبها كل مقومات الرواية التي يمكن أن يقتنيها اى قارىء بشغف في مكتبته ، ولم يعكر صفو هذه الرواية إلا لمم صغير جرًح في عبقريتها وعظمتها وألمها كثيرا"، والتي لولاه ، لسبقت في مجال الرواية ثلاثية الأديب العالمي نجيب محفوظ الشهيرة ، بمسافات طويلة في الفن الروائي . فعند الولوج إلى داخل الرواية التي تعتمد في رويها على أسلوب تفكيك الزمن وتداخله ، وإعادة صياغته كأنه " خلطة " للزمن والمكان والأحداث ، والأشخاص ، قد لا يدخل إلى ذهن المتلقي شك ، سواء كان هذا المتلقي ؛ قارئ ناقد ، أو حتى قارئ عادى ، متمرس لفعل القراءة ، أن هذه الرواية ، رواية سيرة ذاتية لفترة زمنية بعينها ، ولأشخاص بعينهم ، ولوطن بعينه ، وفى قص هذه السيرة ، وأحداثها ، ومساراتها داخل النص ، قد اعتمد الناص زكريا عبد الغنى في رويه أسلوب التفكيك للزمن ، والحدث ،والمكان ، ثم إعادة التركيب كما يراه مناسبا" لنصه . وتوجد في الرواية الكثير من الشواهد التي تعزز كون هذه الرواية ، رواية لزمن حقيقي ، وأماكن حقيقية ، وأشخاص حقيقيين ، وأحداث حقيقية ؛ فمن شواهد المكان ، وجود أسماء لأماكن فعلية موجودة ؛ كمدينة جرجا التي تقع في محافظة سوهاج ، بين مركزي البلينا جنوبا" والمنشاة شمالا" ، وكذلك مدينة الوليدية ؛ التي هي الآن مدينة ملاصقة تماما" لمدينة أسيوط ، وكذلك مدينة نفيشة التي تقع في مدينة الإسماعيلية. ومن شواهد الشخصيات ؛ وجود أسماء لشخصيات حقيقية ؛ كالملك فؤاد ، والملك فاروق ، والضباط ، وحركة الإخوان المسلمين وشخصياتها . وتخمينا" بالقطع الشخصيات التي قامت بالروي فى الرواية ، حتى وأن اتخذها الراوي الرئيسي المتخفي ستارا" لروى نصه . ومن شواهد الأحداث الحقيقية ؛ أحداث عصر الملك فؤاد ،وعصر الملك فاروق ، وقيام الثورة وأحداثها ، وموقف الإخوان المسلمين ( " ترامى إلى اذنى صوت راديو عبده يجيء من وراء الباب لمغلق : " تم في ساعة مبكرة من صباح اليوم تنفيذ حكم الإعدام في أعضاء جماعة الأخوان المسلمين المنحلة والمدانين في قضية محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر " توقفت أنصت وأخذ المذيع يتلو الأسماء ثم ختم قوله : " هذا وقد خفف الحكم الصادر على حسن الهضيبى إلى الأشغال الشاقة المؤبدة " ) وكذلك أحداث الحرب العالمية الثانية ، وكذلك وجود أسماء لشخصيات حقيقية وتاريخية ، كحسن ألبنا ، ومحمد نجيب ، وجمال عبد الناصر ، وعبد الحكيم عامر ، والجنرال روميل ، والجنرال مونتوجيمرى وغيرهم ، . وكذلك ذكر عمل حقيقي شهير؛ وهو العمل في السكة الحديد ، مع ذكر الكثير من تفاصيل هذا العمل ، وأدواته ، وكيفية أدائه ، والتي لا يمكن أن يذكرها إلا شخص عارف بمثل هذا العمل ، قام بالعمل فيه ، أو على اقل تقدير ، قام شخص يعمل فيه مقرب إلى الناص بالنقل شفاهة إليه أخبار هذا العمل ، وفنونه وطريقة أدائه. يتعدد الروي في ( حكايات الأيام القديمة ) بتعدد الفكر والأشخاص ، والموضوعات ، والأحداث ، والطرح ، لحياة كاملة شاملة ، في جميع الاتجاهات ؛ فهذا الأب ( قنديل ) يروى شئون العمل ، وأمور السياسة وأحداثها ، والمتغيرات في المجتمع المتقلب . وهذه الزوجة ( صبيحة ) تروى شئون واهتمامات النساء في زمنها وجيلها ، وبيئتها . وهذا هو الطفل هو ( صلاح ) يروى شئون واهتمامات الأطفال ، وحياة طفل مع أصدقائه وفى مدرسته . ولكن يظل الراوي الحقيقي المتخفي هو المسيطر على الرواية وأجوائها . وقد تخفى هذا الراوي خلف هذه الشخصيات ، وهو جالس على ناصية بعيدة من زمن وتاريخ أحداث الرواية ، ثم اخذ يكتب عن هذا الزمن ، وأشخاصه ، وعن أماكنه ، وسلوكيات مجتمعه وعائشيه ، عن عاداته ، عن تقاليده ، عن أدواته ، عن اقتصاده ، عن نفوس الناس فيه ، عن نمط معيشتهم ، وسلوكهم اليومي البسيط فيقول : " وهناك في كورة صغيرة في جدار الغرفة ؛ مصباح كيروسين صغير من الصاج يتصاعد الدخان من لهبه فيلطخ الكوة ، وينشر ضوءا" كئيبا" يتأرجح في أرجاء الغرفة أرجحة بطيئة " وبالرغم من أن الراوي المتخفي خلف هؤلاء الرواة المتعددين بعد مرور الزمن ، ألا انه في رويه على ألسنتهم يستخدم الأفعال المضارعة غالبا" ، وكأنه يستحضر لنا الزمن والأيام وحكاياتها القديمة ، وكأنها تحدث الآن أمام أعيننا وفى وقتنا الحالي ، فأضفى ذلك على الرواية روح الطزاجة وعلى الأحداث التجدد ، وعلى شخصياتها الحضور والحياة . وتتركز رواية ( حكايات الأيام القديمة ) في رويها في ثلاث محاور / اتجاهات رئيسية هي ؛ سيرة الرواة ، الأب قنديل وزوجته ( صبيحة ) وابنه صلاح ، والمحور الثاني هو سيرة العمل للأب ، في السكة الحديد ، وتحاوره مع زملاءه في شئون العمل والسياسة ، والمحور الثالث سيرة الوطن والحكم والسلطة في الفترة الزمنية المروى عنها ؛ في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر ، وثورة يوليو 52 ، بالإضافة إلى الحرب العالمية الثانية . وكل هذا الروي في هذه المحاور الثلاث بعيون البسطاء من الناس ، البشر العاديون الذين عاصروا هذا الزمن بأحداثه ، وهم الرواة الحقيقيون ، الثقاة الذين رأوا الحدث بأعينهم ، ولا مصلحة لهم في تحريفه ، أو تزييفه ، بعيدا" عن التاريخ الرسمي الذي غالبا" ما قد يكون شابه الكثير من التحريف و التزييف ، والتزوير ، أو التهويل ، أو التقليل ، أو التهميش لأحداث معينة ، وقد يكون اعتراه في تسجيله أهواء الذين سجلوه ، وميولهم ، واتجاهاتهم ، ومصالحهم . وتكمن عظمة هذه الرواية ، وعبقريتها في التوثيق الفعلي للزمن ، والمكان ، والإنسان ، وتفاعل هؤلاء الثلاثة معا" في التوثيق كالتالي : 1-توثيق أحداث الزمن ؛ فقد جاءت توثيق لأحداث الثورة وما قبلها وما بعدها ، وحركة الأخوان المسلمين وغير ذلك 2-كما إنها توثيق للحياة الاجتماعية ؛ ووصف لنمط معيشة الناس ، وعملهم ، وبيئتهم ، وحياتهم الروحية ، وظروفهم الاقتصادية ، والنقود المستخدمة في هذه الحقبة ، ومعاملاتها 3-توثيق اللغة المتداولة ، والمتواصل عن طريقها بين الناس ، كما كانت ، ولم ينسى الناص شرح الكلمات في الهامش ، التي قد تبدو غريبة في أيامنا هذه وكمثال : ( " مية الدميرة : مياه الفيضان ص 16 ابوخُرص تعريفة : نصف قرش بتاو القيضى : خبز الذرة الرفيعة ص 240 ابوخُرص المجاز : معبر البيت من الباب إلى السلم ص 114 صباح العمر المسامحة الصغيرة : أجازة نصف السنة ص 156 صباح العمر " ) وتعتبر هذه الرواية بحق نص روائي عبقر ؛ فيه كل الصفات المطلوبة للرواية العظيمة ، ولكن جرَح في هذا النص أمران والتي لولاهما ، لبزت هذه الرواية وعبقريتها روايات تاريخية كثيرة : أما الأمر الأول : فهو استخدام التفكيك للزمن وإعادة صياغته وتركيبه ، فهذا الأسلوب الروائي ، قد يصلح للرواية القصيرة ؛ ذات الجزء الواحد ، أما رواية ثلاثية بحجم رواية ( حكايات الأيام القديمة ) فهذا لا يمكن استساغته ، أو قبوله ، وقد يكون الناص أقدم على هذا الأسلوب لإظهار البراعة الروائية ، أو التفرد في العمل الروائي ، أو انه استخدمه من اجل النقد ، ولكن علينا أن نقول في كل الحالات : اللعنة على البراعة الروائية وعلى النقد ، إذا كانا سيبعدان قراءة رواية مثل هذه عن القارئ العادي والجمهور . فمنذ سنوات طوال قرأ كاتب هذه السطور رواية رائعة اسمه ( ضوضاء الذاكرة الخرساء ) للأستاذ / حمدي البطران ، استخدم فيها نفس أسلوب التفكيك الزمني ، لكن رواية ( ضوضاء الذاكرة الخرساء ) ناسبها بالفعل هذا الأسلوب التفكيكى لقصرها ، وقصورها على جزء واحد . وقد يكون هذا الأسلوب في الروي هروبا" من الرقابة السلطوية على العمل الروائي ولكن أحداث هذه الرواية لم تعد أمرا" يسير الحساسية لاستخدام هذا الأسلوب الذي بدت فيه كشخص ضخم ، ارتدى ثوبا"اصغر منه ، فشوه منظره ، وهيئته ، وهيبته ، ووقاره ، وجعل من حكايات الأيام القديمة ، نص عبقري إلا قليلا" . أما العيب الثاني : فهو استخدام ألفاظ شعبية مبتذلة ، ما كان للروائي المتخفي ( زكريا عبد الغنى ) استخدامها ، حتى وان كانت فصيحة من الناحية اللُغوية ، ومن مفردات تلك البيئات ، وأزمنتها وتعاملاتها ، ولا يمكن لكاتب هذه السطور ، استخدام بعض من هذه الألفاظ كدليل وشاهد عليها ، حتى لا تعيب المقال كما أعابت الرواية . ولكن في النهايات يمكن القول : أن ثلاثية زكريا عبد الغنى ( حكايات الأيام القديمة ) رواية عبقرية بكل المقاييس ، بما تضيفه من وعى إلى عقل قارئها ، بالزمن والمكان والمجتمع وبالتالي بالتاريخ ؛ فهذه الرواية يجب أن يقتنيها كفرض عين الباحثين في التاريخ ، وفى حركة المجتمع ، وفى تاريخ الأماكن ، وتاريخ الحروب ، ودارسي السلطة ، والعلوم السياسية ، والعاملين في السكك الحديدية وتاريخها ، ويجب أن يقتنيها أيضا" كل محبي المعرفة ، ومحبي الأعمال الأدبية الرائعة العبقرية القديرة الرائعة العظيمة ، فهذه الرواية عن حق تضع الروائي زكريا عبد الغنى في صفوف الروائيين العظام طوال القامة الروائية . فهنيئا" لمدن جرجا ، والوليدية، ونفيشة ، وكل الحارات والشوارع التي ورد ذكرها بهذا العمل الفائق ، والذي ما أروعه فنيا" لو تحول إلى عمل فني مشاهد كوكالة عطية لخيري شلبي ، أو ثلاثية نجيب محفوظ ، أو أبو ليلى المهلهل لممدوح عدوان . وختاما" ؛ لا يجب قراءة هذه الرواية عن طريق صديق ، أو مكتبة عامة ، بل لابد من امتلاكها ؛ فهي رواية صدى وشاهد عيان على الزمان والمكان والإنسان ، فعن نفسي ما أجمل أن أورثها لأبنائي من بعدى . تــــــــــم في 2010 المفكر والأديب / فؤاد سلطان موضوعات أخرى يمكن بحثها نقديا من قبل الباحثين في الرواية هي : 1-رمزية العنوان بين ما حدث وما تم التحول إليه 2-الرصد للحدث السياسي فى الرواية 3-تحليل حدث ثورة يوليو 52 في الرواية