البحتري
أنا أحد الشعراء المشهورين في العصر العباسي، إسمي كاملاً الوليد بن عبيد بن يحيي الطائي أبو عبادة البحتري، يقال عن شعري " سلاسل الذهب" وذلك نظراً لجودته، كنت واحداً من ثلاثة من أشهر شعراء العصر العباسي وهم المتنبي وأبو تمام وأنا.
سئل أبي العلاء المعري ذات يوم عن أي من الثلاثة السابقين أشعر من غيره في الشعر فكان رده " أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري".
النشأة
ولدت عام 206هـ - 821م بمنبج بالقرب من حلب وتلقيت فيها علومي في الدين واللغة والأدب، وأنا يمني قحطاني من ناحية أبي وعدناني من ناحية أمي، عشقت الشعر وعملت على تدعيم هذا العشق بحفظ أشعار الأقدمين والتدرب على النظم الجيد للقصائد الشعرية.
وإمعاناً في صقل موهبتي الشعرية رحلت إلى حمص حيث كان أبو تمام فقمت بعرض شعري عليه وتقربت إليه لأتعلم منه وكانت من نصائح أبي تمام إلي أن قال لي: " يا أبا عبادة، تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم .. فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وخلق الأشواق، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه".
إنتقلت بعد ذلك إلى بغداد واتصلت بعدد من الشعراء مثل دعبل الخزاعي، وابن الرومي، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وابن الزيات، وابن طاهر.
حياتي
يقال عني إنني نشأت فقيراً وتوفيت غنياً وذلك نظراً لكوني مثل باقي شعراء عصري سعيت للتكسب بشعري فقمت بمدح الخلفاء والوزراء وغيرهم فأفتتح شعري بالغزل وأدخل به الحكمة والعاطفة والفخر والوصف، كما عملت على تسجيل الأحداث المختلفة من خلال قصائدي الشعرية.
كان أول الخلفاء الذين اتصلت بهم في العراق الخليفة المتوكل فقمت بمرافقته ومدحه في كل مناسبة وعمدت إلى تسجيل مآثره وذلك على مدى خمسة عشر عاماً قضيتها في رعاية المتوكل، ومما قلته في مدحه:
يا اِبنَ عَمِّ النَبِيِّ حَقّاً وَيا أَزكى = قُرَيشٍ نَفساً وَديناً وَعِرضا
بِنتَ بِالفَضلِ وَالعُلُوِّ فَأَصبَحتَ=سَماءً وَأَصبَحَ الناسُ أرضا
وَأَرى المَجدَ بَينَ عارِفَةٍ مِنكَ=تُرَجّى وَعَزمَةٍ مِنكَ تُمضى
وحينما قام المتوكل بتولية أولاده الثلاثة ولاية العهد قلت:
حاطَ الرَعِيَّةَ حينَ ناطَ أُمورَها=بِثَلاثَةٍ بَكَروا وُلاةَ عهودِ
قُدّامَهُم نورُ النَبِيِّ وَخَلفَهُم =هَديُ الإِمامِ القائِمِ المَحمودِ
لَن يَجهَلَ الساري المَحَجَّةَ بَعدَ ما =رُفِعَت لَنا مِنهُم بُدورُ سُعودِ
كما اتصلت بمستشار المتوكل ونديمه الفتح بن خاقان فمدحته فقلت في وصف واقعة لابن خاقان قام فيها بمبارزة أسد
فَلَم أَرَ ضِرغامَينِ أَصدَقَ مِنكُما=عِراكاً إِذا الهَيّابَةُ النِكسُ كذَّبا
هِزَبرٌ مَشى يَبغي هِزَبراً وَأَغلَبٌ =مِنَ القَومِ يَغشى باسِلَ الوَجهِ أَغلَبا
أَدَلَّ بِشَغبٍ ثُمَّ هالَتهُ iiصَولَةٌ =رَآكَ لَها أَمضى جَناناً وأَشغَبا
فَأَحجَمَ لَمّا لَم يَجِد فيكَ مَطمَعاً =وَأَقدَمَ لَمّا لَم يَجِد عَنكَ مَهرَبا
تألمت كثيراً بمقتل المتوكل وعزفت عن قول الشعر فترة من الزمن، ثم ما لبثت أن عدت مرة أخرى إليه فقمت بمدح المنتصر ثم المستعين والمعتز من بعدهم، ولكن لم تكن لي بهم نفس الصلة القوية التي كانت مع المتوكل، ومما قلته في مدح المنتصر:
وَبَحرٌ يَمُدُّ الراغِبونَ عُيونَهُم =إِلى ظاهِرِ المَعروفِ فيهِم جَزيلِهِ
تَرى الأَرضَ تُسقى غَيثَها بِمُرورِهِ =عَلَيها وَتُكسى نَبتَها بِنُخولِهِ
أَتى مِن بِلادِ الغَربِ في عَدَدِ النَقا =نَقا الرَملِ مِن فُرسانِهِ وخُيولِهِ
فَأَسفَرَ وَجهُ الشَرقِ حَتّى كَأَنَّما =تَبَلَّجَ فيهِ البَدرُ بَعدَ أفولِهِ
وقد قمت بهجاء المستعين بعد أن نزل عن عرش الخلافة وصعد المعتز ليتولى الخلافة بدلاً منه، وقد عشت في عصر المعتز في سعة من المال ورفاهية في العيش.
أسلوبي الشعري
تناولت في شعري المدح والرثاء والغزل والحكمة وإن برعت في الوصف، فقد تمكنت من أدوات التصوير والوصف واستعنت بالألفاظ المعبرة والمصورة لكل ما أراه وأحسه.
هَذي الرِياضُ بَدا لِطَرفِكَ نورُها =فَأَرَتكَ أَحسَنَ مِن رِياطِ السُندُسِ
يَنشُرنَ وَشياً مُذهَباً وَمُدَبَّجاً =وَمَطارِفاً نُسِجَت لِغَيرِ المَلبَسِ
وَأَرَتكَ كافوراً وَتِبراً مشرِقاً =في قائِمِ مِثلِ الزُمُرُّدِ أملَسِ
مُتَمايِلَ الأَعناقِ في حَرَكاتِهِ =كَسَلَ النَعيمِ وَفَترَةَ المُتَنَفِّسِ
مُتَحَلِّياً مِن كُلِّ حُسنٍ مونِقٍ =مُتَنَفِّساً بِالمِسكِ أَيَّ تَنَفُّسِ
وقد قلت في الربيع:
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً =مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يتَكَلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى =َأوئِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فكَأَنَّهُ =يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما
وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لباسُهُ =عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً منَمنَما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَةً =وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ محرَما
من قصائدي الشهيرة القصيدة السينية والتي قلتها عندما قمت بزيارة إيوان كسرى، فاسترجعت فيها حضارة الفرس في وصفي لهذه الدولة التي كانت بها قوة عظيمة ثم اضمحلت فقلت فيها:
صُـــنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي =وَتَرَفَّعــــــــــتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني الدَهـر =التِماساً مــــــــــِنهُ لِتَعسي وَنَكسي
بُلَغٌ مِن صُبابَةِ العَيشِ عِـــــندي =طَفَّفَتها الأَيّـــــــــــامُ تَطفيفَ َخسِ
وَبَعيدٌ مابَينَ وارِدِ رِفَـــــــــــــــهٍ =عَلَلٍ شُـــــــربُهُ وَوارِد خِـــــــمسِ
وَكَأَنَّ الزَمانَ أَصبَحَ مَحــــــمولاً =هَواهُ مَـــــــعَ الأَخَسِّ الأَخَــــــــسِّ
لَو تَراهُ عَلِمتَ أَنَّ اللـــــــــــَيالي =جَعَلَت فيهِ مَأتَماً بَعدَ عُــــــــــرسِ
وَهوَ يُنبيكَ عَن عَجائِبِ قـــــومٍ =لا يُشابُ الـــــــبَيانُ فيهِم بِلَــــبسِ
وَإِذا ما رَأَيتَ صورَةَ أنطـــــاكِيَّة =اِرتَعـــــــتَ بَينَ رومٍ وفُـــــــــرسِ
وَالمَنايا مَواثِلٌ وَأَنوشَــــــــروان =يُزجي الصُفوفَ تَحتَ الدِرَفــــــسِ
في اِخضِرارٍ مِنَ اللِباسِ عـــــَلى =أَصفَرَ يَختالُ في صَبيـــــغَةِ وَرسِ
وَعِراكُ الرِجالِ بَينَ يَــــــــــــدَيهِ =في خُفوتٍ مِنهُم وَإِغمـاضِ جَرسِ
مِن مُشيحٍ يَهوى بِعامِلِ رُمـــــحٍ =وَمُليحٍ مِــــــــنَ السِنانِ بِتُـــــرسِ
الوفاة
توفيت بمنبج عام 284هـ - 897م، بعد أن تركت ديواناً ضخماً، وكتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام . وقمت فيه باختيار الشعر من ستمئة شاعر أكثرهم من الجاهليين والمخضرمين، وجعلته في ثلاثة أبواب واحد للحماسة والثاني للأدب والثالث للرثاء، وأشترك مع أبي تمام في الكثير من الشعراء الذين روينا عنهم.