متى ما أحسن الشاعر تلوين أبيات شعره وعرف كيف يوزن الكلمات في عزفها وإيقاعها تطرب الروح وتحلق بالوجدان نحو عوالم أخرى، يكون قد أبحر إلى قلوبنا وجاءنا محملاً بالإبداع. تارة يرسو في هذا الميناء أو ذاك ينشر الفرح ويضيء مصابيح شعره في كل الأماكن.
وهكذا فراشة الشعر المبدعة الشاعرة العراقية «هديل الدليمي» التي تختزل الكلمة في بعدها ولحنها الجميل حين انتقائها لأبيات قصائدها في تجربتها الشعرية فأردنا الاقتراب من جنانها الخضراء والاغتسال ببرد ينابيعها الصافية فكان لنا معها هذه الوقفة لنستنشق بعضا من عبير كلماتها وشعرها من خلال هذه القصائد التي اخترناها لها.
} سلامي إلى عينيك
سلامي إلى عينيكَ والشوقُ صاخبُ
يشقُّ عبابَ الروحِ والحبرُ قاربُ
أهدهدُ طفلَ القلبِ في مهدِ فكرةٍ
بنبضٍ سليمِ الهمسِ تسمو المواهبُ
أسيرُ بمجرى السهدِ والوجدُ غايةٌ
تعومُ بجوفِ الليلِ والصبحُ هاربُ
على متن ِطيرِ العوزِ أنأى بخافقي
وفي ضفّةِ الخذلانِ ترسو التجاربُ
على موكبِ الحرمانِ حطّتْ مراسمي
أبالوصلِ أم بالهجرِ تطوى المتاعبُ؟
أصدُّ شجونَ الأمسِ عنّي وفي غدي
سماءٌ منَ الأحلامِ والوصلُ عازبُ
أصدُّ حسامَ الغيضِ عنْ صدرِ خيبتي
فكيفَ أصدُّ الحزنَ والدمعُ غالبُ
وجدتكَ مذ أرسلتُ قلبي لحتفهِ
على عاتقِ الـ يا ليتِ تُلقى المراغبُ
أرى في ربوعِ العمرِ فجرًا قدِ انبرى
وما أفرجتْ عنْ وجنتيهِ الغياهبُ
أراني وقدْ لفَّ الخريفُ مواسمي
ونامتْ على ثغرِ الربيعِ العناكبُ
متى تنتهي الويلاتُ.. أم هل ستنتهي؟
متى تخمدُ الأشواقُ فالصبرُ شاحبُ
متى أعتقُ الإسهادَ منْ سجنِ يقظتي
لأغفو وتصحو تحتَ جفني المطالبُ
حين نقف لنتأمل هذه القصيدة نشعر بروح الشاعرة هديل تعتصر لتلامس ذلك الجرح فواحا بشذاه وعطره الزكي القريب منها في افتتان ذلك العشق الذي هيج تلك الحرقة داخل تلك الروح في نار لن تهدأ. للشاعرة هديل قدرة على التعبير من خلال خيالها وانتقائها لتلك الكلمات متأملة حديث الجرح وهي تجيل أفكارها وتتبعها في نقل الصورة الحقيقية لمعاناة ذاتية في بوحها، صورة تعبر لنا عن هذه المعاناة في جوها النفسي الذي تعيشه الأنثى إبان كتابتها لهذه القصيدة حين تحلق الروح المغردة على أغصان العشق المستحيل مأسورة بذلك الحزن والألم وقد لفّ الظلام أسوار الأمل بين جنبيه. فتلك هي نبضات شاعرتنا هديل كان واضحا عندما تجسدت فيها تلك الصور المليئة بالعبارات والكلمات الغارقة في ورطة الواقع بالحنين ومشاعر الحب المشتعل الباحث عن نور الشمس في وصف جميل يكشف عن القاموس اللفظي للشاعرة.
} صرخة في زمن الصمت
ها قدْ نطقتُ فجرحُ أهلي أبكمُ
تعبَ النداءُ وليسَ فيكم بلسمُ
أنا مِنْ جذوعِ النخلِ أجني قوّتيْ
لأثورَ في وجهِ السكوتِ وأهجمُ
أنا منْ أتونِ الشمسِ نورُ بصيرتيْ
أحميْ بلاديْ والعقيدةُ سلّمُ
سيفيْ لسانٌ، حزَّ نحرَ عروشِكمْ
أرضيْ سماءٌ والرعيّةُ أنجمُ
عربيّتيْ دينيْ وصبريْ منطقيْ
وكرامتيْ دربَ الشهادةِ ترسمُ
ما زالَ مائي يستريحُ بدجلةٍ
وفراتُ في عطشِ اليتيمِ يلملمُ
منْ دسَّ في الوطنِ النجيبِ خناجرًا
لتسيلَ من غررِ العراقِ مآتمُ
ناديتُ كمْ ناديتُ فارتدَّ الصدىْ
ليقولَ مهلاً.. كيفَ يسمعُ نائمُ؟
حزني نزيفٌ والحروفُ تكرّمتْ
لتقولَ ما لم تستطيعوا أنتمُ
لو كانَ عدلُ اللهِ في أيديكمُ
ما ماتَ وغدٌ أو تهاوى حاكمُ
سكتَ الكلامُ لينحني متبرّكًا
يصغيْ بِنهمٍ فالكبارُ تكلّموا
وهنا القصيدة الثانية التي تمضي بنا لتخوم الذات وكيف تقرأ وجع العراق من داعشية هجمت بسيوف عروبتنا وباركت اخوتها التعيسة! شاعرتنا هديل الدليمي ابنة العراق، حيث تؤكد من خلال تلك المعاني أن عراقها الجريح باق رغم الوجع ورغم المعاناة. رغم النزف والقتل إلا أنه ينبض بالحب والوفاء لكل عراقي صغير وكبير لكل عربي يشعر بعروبة العراق. تسهب هديل في كلماتها لتجسد تلك المعاناة فمن خلال شعرها وصرخاتها المتمثلة في تلك الأبيات الشعرية تمازج نبض احساسها المتدفق مع هاجسها الوطني يتعالى على النزف ويعض على جرحه لكن لا يمضى بصمت، بل يقاتل لأجل حبه وهنا روعة القصيدة.
} عنبٌ من نسلِ التين
غِب إنّ غيابكَ يُغريني
ما عادَ حضوركَ يَرويني
ما أقسى وصلَكَ يا رجلاً
ما خُطّ على لوحِ جبيني
غِب إنّ غيابكَ يُهرقني
نهرًا في باحةِ تدوينِ
يتناحرُ، والخصمُ فتورٌ
يَحرسُ أحباري يحميني
غِب إذ لا أعذبُ من فقدٍ
يُلهِبُ أمواجَ شراييني
يَسلُبُني من نومٍ عاتٍ
يستهلِكُ كلَّ فناجيني
واللهفةُ تختالُ بغنجٍ
وذنوبُ هواكَ تسلّيني
أن ترحلَ، أو تبقى قربي
هذا أمرٌ لا يَعنيني
ما أحلى الليلَ وأشواقي
تَنبُشُ في أرضِ تلاحيني
تقطِفُ رمّانًا غجريًّا
أو عِنبًا، من نسلِ التينِ
تُصغي للّثمِ رياحينٌ
لاحتْ في حزنِ بساتيني
تتسلّلُ أمطارٌ أفَلَتْ
من ألف خصامٍ وحنينِ
تُغرقني جدًا في غَدَقٍ
عذبٍ بملامحِ تشرينِ
يُشعلني في البعدِ أنينٌ
يُحرقني ثمّ يداويني
أن أُحرَقَ، هذا لا يُشجي
أو أُنحَرَ تحتَ السكّينِ
فأنا عاشقةٌ لا أخشى
نحرًا أو موتًا في الحينِ
وأنا عاشقةٌ لا أنسى
أنّ المعشوقَ سيُفنيني
لأكونَ بلا شكٍ يومًا
سيّدةً، من حورٍ عينِ
الشاعرة هديل الدليمي حيث أخذتنا في هذا العزف المنفرد وهي تتصدر المشهد ضمن حوارية رومانسية مترعة بأحاسيسها المرهفة بالحب والعشق المكابر لأنثى تحترف لعبة الغواية فتلك الاحاسيس الجميلة حين يعيشها ذلك العاشق بلا شك يعيد حساباته حين يعرف انه امام أنثى مختلفة. فحين تكتب شاعرتنا هديل هذه الكلمات وهذه المعاني في مثل هذا اللون من الكتابة الجميلة الإبداعية في لغتها وبعدها الفني الموسيقي الناضج ذلك يعني أن هديل لديها القدرة على التعبير وبناء النص الجيد المتميز في لغته وخلقه لروح التفاعل بينه وبين المتلقي في غير ترهل فني ندرك أننا امام تجربة شعرية ليست رقما عابرا في ساحتنا الادبية العربية، ولسوف يتعاظم رصيدها وحضورها الثقافي في الأيام القادمة مع ارهاصات الاصدار الأول حينما تتهيأ الظروف وهديل الدليمي سوف تتبوأ هذه المرتبة، نراهن عليها ونتمنى لها التوفيق في مشوارها الشعري
----
المصدر (أخبار الخليج)
التوقيع
لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه