تنتابني نوازع حنين لذلك الشارع المؤدي إلى منزلهم المتواضع الأنيق، الذي ضم عائلتهم على مدى عقود طويلة، عايشنا حياتهم وميولهم، دخلوا قلوبنا، وتمازجت ثقافاتنا، لم يعد يخبرني عن يومياته، ولم تعد أمه تتوسل الزمن أن يوقف نبضها إثر قراراه بالابتعاد، والسفر حيث المحيطات والبحار والناس شعرت بالامتعاض وعدت أدراجي إلى منزلنا الذي يقع على بُعد أميال من منزلهم، ولم نعد نتواصل إلا صدفة ورويداً رويداً انقطع نبض التواصل بيننا!
غادرت إلى أصقاع الأرض بدوري برفقة أحزاني إلى مدينة بعيدة عن مساحات آماله وتطلعاته، انشغلت بالعمل، وشغلني العمل عن كل شيء، عن سماع الأغاني العاطفية، وعن المشي بين المنحدرات الجبلية وابتعدت عن الساحل المؤدي إلى منزلنا الصيفي، مرت الأعوام لأشعر بشيء من الإنقباض، غادرت مكتبي باكراً، خرجت من المبنى لألمح طيفاً أنيق الطلة وسيم المحيا، يقترب من باب المبنى الذي خرجت منه، لم أشأ الإنشغال بالقامة الطويلة، وبسرعة توجهت إلى سيارتي التي لسعتها الشمس بحراراتها، عصفت بي ذكريات حينا المتواضع الذي لم يطق ساكنيه طلتنا اليومية التي اتسمت بالأناقة والرصانة.
كم كانت حقائبنا المدرسية تشبه تلك الحقيبة التي كان يحملها بيده ذاك الشخص طويل القامة، الذي دخل المبنى من لحظات قليلة، كانت تلقى كل إعجاب واهتمام من تلامذة مدرستنا الابتدائية، كان يتابعني بنظراته الجريئة حتى أدخل قاعة الصف، أضعها بكل تأني فوق المقعد لأخرج الكتاب المقرر للدرس الأول، كثيرا ما كانت تشعربالضيق من ترتيبي ونظافة حقيبتي زميلتي ليلى التي كان من النادر جدا أجده يقف برفقتها ليتحدث إليها.
وجدت نفسي عند نهاية الشارع المؤدي إلى سواحل المتوسط، انعطفت يساراً لأتوقف، ويتوقف شريط ذكرياتي مع جارنا وصديق طفولتي، نزلت من السيارة أبكي من وله على تلك الأيام الغوالي، لأطلق العنان لأقدامي ركضت وركضت وركضت، كانت الرطوبة تنعش الأجواء الصيفية، وكُنت على وشك الإنهيار، أخفيت رأسي المثقل بالهموم بين يدي اللتين اشتاقتا لعناقه والبوح له بآلامي ومشاكلي.
كان يعبر عن تعاطفه معي من خلال نثرياته الشاعرية، كنت أسترسل والأمل يضمد جراحي، أُعلل نفسي بغد من الأمنيات، كبرنا وابتعدنا ولم نعد نعلم عن أمسنا سوى بضعة سطور خطتها أقلامنا ذات أمسيةٍ تبادلنا فيها مر العبارات ومضى كل منا في قطار باتجاه ماتبقى له من محطات في حياته.
صحوت من أحلامي، لأتوجه إلى سيارتي أستدني الوصول إلى منزلي الذي ضج من صمتي، ومن مرآتي ومن كافة مقتنياتي دخلت إلى ساحة العمارة، كانت تبدو رتيبة هادئة، توقفت وتناولت حقيبتي ثم دخلت إلى المصعد بكل تأني وصعدت إلى شقتي في الطابق الخامس، شعرت بالزمن وأنفاسي على وشك أن يتوقفا عن النبض من رتابة الأجواء، ما إن توقف المصعد حتى خرجت مسرعة باتجاه شقتي لأتفاجأ ببطاقة أنيقة كُتب عليها "سيدتي حضرت ولم أجدك".
رافق قراءتي للبطاقة اتصال مفاجئ شغلني عن فتح الباب، وأدخلني في دهشة أكبر إنه جار الأمس الذي
وعدني بأن لانلتقي لأسباب عديدة، أما اليوم عاد ليطارحني الأمل، فتحت باب المنزل وعطر رجولته الذي راح ينسكب من البطاقة يتسلل من بين أصابعي مالئاً أرجاء الصالة التي كانت تحتاج إلى فتح جهاز التبريد الهوائي ليسري بالمنزل بعض من الأجواء الباردة المنعشة.
ما هي سوى لحظات حتى شعرت بكيان المنزل ينقلب حاله، لقد بدا كل شيء متوهجاً، وأحواض الزرع مبتهجة تحضن ابتسامتي براعم الغاردينيا، لقد امتزجت رائحة عطره برائحة زهري المفضل، أحاسيس مفعمة بالسعادة والأمل رافقتني وأنا أُعيد قراءة البطاقة الأنيقة"سيدتي حضرت ولم أجدك" ياله من شعور فياض ساورني بعض القلق لم عاد"مانويل"بعد هذه السنوات؟!
أوصدت على الماضي نوافذ الأمس، عادت لتقلب كياني بطاقة ببضع عبارات، أوقدت نار الذكريات، وفتحت أدراج الطفولة، ناولتني حقيبتي المدرسية وأعادت لشفاهي أناشيد الطليعة، وبهجة تحية العلم!
حل مساء المدينة ناعساً، سكون حينا كفيل بمنح الزائر هدوءاً يقضي على رهبة اللقاء الأول بعد طول غياب، هي كلمات ضيفي التي عبرعنها بعد جلوسه في صالة منزلي الذي انتظرته في تمام الساعة التي حددها لزيارتي، تعثرت كلماتي وأنا أبادله التحية إنه الشخص طويل القامة الذي صادفته ظهر هذا اليوم عند مبنى مكتبي وأنا خارجة منه!
لم يشغل نفسه بمظهري، كما أنا لم أنشغل بعطره ولون ملابسه الحريرية، حافظ على حيويته وعلى روحه المرحة كما حافظ على وعده بزيارة "أرض الميعاد"التي كثيراً ما شدته حكايات مُسني حينا الذي حضن أولى خطواتنا الطفولية!ما إن غاردر المدينة توجه إلى أوربة الغربية ليتثنى له السفر إلى هناك بعد حصوله على جنسية أوربية، كان له ما أرادغير أن نار الثور لم تخمد بين ضلوعه، وحلم العودة مايزال راسخاً في كيانه!
تحدث عن حياته في النمسا، راقت له الضواحي القريبة من سويسرة، وتحدث عن زياراته لباريس وإيطاليا، وعن سفره إلى مصر ولقائه ببعض الأصدقاء الذين سافروا إلى أمريكا على أمل الهجر ة الدائمة إلى "الفردوس المفقود"وانقطعت أخبارهم عنه، قاطعت سرده لمسيرة حياته بعد الابتعاد عن مدينتي لأذكره بانتمائي وتمسكي بجذوري وهويتي التي أعتز بها كثيراً، نظر إلى مندهشاً تذكر مدى غضبي من هذه الأحاديث، التي توجع رأسي المهموم، كثيرة هي الأحداث التي عصفت به، وكبيرة هي المحن التي ألمت بي، لكنني لم أتغير ولم ألق لرياح التغيير أي أهمية.
بعد اعتماد اوربة لعملة اليورو كعملة موحدة بين دولها، أذكر كيف هاجرت عائلة "مانويل" إلى النمسا على أمل الهجرة الدائمة إلى "أرض الميعاد" تلك الأرض التي اسمها "فلسطين" كما حفظنا إياها شعرنا العربي وكما ضمتها خارطة الوطن العربي، وأذكر كيف قضيت تلك الليلة حزينة أبكي بحرقة. كلماتذكرت طفولتي مع "مانويل" أشرد كثيراً وقد تلبستني حالات من الهلع والقلق القسري.
مرت الأيام، كبرنا ولم تتبدل ياجاري، كما أ نا لم أتبدل، أناقتك وملامحك الأرستقراطية، جلستك وأنت تتحدث معي، آه كم أشعر بأنني أمام رجل يبحث عن أمل يحيا به، عن شيء ما، عن وميضٍ يمنحه بارقة أمل بغد أفضل لكنه لن يأتي! الحياة لن تعود إلى تلك المساحات التي اغتالتها عصاباتهم، والزمان محال أن ينسى حناجر الغدر، تسأل العودة وعودتهم هي الأوّلى، هي القِبلة الأولى، وهي الحكاية التي على الأجيال القادمة خط آخر سطور فيها.
قطع تأملاتي الحزينة، يده وهي تمسح شعري، كنت مرهقة لكنني داريت عنه ذلك، إنني أشعر بأن الدم يغلي في عروقي جسمي واهن للغاية، لارغبة لي في الحراك أو التحدث إلى أي شخص، لكنني مجبرة بعد هذه الغيبة الطويلة أن اجلس وأنصت لمحدثي، ربما شمس الظهيرة هي السبب في ما أشعر به الآن؟
لم أشأ إزعاج ضيفي العزيز، تجلدت أمامه وشاركته شرب عصير التوت المنعش البارد، وبادلته نظرات الشوق والإعجاب وعبارات الإطراء بينما كانت تلازمني مسحات الخجل بكل وضوح، لم نتبدل صد وعجز عن مزج ثقافتين ورأيين وشخصيتين عايشتا أحداث وكوارث وماتزالا!
لم يتغير "مانويل"في عناده، وتطلعاته، وهفواته، ولم أتغير في حبي له، وفي رغبتي في تبديل آرائه، لم يتغير مظهري واهتمامي بمرآتي، ولم يتبدل وضعي آنسة إلى الأبد.
وينهض ضيفي ملوحاً بالذهاب، ليوقظ في قلبي مشاعر الخوف والقلق، سيبتعد وأعود لوحدتي، يالها من تعاسة، وقفت ممسكة بيده، لم أجرؤ على الاعتراف له بأني مللت الوحدة، وبأني معجبة به رغم تعارض أفكارنا، وبأنه الصديق المقرب مني مهما بالغ في تطرفه فإنني مبالغة في تصوفي.
اِنتصف ليل تموز الذي أوشك على الانقضاء، بدلت ملابسي ودخلت سريري متعبة ومجهدة، لقد نجحت في خداع صديقي بأنني بخير، لكنني أخطأت كان علي التوجه إلى المستوصف، لكنني ترددت كثيراً، بضعة قطرات من فيتامين سي ستجعلني أتماثل للشفاء غداً دون شك.
ما إن وضعت رأسي على الوسادة حتى تراءى لي صديقي، بدأت بإعادة سرد ماقاله أمامي، وبدأت الأفكار تعصف بي، تلج رأسي المثقل بدماء حارة، لم اقو على التفكير كثيراً حتى تسلل النوم إلى عيوني مداعباً أجفاني يدعوني للراحة والاستسلام للنوم حتى صبيحة اليوم التالي بكل سلام واطمئنان.