كانت حساباته خاطئة ، فلم تكن الليلة مقمرة بل كان السكون مخيفا ًلحد ٍما بسبب وعورة الظلام رغم تسلل حزم ضوئية من منافذ متفرقة بالشكل الذي يتيح رؤية الأشكال بغشاوة ، الأرض ممسوحة بوجع ليلي يطغي عليه أنين خافت ، عصام يمسك القدح بقوة وقد ذابت قطعة الثلج فيه تماما ً، تجمدت ْ يده جرّاء برودة القدح الشديدة ،ولا يمكن له أن يحتسيه لذا تركه جانبا ً، بدأ حجم القدح يكبر ، صار بحجم برميل – كيف لي أن أحتسيه ؟
في قعر البرميل / القدح تلبط أسماك صغيرة سوداء وديدان وكائنات لم يرها من قبل ، أصبح احتساء القدح أمرا ًمستحيلا ً، رفع عصام رأسه إلى الأعلى شاهد الغرفة وقفت شاقوليا ًعلى أحد أضلاعها العريضة ، السقف صار ضلعا ًأيمن ، الضلع الأيمن صار أرضية للغرفة ، أختفت النوافذ، عادت الغرفة إلى وضعها وتفككت الجدران ، أصبح عصام ملتصقا ًبالحائط كخفاش - أين أرضية الغرفة؟
خلع سرواله وعصب به رأسه وعينيه ، لا يريد أن يرى شيئا ً، صرخ بأعلى صوته، خانته حنجرته فلم يخرج الصوت كما ينبغي ودارت الغرفة دورات سريعة ثم بدأت تبطيء دورانها إلى أن استقرت ْبعض الشيء بينما ظل هو يدور في مكانه ، تلمس رأسه ليتأكد أنه لا زال في مكانه ، سحب خصلة شعر من فروة رأسه وفرك عينيه ، وجد حوله كائنات غير متجانسة كلها تصرخ باتجاهه، حصان يصهل ، كلاب تنبح ، ثعالب تعوي ، قردة تصيح ، دفن رأسه بين رجليه ووضع السروال على وجهه ثانية ، بدأت الكائنات تنسحب على شكل رهط منظم ، رفع السروال من وجهه فشاهد هياكل عظمية تسير باتجاهه، سمعها بأذنه وشاهدها بعينيه التي يأكلها الدود تتحدث فيما بينها وتطلق النكات حتى أن أحدى النكات جعلته يضحك من الأعماق رغم شدة الخوف ، سقطت جمجمة أحد الهياكل فتناولها وأعادها إلى مكانها ، إحدى الجثث تتكلم بصوت أنثوي ناعم وبغنج ، استلقى عصام على ظهره تاركا ً الجثث تتغازل وأخذ غفوة قصيرة جدا ً ، فتح عينيه رأى النجوم تتدلى قريبا ً من الأرض يطاردها القمر ويحاول ابتلاعها وهي تهرب أمامه مذعورة ، كانت له حاجة للصراخ لكنه خشي أن تتجمع حوله الكائنات الغريبة أو يدخل الغرفة الدوّارة مرة أخرى ، أسبل عينيه ، حاول النهوض ، يريد أن يركز على شيء لكن كل شيء بدأ ينفلت ، خانته قواه كثيراً ، النجوم والقمر بدأت بالتلاشي بعدما كفّت من المطاردة ، أعقبتها الهياكل العظمية بعد أقل من ساعة حيث فتحت ثغرة في الأرض ودخلتْ –أسمعُ صوت قبلات وضجيج وهمس – الهيكل الأنثوي آخر من دخل ، كانت عظامه ناصعة البياض ولمّاعة ، عظام الحوض كبيرة نوعا ً ما
بدأ يميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وقف رجلان على رأسه يحملان زنبيلا ًمن خوص النخيل ومسحاة ومعول ، حاولا تعديله من وضع الجلوس ، حدّق بهما ، وضع إصبعه في فمه وأفرغ ما في جوفه وبدأ يشتم ، تركاه فسقط على الأرض كصخرة ، ضرب أحدهما المعول بقوة على الأرض فاهتز المكان – هزة أرضية ثلاث درجات على مقياس ر يختر –
حفرا حفرة بطول مترين وعرض متر واحد ، عصام ينظراليهما كأشباح لا يكلمهم ولا يكلمانه ، وكأن أحدهما لا يعرف الآخر، بدأ التراب يعلو شيئا ً فشيئا وهما يختفيان شيئا ً فشيئا ، سمعهما يتحاوران حيث قال أحدهم لصاحبه :
نحن الآن بعمق أكثر من مترين ، أحملك على كتفي وأخرج واسحبني / طيب ..
خرج الأول وسحب صاحبه ، خرجا ، لم يستطع عصام النهوض ، تحدثا معه فلم يجبهما ، صرخا بوجهه ( تكلم ؟) لم يرد عليهما ، رفعاه من إبطيه وقالا له :
- أنظر في هذه الحفرة ؟
لاحت له عميقة جداً في الوقت الذي لاح الفجر بوضوح ، بدأ يميّز الأشياء أكثر من ذي قبل ، ناولاه قدحا ً من الماء من قربة كانا يحملانها معهما ، صبّا عليه الماء وغسلا وجهه،شكرهما وسألهما :
- ما هذا؟ ..قبر؟!
- لا..قصر.
- لمن ؟
- لك .
- لكنكما لن تستفيدا ، فمن يعطيكما أجركما لو دفنتموني؟
- لله.
- لكني حي.
- كيف تثبت ذلك؟
- هل يمكن تأجيل الموضوع ؟
- لساعات.. نعم
عادت إليه قواه بدليل أنه ركض بأقصى قوته متلويا ًبين القبور تاركا ً نعليه وبضعة سجائر متفرقة وزجاجة خمر فارغة مع حبّات عنب انفرطت من عناقيدها متمرغة في التراب ولم يبق لشروق الشمس أكثر من خمس دقائق ، إن لم تكن أشرقت في مناطق أخرى...