داء اللحن في الكلام بين الأمس واليوم
عدنان عبد النبي البلداوي
اللحن كما قال الفراهيدي (ترك الصواب في القراءة ..) وقال أبو علي القالي في كتابه الأمالي (لحَنَ الرجل يلحن لحنا فهو لاحن اذا اخطأ ..)
حظيت اللغة العربية بالرفعة والتكريم، فهي لغة القران الكريم، إضافة إلى ما تضمنته كتب الحديث والسنة وكتب التاريخ والأدب من روايات وأحاديث في تمجيدها والكشف عن ذخائرها البيانية والبديعية وقدراتها على المعاصرة وما حققته في ذلك رغم كل الحملات التي اتهمتها بالعجز عن مسايرة التطور الحضاري والتكنولوجي.
فكيف دخل داء اللحن الى ربوعها ومتى ..؟ ثم ما الذي فعله المسؤولون من السلف تجاه ذلك الحدث الطارئ ..؟
لاشك في أن وراء ذلك عوامل مختلفة، نذكر منها على سبيل المثال مايأتي :
1 - لما جاء الإسلام ونزل القران الكريم عربيا، هيمنت هذه اللغة الشريفة على أجواء المسلمين من غير العرب، فتعلموها رغبة في العلم، وتبركا في تلاوة كتاب الله العزيز، حتى أصبحت الحال أن ليس في مقدور هؤلاء بطبيعة الخلق أن ينطقوا بها كأهلها، فارتضخوا أنواعا من اللكنة .
2 - إن حياة المدنية وما فيها من المظاهر الإجتماعية والإقتصادية في الأسواق والمكاسب، وخروج القبائل من منازلها الى أجواء المدن التي كانت تحفل بالأجناس الأجنبية المختلفة، من أبرز المساهمات المتواصلة في تفشي داء اللحن ..
3 - إن مخالطة كثير من الأسر العربية لكثير من العبيد الخدم والجواري الإماء وغيرهم من الأجناس الأجنبية كان عاملا فاعلا في تفشي اللحن، ولا يخفى أثر هذه المخالطة في الحياة الداخلية لهذه الأسرة العربية ..
وعلى الرغم من توسع مصادر اللحن، فإن هناك عوامل مضادة ساهمت في صد ذلك الطغيان أو التقليل من شأنه، كهجرة القبائل العربية وتنقلاتها المتواصلة من الجزيرة، الحصن اللغوي المكين، الى الأمصار والمدن المفتوحة، ونخص المدن المفتوحة، لأن الفتوح قادت الى اختلاط الأجناس وقاد الإختلاط الى اللحن، ولايخفى ما لتلك الهجرة من أثر لغوي، لأنها كانت تمد العربية دائما بدفقات من دمها الأصيل وتغذيها مع كل هجرة بما فقدته بسبب الإختلاطات المضادة..
هذآ بالإضافة الى الجهود الفردية التي كان يقوم بها بعض الآباء بعدما أحسوا بخطر وباء اللحن، فبادروا الى إخراج أبنائهم من نطاق القصور والبيوت، وإلحاقهم بالبوادي او القبائل حينا من الزمن، ولولا تلك المحاولات ومآ شابهها لكان الفساد الذي لحق العربية أشد وأدهى فى الأوقات المبكرة الأولى.
ولاشك في ان هذه الدوافع الفردية لا يقوم بها الا من تعلق بالفصاحة تعلقا روحيا ، لأنها في مفهومهم جزء من الإيمان والعقيدة .. حتى أنهم كانوا يعتقدون ان اللحن يقطع الرزق، ويستعجبون ان يلحن التاجر ويربح، فمما يروى ان أعرابيا دخل السوق فوجد الباعة يلحنون، فضرب كفا بكف وصاح: سبحان الله يلحنون ويربحون
ولما كان عرب البادية يتكلمون بسلامة تامة، وبطلاقة لسان عربي مبين، يمثل الإنتماء الصريح الى الأصالة والنقاء، أصبح اللحن عارا على من يقع فيه من أشراف العرب ،لذلك لم يغفل القوم متابعة سلامة النطق ومحاسبة من يتهاون، وتحذير من يتعثر ..
وكان من شعاراتهم المتداوله (اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب) و (اللحن هجنة على الشريف) و (تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض) و (اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه).
وسار اللحن في الكلام الفصيح يدب هنا وهناك لأسباب ذكرنا بعضها، ولكن رغم شيوعه كان يجد أمامه مقاومة عنيفة، تهذب وتقطع وتحسم وتستأصل، ولاشك في انها كانت مقاومة ذات وجهتين:
- وجهة نحو القضاء على اللحن كظاهرة تتعلق باللغة وسلامة النطق،
- ووجهة نحو مقاومة أنصار اللحن ومروجيه.
وفي ضوء هذه السطور الموجزة لابد من الإشارة الى بعض جوانب واقع الحال الذي نحن فيه الآن:
1 - آن المتكلم في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، اذا لم يجد سبيلا لنطق الصواب (في الأقل حسن استخدام علامات الرفع والنصب والجر وهي من أوليات الدراسة المتوسطة) فعليه تسكين أواخر الكلمات أهون من ان يطرق الخطأ سمع من ليس له إلمام بالقواعد فيحسبه صوابا .
2 - لاشك في ان الوقوع في اللحن لايتناسب ولاينسجم ولايتوافق على الإطلاق مع الخطيب ، لأنه في الأقل درس (الأجرومية في النحو أو قطر الندى وألفية ابن مالك وغيرها كثير من قواعد العربية)
3- من شعراء العصر الحديث الذين دافعوا عن اللغة العربية الشاعر حافظ ابراهيم بقصيدته (اللغة العربية تنعى حظها )وهي القصيدة التي تحدث فيها على لسان اللغة وهي تشكو ماحصل لها:
رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتي
وَنادَيتُ قَومي فَاحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي
رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسْمَعُ لِلكُتّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً
فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
أنشد الشاعر القصيدة عام 1903، وكانت مصر ومعظم الدول العربية في تلك الفترة تحت الإحتلال الأجنبي. ونشأ نتيجة للإحتلال ثقافة فكر يحارب الثقافة العربية والإسلامية، ويقلل من شأن اللغة العربية، وينظر إليها على أساس أنها لغة متخلفة لا تصلح للعلم، ويجب إحلال اللغة الإنكليزية محلها، وسايرهم في هذا الإتجاه بعض المثقفين العرب الذين نادوا بأن تكون اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم، وكادت تطبق تلك الفكرة لولا الجهود التي بذلها علماء الأزهر وقيادات الأحزاب الوطنية المصرية وكثير من رجال الفكر، وكان الشاعر حافظ إبراهيم في هذه القصيدة المعبرة من الذين ساهموا في محاربة تلك الفكرة.
وفي الختام نصلي على نبينا الأكرم الذي كان أول من بادر الى متابعة سلامة اللغة العربية بطبعه وأصالته، وقد سأله احدهم عن عظيم فصاحته فقال:
(أنا من قريش ونشأت في بني سعد فأنـّى لي اللحن) وكان من متابعاته عليه الصلاة والسلام أن لحن رجل أمامه فقال: (ارشدوا أخاكم فقد ضل) ثم تبعه الخلفاء من بعده ما بين مرشد وموجّه ومقـوّم.