من وحي نص شرعت بكتابته، يفاجئني ابن سمعون الموثّق بالوجدان، بهذا النص (بين وطنين)
بأول مشاكسة - كما هي عادة عبدالكريم سمعون - يزرع لغماً في الآرض الحرام، حيث أورد (ما) ولم يقل (من)
فدعونا نتأمل هذه الـ (ما)..
وفقاً للمألوف هو قصد الصفة، لتكون للعاقل، ولكني أشك في ذلك، فشاعرنا لا يتنازل عن مفردة بهذه الأهمية منذ بداية الصولة.
وهنا عليَّ التوقف عند (ما) لغير العاقل، كوني واثق حد القطع بأنه يعنيها بكل خفاياها.. وبعودة إلى ثاني جملة قالها :
"لعلي سأفقد ماهيتي"
إذاً قد دخل مضمار اللعبة القتالية الفكرية بفلسفة وجودية إيمانية، بتشكيك مخصوص على فقدان الماهيّة.
وقبل الماهية سنعرّج على (لعل)..
وكما نعلم انه حرف ناسخ مشبَّه بالفعل، يفيد التوقُّع والترجِّي في الأمر المحبوب، والإشفاق من المكروه.
هنا سأحاول ربط (ما) بـ (لعل) و (الماهيَّة).
فالماهية تطلق غالبا على الأمر المتعقل، مثل المتعقل من الإنسان، والأمر المتعقل، من حيث إنه مقول في جواب ما هو، يسمى: ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج، يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار، هوية، ومن حيث حمل اللوازم له، ذاتا، ومن حيث يستنبط من اللفظ، مدلولا، ومن حيث إنه محل الحوادث: جوهرا، وعلى هذا فإن..
ماهية الشيء هي ما به الشيء هو (هو) وهي من حيث هي (هي) موجودة، ولا معدومة، ولا كلية، ولا جزئية، ولا خاصة، ولا عامة. وقيل منسوب إلى ما، والأصل "المائية"، قلبت الهمزة هاء لئلا يشتبه بالمصدر المأخوذ من لفظ: ما، والأظهر أنه نسبة إلى: ما هو؛ جعلت الكلمتان ككلمة واحدة.
بعد أن استذكرنا بعض فاعلية أدواته القتالية الثلاث، ألمعلنة.. علينا التأكد من سلامة النيّة من عدمها، رغم قناعتي الكبيرة، بأن سلامة النية، بريئة كبراءة الذئب من دم يوسف.
هبوط أول :
أكاد أتلاشى
لعلي سأفقد ماهيتي
وببرهة تركيز أسألني..
(ما) أنا؟.
إذاً هو كائن موجود، ولوجوده حث، وتأثير ، لكنه يشك بصلاحيته بعد أن تيقَّن أن جُلَّ المحسوبين على الجنس الآدمي، هم خارج خارطة الأشياء، لذا انتخب لنفسه جنساً آخر وأعتقد أن أفضل تسمية له (كَرَمــَــيئَيل)، نسبة إلى اسم يائيل الذي هو من الاسماء التي تحمل دلالات الحظ والنشاط والحيوية. وبالرجوع إلى أصل اسم يائيل نجد أن الاسم من أصل عربي أصيل، وهو اسم يشير إلى الحظ السعيد.
وأما حثَّه فهو أمر معلوم لدى المختصين في علم العدد اذ يكوِّن الرقم 270 أي أنه هوائي.. ولم أتخذ هذا كنوع من التنجيم، ولكني قصدت ربط الفيزيقيا بالميتا وإحالتها على كائننا (كرميئيل).
ووفقاً لهذا فمن الطبيعي أن يوظّف (ما) بدل (مَن)، حيث ربط الصفة (العاقلة) بكائن غير عاقل وفق اتفاقات العقل البشري المحدود الذي نصت عليه قوانين العقل الدولية، وعاقل وفق مفهوم (ألجنون أعلى مراتب العقل)، الذي نص عليه عمر مصلح في فلسفة المدركات غير المنظورة.
(ما) أنا؟.
أعتقد أننا حللنا طلّسم الـ (ما ) هذه، وتأكدنا من القصدية التي أشرنا إليها في بداية دخولنا حقل الألغام هذا.
(وببرهة تركيز أسألني)
والبرهة - كما تعلمون أيها السادة- أنها المُدّة من الزَّمان والجمع : بُرَه
والبرهة في علم الجيولوجيا هي مرحلة زمنية يقاس مداها بمئات آلاف السنين.
وبما آننا اتفقنا على أنه من جنس بشري مُعالج فكرياً فتطور إلى (كرم يئيل) فإن برهته منفلتة زمنياً وصولاً للمليون سنة، وبعد (هذه البرهة) يسأل ذاته.. ما أنا؟.
(لعلّي سأفقد ماهيتي)
وهنا استخدم الحرف المشبّه بالفعل للتوقع والترجي، ولكن ليس للأمر المحبوب، بل للإشفاق على ذاته.
ومن هذه الـ (لعل) انطلق بفكر الفقدانات، ودليله نظرية معتوه قبله ادعى أن الجنون أعلى مراتب العقل.
وسيفقد ماذا؟.
ماهيته.. الموجودة غير المعدومة، لا الكلية ولا الجزئية، ولا العامة ولا الخاصة!.
نعم أيهازالسادة.. هذا هو كرم يئيل.
"أكاد أتلاشى.."
أي لم يعد ظاهراً أو مرئياً، فتلاشى الشَّيءُ: فَنِيَ، اضمحلَّ وصار إلى العَدَم.
وتأكيداً على قناعتنا التي بنينا عليها هذا الهذيان، لم يقل أمت أو أُمسخ ، بل قال أتلاشى، أي أنه مخلوق بشري من نوع خاص شبيه بالـ (super man) ولكن يطيب لي تسميته بـ (Different human).
أظنكم انتبهتم إلى تناولي المقطع الأول مقلوباً، إذ ابتدأته من الأسفل هابطاً نحو الأعلى.. لأن عاقل (وفق مفهومي الخاص) لا يجوز أن يصعد إلى الأدنى، بل يهبط نحو الأعلى.
ولم أتناول النص كله من الأسفل كونه (ألشاعر) يسلسل مفاصله، بتلقائية ماجُبل عليه، قبل أن يُكرَّم بالجنون.
هبوط ثان :
"فأتوه..
مزق أشتات وشتات"
هنا استخدام كناية، أي أنه لفظ لايقصد منه المعنى التقريري أو الحقيقي (وفقاً لمعايير العقل التقليدي) وإنما معنى ملازماً للمعنى الـ (حقيقي) أي هو لفظ أُطلق، أريد به معناه لا أصل المعنى.
أي أراد التفرق والتشتت، من مفهوم العقل، والعقل هنا الـ (إستثنائي).
ولو هبطنا درجة واحدة لوجدنا استخدام لكلمة (أتوه)، ولم يقل جاؤوه.
وهذه مخاتلة قتالية من مخاتلاته، التي أعرفها تماماً.. حيث قصد المفرد لا الجمع، لأنه يرى الآخرين فرد، وهو جمع.. لذا تلاعب باللفظ، وقال أتوه قاصداً أتاه، أي أن المجتمع العقلاني أضلَّه وضيَّعه
ولو ربطنا الهبوط الأول باستهلال الثاني لتأكدنا من صحة ما افترضناه في البدء جدلاً، ليكون ثابتاً، ومصادق عليه من قبلي أنا كاتب هذه اللائحة المرفوعة إلى محكمة العقل الدولية.
"والكاف هي الفرق مابين هنا وهناك"
قبل أن الج عالم الكاف هذه علينا التوقف عند (هي الفرق)، فالفرق هنا ليست بمعنى التفضيل أو التقليل، ولا التشبيه - كما هو متفق عليه - بل أراد أن يبث دخاناً مسيلاً للزموع، كي يبوح بمكنوناته صراحة، ليقول بأنها دخيلة، إذ لا فرق لديه بين الهنا والهناك.. أي أنها هنا وهنا، لأنه متيقن من كونه غيمة ملمّة بالهطول، أنى ومتى شاء فكل الهنا والهناك هو هُناه هو.
إذ أن الكاف - كحرف - هي مهموسة، وابن سمعون لا يؤمن إلا بالجهر، وربما يستخدمها كمناورة مسائية في مخدع فتاة يعلوها العُجب والدلال، ذات مراهقة.
والـ (ك) أداة تشبيه كما هو معلوم، ولكن المغزى من وروده في هذه المعركة هو الكف وترك الهنا مقيمة في مفهوم العقل التقليدي والعقل الإستثنائي، وبكامل توحدها.
"أحاول عبثاً لملمتي
فأتوق لأبي"
إذاً هو عائد إلي، فأنا - وفق فهمي وفهمه - تسعى الفضيلة لنا من حيث نحن.
هبوط ثالث :
"أمي تجيد الدمع
والموت"
من هي أمه؟.
أقولها وبكل ثقة أنه قصد الحياة، بدلالة
"ألوطن بعيد
يسكن فوق ضفاف الغيم"
وأية حياة؟.
ألحياة التي يعتبرها - تبعاً للمنصوص عليه في فقرة الـ أنا من قانون الجنون - هي الهو أي الأنا، وهذا يقودنا للعودة إلى القناعة آنفة الذكر حيث أنه غيمة ملمّة بالهطول، أنى ومتى شاء فكلتا الهنا والهناك هي هُناه هو.
هذا ما جنيته من منادمتي لخِلِّي المعتق في دنان الروح أخي الموغل بالمحبة المسمى جزافاً
كريم سمعون.
كُتبت هذه اللائحة.. على شجرة صاموئيل بيكيت، أثناء غفلته، وهو ينتظر گودوبتمام الساعة الهامسة إلا رعب.
عمر مصلح / عراقي مغترب في بغداد.
31/شباط/2221 ق. م.