...
لاشك أن الايقاع (الوزن العروضي) هو قدر زائد في فن التعبير الأدبي، يجعل كثيرًا من الكلام النثري الجزل شعرا جميلا، يسهل حفظه ، ويتهيأ اقتناؤه.
ولكن حصر مسمى هذا النوع الرفيع من الأدب العربي في مجرد الوزن؛ حَيْدَة، وحيف، وضيق عطن...
نعم... من الضرورى المحافظة على الإيقاع وتراتبه ، وانسيابه بالقدر الذي يُعجِب ويُطرِب، دون خلل بادٍ، أو تكفّؤٍ مشين، أو عبثٍ نزِق، يغض من جلالة قدر الشعر، وعظيم خطره.
وإذا كان من سمات هواة الأدب، غير المحتفين به ولا المعظمين لقواعده التساهل في إجراء الشعر على وجهه إجراء يؤبَهُ به، ومن ثم اعتبار نزقهم (تعبيرا أدبيا) غير معهود في تراثنا لعلة انثلام الوزن فقط كما يرى البعض =فإنه لا يلزم من ذلك اعتبار عبيد بن الأبرص (مثلا) من هواة الأدب ، أو اعتبار أن معلقته الفذة لا تخرج عن كونها مجرد( تعبير أدبي) ، لعدم استيفائها شرائط الوزن، وقوالب الصنعة ،
ففيها من الاضطراب العروضي والتكفؤ الإيقاعي ما يحيلها - في أعين باديي الرأي - نبتا غريبا بوادٍ غير ذي شعر،
ولكثرة ما بها من هلهلة عروضية ؛ حار كثيرون في نسبتها لايقاع بعينه، بل أكثر من ذلك، عدًها بعضهم نثرا لا قصيدة..
ولكنها-رغم ذلك - تبقى معلقة عالية، رائقة المعنى، جيدة السبك ، بالغة الحُسن ،جزلة اللفظ، وإن رغمت انوف..
..
الشعر شعور وايقاع، وربط القيمة الشعرية بالشعور والأحاسيس؛ واجب شعري يتقدم غيره .. ولكن صرامة الوزن، والعكوف عليه؛ مما أحدثه المتأخرون، الذين انشغلوا بالشبق الرقمي، والحبكة الإيقاعية، دون أن يخرجوا علينا ببحر واحد سائغ شرابه... بل جُلّ ما أحدثوه؛ لا يعدو ان يكون أوزانا ثقيلة متكلفة، تجافي الذائقة المطبوعة، وتُباين سَنن العرب في أعرافهم الأدبية. وتنفر من وقعها السليقة الأم..
فهلا صببنا من أبحاثنا الحديثة على الشعور الشعري، والتذوق الأدبي عشر معشار ما نتناول به حدة الوزن وصرامة الإيقاع؟
إن التمحور حول العروض كَفَنٍ، وإفراد الأبحاث والصفحات الطويلة له؛ والتشقيق والتقعر فيه طولا وعرضا وتذييلا؛ لهو انشغال بالوسائل دون الأهداف، واغراق كئيب في جزئيات لا ينبغي العكوف عليها، والانشغال بها ( طويلا) ..
ثم ماذا بعدُ وقد فعلنا؟!
كان ينبغي إذِ استغرقنا وتعمقنا واستقصينا في العروض، عللا، وزحافات، وحركات، وسكنات وأرقام، وحسابات؛ ان تخرج لنا أجيال أكثر حصانة ورصانة وسبكا... لكن شيئا من ذاك لم يحدث، بل الذي حدث هو عكسه تماما؛ خلوف قد تتقن النظم ربما، وتوغل في تحرير رويّهِ وعلله وزحافاته ، ثم هي تنبو من غرض الإبداع الشعري، وتقصر عن فن معاقرة القصيد ..
فانقرض الشعراء أو كادوا ، وامتلأت ساحات الأدب بالناظمين المرجفين، الذين يظنون أن الشعر نظمٌ ، فجاء نتاجهم كثيبا مهيلا، سرعان ما تثور حدته، حتى تخور فورته.. ، وتسقط فَنّيّتُه من عين الشعر، كجلمود صخر حطّه السيل من علٍ
...
وإلا، فكيف الظن بمن خرج عن نهج الذين سبقوا، وتنكبوا صراطهم واستدبروا قبلتهم وانحازوا إلى غير جهتهم..؟!
لقد قرر علماء الصنعة لزوم الاتباع في التقاليد الفنية المأهولة، فلا يخرج اللاحقون عن نهج الأولين في أعرافهم الفنية، وأصولهم المرعية، بل ينبغي على المتأخرين - وجوبا- أن يلتزموا غرز المتقدمين وحرزهم، فيحاذوهم حذو القذة بالقذة، معترفين بسبقهم وتفردهم، مع قطع الطمع في اللحاق بهم ، أو توهم محاذاة ركبهم او محاكاتهم ..
يقول ابن قتيبة في ( الشعر والشعراء):
ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻤﺘﺄﺧّﺮ اﻟﺸﻌﺮاء ﺃﻥ ﻳﺨﺮﺝ ﻋﻦ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﻤﺘﻘﺪّﻣﻴﻦ ﻓﻰ ﻫﺬﻩ اﻷﻗﺴﺎﻡ، ﻓﻴﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﻣﻨﺰﻝ ﻋﺎﻣﺮ، ﺃﻭ ﻳﺒﻜﻰ ﻋﻨﺪ ﻣﺸﻴّﺪ اﻟﺒﻨﻴﺎﻥ، ﻷﻥّ اﻟﻤﺘﻘﺪّﻣﻴﻦ ﻭﻗﻔﻮا ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻨﺰﻝ اﻟﺪاﺋﺮ، ﻭاﻟﺮﺳﻢ اﻟﻌﺎﻓي . ﺃﻭ ﻳﺮﺣﻞ ﻋﻠﻰ ﺣﻤﺎﺭ ﺃﻭ ﺑﻐﻞ ﻭﻳﺼﻔﻬﻤﺎ، ﻷﻥّ اﻟﻤﺘﻘﺪﻣﻴﻦ ﺭﺣﻠﻮا ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎﻗﺔ ﻭاﻟﺒﻌﻴﺮ. ﺃﻭ ﻳﺮﺩ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻴﺎﻩ اﻟﻌﺬاﺏ اﻟﺠﻮاﺭﻯ، ﻷﻥّ اﻟﻤﺘﻘﺪّﻣﻴﻦ ﻭﺭﺩﻭا ﻋﻠﻰ اﻷﻭاﺟﻦ اﻟﻄّﻮاﻣﻰ. ﺃﻭ ﻳﻘﻄﻊ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻤﺪﻭﺡ ﻣﻨﺎﺑﺖ اﻟﻨﺮﺟﺲ ﻭاﻵﺱ ﻭاﻟﻮﺭﺩ، ﻷﻥّ اﻟﻤﺘﻘﺪّﻣﻴﻦ ﺟﺮﻭا ﻋﻠﻰ ﻗﻄﻊ ﻣﻨﺎﺑﺖ اﻟﺸيح ﻭاﻟﺤﻨﻮن ﻭاﻟﻌﺮاﺭﺓ ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﻘﻴﺲ ﻋﻠﻰ اﺷﺘﻘﺎﻗﻬﻢ، ﻓﻴﻄﻠﻖ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻄﻠﻘﻮا.
ومما يلزم ذكره قبل انتهاء هذه المقالة ما ذكره ابن قتيبة، ان الأصمعي- وهو من هو في تقديم وتأخير الشعراء وتحديد طبقاتهم- قد استذوق قول المرقش :
ﻫﻞ ﺑﺎﻟﺪّﻳﺎﺭ ﺃﻥ ﺗﺠﻴﺐ ﺻﻤﻢ .. ﻟﻮ ﺃﻥّ ﺣﻴّﺎ ﻧﺎﻃﻘﺎ ﻛﻠﻢ
ﻳﺄﺑﻰ اﻟﺸّﺒﺎﺏ اﻷﻗﻮﺭﻳﻦ ﻭﻻ ... ﺗﻐﺒﻂ ﺃﺧﺎﻙ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﺣﻜﻢ
فيعلق ابو محمد قائلا :
ﻭاﻟﻌﺠﺐ ﻋﻨﺪﻯ ﻣﻦ اﻷﺻﻤﻌﻰ، ﺇﺫ ﺃﺩﺧﻠﻪ ﻓﻰ ﻣﺘﺨﻴّﺮﻩ ، ﻭﻫﻮ ﺷﻌﺮ ﻟﻴﺲ ﺑﺼﺤﻴﺢ اﻟﻮﺯﻥ، ﻭﻻ ﺣﺴﻦ اﻟﺮّﻭﻯّ،....
وفي هذا المثال تأمل طويل ينبغي أن يكون..