اعني :
نص إنموذج في البناء و مجمل المضامين ( الرسالة ) و أحببت في التصدير أو العنوان : الطلب ، الالتماس ، الدعاء ، الرجاء ...الخ دونما تحديد واضح مباشر للمخاطب ؛ فهو تصدير واع ذكي للنص ، يروح بالمتلقي في غير بعد ، و كأني بشاعرتنا تشرك القارىء في هذا النص و تطلب منه أن يصيغ أبياتا بإجابات يضاف لنصها، إضافة إلى بوحهها الخاص وأحببت تركيب: أعني / أعرني اللذان تناغمان مع قافية النص و تحديدا الروي و رسالة أو مضمون النص بشكل عام ؛ ثم تمويه القارىء و المتلقي عن المخاطب الحقيقي في مراد الناصة ، وأحببت البحر – وهو الطويل كما لا يخفى - ..الذي أعطى إيقاعا من نوع خاص مع مجموعة الأنساق اللغوية المنتخبة ، و مجمل التقنيات البنائية ...الذي زين النص في حلة بهية ...أعني: قرأته حكاية أو رواية زخرفتها الناصة قصيدة بوح و معاناة من نوع خاص و ذات أبعاد مختلفة ؛ سيكولوجية و نستولوجية و فلسفية : يحكي الماضي و الحاضر والقادم ،و يحكي عن كثير، وإنموذج لنصوص ما بعد الحداثة في تحولاته و تجديده و حُسن ابتكار صوره في بيان ساحر مع الحفاظ على الثابت ، و قد تكفل المطلع ، و بالإسلوب الذي أشرت إليه أيضا باسستفزاز قريحة المتلقي لقراءة النص بعناية و تأمل ، مترافقا مع الإيقاع – وأعني هنا الإيقاع الصوتي - بشكل عام و الوزن / البحر و قافيته ورويه بشكل خاص بتناغم مشاعر الناصة أفقيا مع عمق معاناتها عموديا ؛ فتجدنا في نهاية كل بيت نئن مع الناصة ... و لا أظن أن المطلع جاء بهذا الأسلوب من غير دلالة ، و قد تتضح هذه الدلالة في بناء النص أفقيا و عموديا ؛ فنجد تساؤلات البيت الثاني نستولوجية و فلسفية ؛ فكان مطلعا قويا ذا أسئلة لاهثة في خبايا الذات عند الناصة :
الناصة أنسنة أفكارها هنا و خاطبتها ، بعدما فلسفت اللفظ و التركيب معا في نسق لغوي في الدال و المدلول في البعد الإشاري لرسالة النص في البوح على مستوى المضمون ، وأطلقت بوحهها و ألمها ، وأن تضيع الأفكار خطوتها على هيئة خيانة ( إنعدام التذكر ) لعمري منتهى الإبداع ...!! أما على مستوى البناء فثمة إشارة ذكية لوقوفها على الأطلال ، لكن على طريقتها ، من خلال تناص ذكي مع رائعة ابن الفارض و هي على الطويل أيضا و مطلعها :
سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي
وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ
فَأَوهَمتُ صَحبي أنَّ شُربَ شَرابهِم
بهِ سُرَّ سِرِّي في انتِشائي بنَظرَةِ
وبالحَدَقِ استغنَيتُ عن قَدَحي ومِن
شَمائِلِها لا من شَموليَ نَشوَتي
ففي حانِ سُكري حانَ شُكري لِفِتيَةٍ
بِهِم تَمَّ لي كَتمُ الهَوَى مَعَ شُهرَتي
سنة الشعراء الأصايل هنا ، و من الطبيعي أن يلوذ الشعراء بالصمت ؛ ففيه الحكمة و التأمل و تقليب التجربة في الجانب الجواني ؛ على أنه صمت في الغالب ينتج إبداعا فيه الفارق و الدهشة و سحر البيان ، و من أجمل ما قرأت مؤخرا ، في قولها :
حكيمٌ هوَ العقلُ الذي باعَ طيشَهُ
وأعرضَ عن نفسٍ خؤونٍ وزلّةِ
.
عُذيركَ إنَّ العُذرَ لا يجرحُ الإبا
ولا يُحسنُ التنفيسَ عن كبتِ محنةِ
الصورة في البيت السابق !! وهنا تنفلت الذات من الذات إلى الآخر لتناجيه باحثة معه عن مخرج من خلال نداء بوليفني – يحسب للناصة في حسن التخلص من خبايا الذات – و يكون علاجا سيكولوجيا يلجأ له أهل البوح :
.
وأغربُ ما لاقيتهُ فيهِ أنَّ مَنْ
أحبَّ بعمقٍ باتَ عُذرًا لدمعتي
.
وأغربُ مِن ذا أنَّ ساعاتهُ ارتقت
صُعودًا وفي الفقدانِ تهوي بحفرةِ
.
وإنْ شئتَ هدرًا أنْ تواريهِ بُرهةً
فليسَ لمسقامٍ مواراةُ سَعلةِ
...و أشير هنا ، و من خلال جمل النداء والاستفهام في البيتين السابقيين ، والديالوج الظاهر و الخفي بين الأنساق اللغوية إلى نجاح الناصة في نقل التقنية البولوفنية من الرواية للنص الشعري ، ما هو إلا إبداع من نوع خاص ، يؤسس لإيكولوجية ذات نفس راق ... هذه التقنية و خلطها بمدارس ما بعد الحداثة مع الحفاظ على الثابت ، فكيف أتت للناصة واعية أو غير واعية ؟ والإجابة طبعا لها علاقة قوية بصدق و أمانة الرسالة ؛ فنقرأ مثلا و بشكل غير متوقع في البيت التالي وببعد إيكولوجي فرضه صدق الناصة :
بما أنني لم أقترف سوءةً فما
سوى الحبِّ ظُلمًا يقتنيني لتُهمتي
و نعود إلى لفظتي أعني و أعرني والتكرار و ما أحدث من معنى و دلالة:
من التي كانت في غفلة ؛ بطلة هذا النص ، أم الحكاية التي زخرفتها الناصة قصيدة شعرية ، أم تجربة ما رصدتها من واقعها ....الخ ؟ لا سيما إذا علمنا أن اللفظتين نخطب بهما الأشياء كلها –لا سيما في المخيال ؛ فهل تختلف معاني و دلالات الأنساق اللغوية والإشارية السيميائية لتزيد من جمال القصيدة التي صورتها آلة موسيقية ذات أوتار باكية في ؟ و هل جددت الناصة في تحول من نوع خاص مع الحفاظ على الثابت في الوقوف على الأطلال ...؟! سؤال أعلقه و لن أجيب عليه الآن ؛ لأن إجابته بحاجة لقراءة إيقاعية غير صوتية / سمعية و ذلك في الجانب الخفي للحركة الإيقاعية جوانية النص ؛ وقد تسنح لي فرصة عبر منتديات النبع بحوله تعالى لأن الحديث يطول ...
... مما أذهلني التناغم الذي أظنه مدروسا و مشتغلا عليه في المطلع الذي جاء على وجه الطلب ...الخ:
الطلب/ الاستعانة
أعنّي على قلبي وطاوعْ مَحجّتي
وخُذ شيبَ أشواقي على محملٍ فَتي
و نجد إجابته في القفلة :
ستنجبُ تمرًا يملأُ الغيثُ جِرمَهُ
كما مُلئتْ جورًا مفازاتُ أمّتي
دونما تحديد مباشر للمطلوب منه ؛ و هذا يعني أنها تخاطب ما يمكن أن نستكنهه و لن ليس على وجه اليقين ، و هنا الفارق و الدهشة و تعود لتربط القفلة بالمطلع :
إذا السعفُ يومًا فارقَ الجذعَ مُرغمًا
وأودعَ كنفَ الأرضِ ميراثَ نخلةِ بطريقة أيكولوجية لم أٌقرأ مثلها فنيا من فترة طويلة جدا.... !!
في هذا النص الكثير مما يمكن نبشه و الحديث عنه ؛ على أنني أحببت إضاءة بعض الجوانب في تحولات الناصة في تجديد من نوع خاص معترفا بتقصيري بحق هذا النص الذي يستحق ما هو أكثر ...
.....أشكر أخيتنا و مبدعتنا الشاعرة أ. هديل الدليمي على هذه الرائعة ،
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين