المؤثرات الإنكليزية في تجربة السيّاب الشعريّة عدنان المكارم
المؤثرات الإنكليزية في تجربة السيّاب الشعريّة
عدنان مكارم
مدخل:
في البدء سوف أحاول تقديم صورة القصيدة الحديثة التي خرج بها السياب إلى الواقع الشعري، والتي كانت أول محاولة تجديدية في نمطية القصيدة العربية منذ ولادتها.
ولكن قبل البحث في هذه المحاولة، لا بد من ذكر بعض الملاحظات التي تسبر فهمنا لظاهرة الحداثة في الشعر العربي وعلاقتها بالنقد.
1-إن علاقة النقد بالحداثة هي علاقة تلازم وتساير، فقراءة الحديث بمفاهيم كلاسيكية يجعلنا نتخبط بالهوة العميقة التي تحصل ما بين الأثر الأدبي ومقاييس النقد، وعلى الناقد تحت تأثير هذه العلاقة أن يتوقف عن طرح السؤال القديم، ما معنى هذه القصيدة؟ وما موضوعها؟ لكي يسأل السؤال الجديد ماذا تطرح عليَّ هذه القصيدة من أسئلة؟ وماذا تفتح أمامي آفاق؟.
2-إن كل دراسة للشعر الحديث لا تربط بين مستويات القصيدة الأساسية (الشكل –المادة –اللغة) وبشكل جدلي هي دراسة قاصرة وعاجزة عن فهم العلاقة القائمة بين الثقافة والوجود الاجتماعي. وبخاصة فإن الثقافة هي شكل الوجود الاجتماعي وترتبط مع هذا الوجود بآصرة رحم فتؤثر وتتأثر.
3-إن التغييرات التي حدثت في شكل ومضمون القصيدة كانت انعكاساً لتغيرات جذرية حصلت في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإنسان العربي، ولذلك يجب النظر للقصيدة الحديثة على كونها تؤرخ وبشكل مركز لمدى تفاعل مبدعها مع مجمل الظروف السالفة، وبالتالي فهي صورة مكثفة للزمن الذي وجدت فيه مع الانتباه إلى أنها لا تحمل محتوى أيديولوجيا، حيث أن الفن ليس أيديولوجية بكل معنى الكلمة ولهذا تعيش الآثار الفنية بعد زوال الأوهام الأيديولوجية .
4-على النقد أن ينظر إلى ظاهرة الحداثة بكونها ليست حداثة واحدة في كل الشعر العربي، بل هي متعددة بتعدد من يكتب فيها. ولا سيما أن الحداثة ليست مدرسة شعرية (كالرمزية والواقعية و....) فيحاول شعراؤها أن يكوّنوا من ضمن لغة واحدة مرتبطة بقوانين وأحكام يعملون على الالتزام بها. ولذلك يجب أن تتعدد مدارس النقد الأدبي بتعدد أنواع الحداثة.
هذه الملاحظات بظني هي التي جعلت أي دراسة نقدية لظاهرة الحداثة فقيرة ومفتقرة للغوص في أعماق التجربة وكشف مكنوناتها. بالرغم من أن الحداثة قطعت الأعوام الطوال من مسيرة إثبات أصالتها.
وعودة على بدء –سوف نوضح تجربة السياب مع الحداثة. معتمدين على النتائج المباشرة دون ذكر الأسباب التي ساعدت للوصول إليها، وذلك توخياً لعدم الإطالة في هذا الموضوع الذي يقوم أصلاً على إبراز المؤثرات الإنكليزية في شعر السياب.
أ-الحداثة في المادة:
لقد هجر السياب الموضوعات القديمة التقليدية، ليتطرق إلى موضوعات تكشف عذابات الإنسان في العصر ومع الاهتمام بهذه الموضوعات برزت لديه قضية فهم هذه الموضوعات بمنظور عصري تقدمي، فتغيرت لذلك وظيفة الفن لديه، وأصبح الشعر إطلالة على الحياة الاجتماعية يعبر عن آلامها ويبرز مشاكلها ويضع الحل الأسمى لهذه المشاكل والمعضلات، وبذلك أخذت الحداثة في المادة منحى جديداً مهمته ليست ملاحظة شواهد العصر ولكن فهم روح العصر . استعمل الإسقاط الأسطوري على الحياة الاجتماعية فنمت القصيدة لديه وارتبطت بالجماهير العادية بعد أن كانت تعيش في ضياع أو في نوع من الحرج أمام السلطة الحاكمة القاتلة لكل تقدمي.
2-الحداثة في الشكل:
لم يكن التطور الشكلي الذي ابتدعه السياب ضرباً من التجريب المرحلي، وإنما كان تغيراً على مستوى الشكل فرضته ظروف العصر وروحه، بعد أن كان شكل القصيدة القديمة الذي ورثه العربي يحمل ويعبر عن زمن وجوده السابق. فجاء تاريخ 29 /11/ 1946 ليسجل مرحلة شكلية جديدة في تطور الشعر العربي وهو تاريخ نشر أول قصيدة تأخذ نمط التفعيلة وتكسر طوق البحر الخليلي القديم، وهي قصيدة "هل كان حباً". وفي تلك القصيدة بدت بوادر الحداثة على الشكل التالي:
1-تغير في استعمال بحر الرمل وتفعيلاته إذ أن السياب استعمله فيها دون ترتيب عددي للتفعيلات في الشطر الواحد. وقد علق السياب في الحاشية "هذه قصيدة من الشعر المختلف الأوزان والقوافي".
2-تغير في استعمال نمطية القافية وعدم التزام روي واحد في كل أبياته.
هذه الثورة على البحر والقافية سجلها بدر شاكر السياب كخطوة أولى لنشوء الشعر الحديث، وبذلك أسقط مفهوم الشعر الشكلي القديم الذي أوصله بعضهم إلى فراغ ممتلئ بالرنين، وقد لعبت "شعر" في ذلك الوقت دور المنبر لإيصال الشعر الحديث من شعر منفصل إلى شعر منفعل إلى شعر فاعل بالأحداث تدريجياً.
3-الحداثة في اللغة:
تنبع الحداثة في اللغة لدى السياب من الجمع بين الشكل والمادة، واعتبارهما شيئاً تام الأجزاء، ولا يمكن فصل بعض عن بعض ولا يمكن فصل بعض عن بعض أو محاولة تحجيمه. وبذلك أخذت اللغة وظيفتها الحيوية، فهي رؤيا فنية للإنسان عبر التاريخ وتكمن قوتها في تدميرها للعادي والمألوف، وتتوالد وتنمو من انصهار الشكل بالمادة، وترتبط حداثتها باكتشافها للمعطى الجديد، وهذا الأمر في وظيفة اللغة استقاه السياب من إيليوت الذي كان يرى في اللغة أنها تمثل الشيء، وهي وثيقة الصلة بهذا الشيء إلى درجة أنه لا يمكن للقارئ أو الشاعر أن يعرف أي شيء تقوله القصيدة بعيداً عن كلمات القصيدة.
بين السياب وشيلي:
تعود بداية معرفة العرب بالشاعر الإنكليزي "بيرسي بيتش شيلي" إلى عام 1944 حين تقدم أحمد الصاوي للمطبعة بترجمة كتب ملخص عن شيلي كتبه "اندريه مورو" ولكن قبل هذه الترجمة كانت تكتب عن شيلي بعض المقالات القصيرة لا تتجاوز الترجمة لحياته شاعراً.
ولكن المعرفة الحقيقية لأعمال شيلي حصلت عندما ترجم الأستاذ "لويس عوض" مسرحية شيلي "بروميتوس طليقاً prometheus unbound في عام 1947 وقد صدرها المترجم بمقدمة طويلة تتحدث عن فكر وأدب شيلي التقدمي. ومما دعا المثقفين العرب للاطلاع بلهفة على المسرحية كون المترجم كان قد أقنع الشباب بيساريته بعد قدومه من بلاد الضباب في ذاك الوقت.
أما بالنسبة للسياب فإنه يذكر ضمن رسالة بعثها إلى خالد الشواف بتاريخ 11 /7/ 1944، أنه وهو يقرأ بالإنكليزية بعض القصائد للشاعر شيلي، وصله كتاب "الصاوي" السالف . ولا بد أنه اطلع على بعض القصائد الرومانسية الأولى لهذا الشاعر.
ولعل قصيدة شيلي "الملكة ماب" كان لها الدور الكبير في ترسيخ نظرة السياب حول "البغاء" الأمر الذي تمحور شعراً لينتج قصيدة السياب المشهورة "المومس العمياء" . ولنرى مدى تأثير شيلي على تلك القصيدة. يقول شيلي في الجزء الخامس من "الملكة ماب"
التجارة رسمت وسم الأنانية، ميسم قوتها الذي يستعبد الجميع
ذاك المعدن البراق –الذهب –
أمام جبروته يسجد العظام الأذلاء، والموسرون الضعفاء، والمتكبرون البؤساء
وكذلك فعل السياب في "المومس العمياء" فالبغاء مرض اجتماعي ينتج عن توزيع الثروة بين الناس.
المال شيطان المدينة
لم يحظ من هذا الرهان بغير أجساد مهينة
"فاوست في أعماقهن يعيد أغنية حزينة
المال شيطان المدينة، رب فاوست الجديد
جارت على الأثمان وفرة ما لديه من العبيد
وهذه العلاقة بين سوء توزيع الثروة والبغاء قد استشفها السياب من حاشية كتبها شيلي على قصيدته "الملكة ماب" وفي هذه الحاشية أورد:
"إن شغفنا بالمعادن الثمينة وما يجره ذلك الشغف من انقسام الأمة إلى فقراء وأغنياء وما ينشأ عن ذلك من ضرر اجتماعي، فالبغاء مثلاً نتيجة لنظام الزواج الخاضع لقوانين جائرة قامت لتخدم المجتمع التجاري الذي يربط ما بين الرجل والمرأة بكونها سلعة"
أنشودة للريح الغربية: (ode to the west wind)
تعد قصيدة شيلي "أنشودة للريح الغربية" خير ما كتبه هذا الشاعر، وقد نظر إليها النقاد دائماً على أنها تمثل الرومانتية القوية بأجلى مظاهرها، وفوق ذلك عدوها من أبدع ما قيل من الشعر على مستوى العالم كله وصفوها بأنها (قصيدة القصائد وترنيمة عالمنا الخاص)
ولكن بالرغم من شمولية هذه القصيدة وعالميتها، هناك عدة عوامل يمكن لنا من خلالها مقارنتها بقصيدة السياب "أنشودة المطر" وهذه العوامل هي:
1-إن موضوع القصيدتين هو موضوع واحد يرتكز إلى "البعث الفكري للحضارة" والمقرون ببعث الطبيعة.
2-إن القصيدتين تنموان داخلياً حسب حركة الأفكار والمشاعر المسيطرة عليهما.
3-في القصيدتين الطبيعة هي المشكلة لإطار الحياة المنفعلة، وتجري الحركة في الطبيعة وفي القصيدتين بشكل جدلي لا يدع المجال للتفريق بين هذه الثنائية.
4-تربط القصيدتين خاصة أساسية يتحد فيها تجدد التاريخ الإنساني والوعي البشري عبر تجدد الطبيعة الخارجية.
5-إن الغنى الهام في القصيدتين يعتمد على إبراز التفاؤل ضمن التشاؤم، والانتقال بصورة متناوبة لإبراز المغزى الشمولي للقصيدة (البعث –الثورة).
لهذه العوامل ولعوامل كثيرة غيرها يمكن أن نجد صلة رحم بين القصيدتين مردها بظني إلى تمثل السياب لقصيدة شيلي وتأثيرها في مجمل شعره. فما هي التركيبة الداخلية لقصيدة شيلي؟
تتألف هذه القصيدة من خمسة مقاطع متداخلة، ففي المقطع الأول يخاطب الشاعر الريح الغربية (محاكاة الطبيعة لدى الرومانتيين) وتبدو الطبيعة في هذا المقطع قاتمة تجللها الألوان الشاحبة.
يا رياح البحر العاصفة، يا نفساً ينبعث من كيان الخريف، أنت
يا من تساق أمام وجودك الخفي الأوراق الميتة كأشباح تولي هاربة
من ساحر، صفراء، وسوداء، وشاحبة، وحمراء محمومة
جموعٌ روعها الوباء. أنت.
ومن خلال هذا الجو الشاحب، والطبيعة الحزينة، يبرز التفاؤل والأمل، ليعطي حقيقة الأشياء في الطبيعة إذ أنه لم يقدم الصورتين المتناظرتين للخريف (الحزن) وللربيع (التفاؤل) على أنهما منفصلتان بل قدمهما على أنهما متداخلتان وتؤلفان وجهين لحقيقة واحدة.. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يقصده الشاعر بالرياح الغربية إنها رمز مستعار من الطبيعة لحركة الحياة الدائبة، بل هي دستور الحياة وجدليتها المستمرة.
حتى تجيء أختك اللازوردية، ريح الربيع، وتنفخ في بوقها فوق الأرض الحالمة.
فتدفع البراعم الحلوة أسراباً تغتذي في الهواء، وتملأ السهل والتل بالعبير والألوان الحية وفي المقطع الثاني يقدم لنا ثنائية الطبيعة مرة أخرى، ولكن بصورة أكثر عنفاً وقوة فالرياح أخذت شكل العاصفة التي تشبه حركتها حركة شعر الراقصات اليونانيات وهن يرقصن في مهب العاصفة، وهنا يقدم لنا شيلي أهم خاصة في القصيدة وهي (الذوبان في الطبيعة) واعتبار الإنسان جزءاً هاماً فيها.
وفي المقطع الثالث يقدم لنا الطبيعة البحرية وقد هبت عليها الريح فكشفت عن أستارها الدفينة في أعماقها ليعكس لنا الأفكار الدفينة في أعماق البشر المنصهرين كلياً في الحلم البحري.
وفي المقطع الرابع تظهر صورة الإنسان المؤمن بالتغير ورافع راية التحدي للطبيعة من أجل تغيرها داخلياً.
آه، ارفعيني مثل موجة أو ورقة أو سحابة،
ها أنذا أسقط على أشواك الحياة، ويسيح دمي
إن وطأة الحياة الثقيلة قد غلت وأحنت، إنساناً يشبهك أنت
شروداً، سريعاً، متكبراً.
وفي المقطع الأخير تأتي النتيجة فالبذور التي زرعها شيلي تحت الأرض أنبتت عند قدوم الربيع وتفجرت حياة الأرض وانطلقت البراعم الخضراء، تفجر السهوب في ميلاد يوم جديد، فهو وإن جعل ثنائية الطبيعة (الموت والحياة) وثنائية الإنسان (التشاؤم، والتفاؤل) مسيطرة ومتناوبة إلا أنه أخيراً غلَّب نزعة الحياة على الموت في الطبيعة ونصر نزعة التفاؤل على التشاؤم في الإنسان. وهذه إحدى خصائص المدرسة الرومانتية الإنكليزية المفارقة في هذه الخاصة للمدرسة الفرنسية (لا مارتين مثلاً)
أنثري كالشرار والرماد من مجمرة لا تخبو، كلماتي بين الشر.
وكوني في شفتي بوق نبوة للأرض الغافية.
أيتها الريح! إذا أقبل الشتاء فهل سيتأخر الربيع طويلاً.
وأخيراً تمتزج لغة الطبيعة (الريح) مع لغة الإنسان وتقوم الريح بحمل أفكاره نحو بعث الوعي التاريخي، وأنشودة المطر –عند السياب تقوم على نفس هذه الركيزة.
فالموت والحياة جدلية واضحة ومن تداخلهما يبرز البعث الفكري للحضارة، ويقوم (المطر) كعنصر فعال في الطبيعة بمهمة الريح نفسها في قصيدة شيلي.
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئن، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج، والرعود، منشدين
مطر.. مطر.... مطر
ولما كانت رياح شيلي تحمل ثنائية (الموت، والبعث) فإن مطر السياب أيضاً لها نفس الخاصية. فهي:
كالدم المراق، كالجياع، كالحب
كالأطفال، كالموتى –هو المطر –
وبظني أن هذه الرمزية الثنائية للمطر لم يكتشفها شيلي أو السياب أو ولا حتى ايليوت الذي استعملها كعنصر مرمز في كل شعره، بل هي رمزية لا واعية وجدت في الشعر العربي القديم، وتم للجاهلي اكتشافها عبر مراقبته لحركة الطبيعة المؤثرة في مجمل حياته حيث أن المطر في الشعر الجاهلي مرتبط بالفرح والحزن كلاهما ولذلك فهو يتداعى مع معاني الحياة والموت في حالات كثيرة منه..
والميلاد الجديد (ميلاد الربيع) في قصيدة شيلي هو نفسه عالم الغد الفتي عند السياب. إلا أن (الأنا الرومانتية) الطافية على السطح في قصيدة شيلي قد ذابت في الجماعة عند السياب وهذا ينبع من المرحلة الواقعية التي كتب فيها " أنشودة المطر" يقول شيلي:
أيتها الثائرة ادفعي أفكاري الميتة، في أرجاء الكون
كما تدفعين الأوراق الذابلة لتعجلي
بميلاد كون جديد.
ويقول السياب:
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي، واهب الحياة
أما بالنسبة للصور الجميلة التي زخرت بها قصيدة السياب فيمكن رد جذورها إلى فهم شيلِّي لتركيبة الصورة التي تعتمد على الأصول الأساسية التالية:
آ-المزج بين الحسي والمجرد بشفافية أثيرة
ب-المزج بين الواقع والمثال في الصورة حتى ليغدو أن الفصل بينهما أمر في غاية الصعوبة.
ج-صناعة الصورة تقوم على التقابل التناظري بين ما هو معنوي ومجرد من جهة وبين ما هو حسي واقعي من جهة أخرى.
ولنأخذ صورة واحدة من الصور المشهورة للسياب لنرى مدى التطابق والتشابه في صناعة الصورة عند الشاعرين.
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء، كالأقمار في نهر.
هو يريد أن يصور عين المرأة –أو لنقل بالذات عين المرأة الحوراء –فاستعمل ظلال السحر لسواد العين عند انعكاسه على غابة النخيل واستعمل أيضاً أشعة القمر وقد غاب إلا أقلَّه عن الشرفة.. هذه اللفتة في الجمع بين ما هو معنوي وما هو حسي لم تكن لتوجد في صور السياب، إن هو لم يكن قد قرأ شيلي وتأثر في معطيات صوره. وهذا كله لا يعدم كون السياب صوَّر البيئة وتمثلها خير تمثل في شعره، فصورة الخليج وصداه عنده تنم على تقنية خارقة في توسيع الصورة وغناها. لنرى:
أصيح بالخليج "يا خليج، يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى، فيرجع الصدى كأنه النشيج: يا خليج
يا واهب المحار والردى.
هذه هي صورة الخليج والإنسان، صراع بين قطبين، أحدهما يحتاج الآخر، أو أحدهما هو الآخر نفسه. ولكن الخليج الذي يمنح المحار هو الخليج نفسه الذي يمنح الردى. وحين يصرخ الإنسان بالخليج لا يعود له سوى الصدى، صدى الأرواح الأسطورية والهياكل العظمية، صدى رجال كانوا في يوم ما. (فغاب اللؤلؤ وبقي المحار والردى).
وهكذا نرى أن شيلي يؤثر في السياب إن كان في سبات الطبيعة التي يتولد منها البعث، وإن كان في امتزاج الإنسان بعناصر الطبيعة أو إن كان في استعمال عناصر الطبيعة الواقعية وإضفائها على معنويات البشر أو إن كان في كل هذه الأشياء مجتمعة.
بين السياب وستويل:
يمكن للمرء المتتبع للتطور الشعري عند السياب من وضع أصابعه بقوة على مرحلة العطاء الشعري الكثيف من حياته، ويمكن بالتالي تحديدها في فترة الخمسينات وبهذه الفترة نفسها تمكن السياب من التعرف على أدب شاعرة إنكليزية تعالت شهرتها حينئذ هي "ايدث ستويل" وتبدأ رحلة الكشف عن هذا الكنز الإنكليزي عندما قدم للعراق مع المهاجرين الأديب الكبير "جبرا إبراهيم جبرا" وعين مدرساً في دار المعلمين العليا –والتي تخرج منها السياب –
وفي تلك الأثناء تمكن السياب من التعرف على جبرا واستعار منه كعربون صداقة كتاباً في اللغة الإنكليزية يحتوي على مختارات من شعر ستويل في الفترة ما بين 1920 –1947 وقد أعجب السياب بأسلوب وفكر هذه الشاعرة كثيراً حتى أخذ يضمن قصائده في تلك الفترة بعض المقاطع من أشعارها. وقد زاد شغف السياب بشعر ستويل في حدود عام 1954 أي بين نشر قصائده العظيمة حفار القبور 1952 والمومس العمياء 1954 . وفي تلك الفترة يترجم قصائد مختارة من الشعر العالمي لعدد من الشعراء من بيتهم ستويل واليوت، وفي عام 1960 يترجم السياب لستويل "ثلاثة قصائد عن العصر الذري" وهي أهم ما كتبته هذه الشاعرة من شعر.
ومهما يكن أمر شغف السياب بشعر ستويل فهو يعترف نفسه بمدى المؤثرات التي أثرت بها ستويل على مجمل أفكاره وإنتاجه الشعريويعزز هذا التأثير قول السياب:
"واليوم حين أراجع تأثير الشعراء الآخرين عليَّ أرى أن أبا تمام وإيدث ستويل أكثرهما تأثيراً، وعندما أراجع إنتاجي الشعري في الفترة الأخيرة خاصة أجد أن أثر هذين الشاعرين واضح جداً، والطريقة التي أكتب فيها شعري الآن هي مزيج من طريقة أبي تمام وايدث ستويل بإدخال عنصر الثقافة معتمداً على الأساطير والتاريخ مصحوبة بالإثارات المثيولوجية في الشعر"
وهنا نصل إلى جوهر القضية، قضية تأثير ستويل في شعر السياب، ما هي مظاهره، ما هي سبله ما هي أسبابه.. ولنبدأ في سبر التجربة الشعرية وتقنيتها الفنية عند ستويل.
ثلاث قصائد عن القنبلة الذرية:
تحمل قصائد ستويل الثلاث العناوين التالية (بكائية للشروق الجديد –ظل قابيل –أنشودة الوردة). وهذه القصائد كتبتها الشاعرة بعد القصف الذري على اليابان.
وقد اعتبرت ستويل هذا الحدث هو نهاية للكذبة الغربية حول المساواة والحرية والعدالة ففي القصيدة الأولى توضح ستويل حالة الهلع في قلبها عندما سمعت نبأ القصف الذري وتهجو بعدها دماغ الإنسان الذي حمل إثماً بعد القصف يفوق ما تلطخت به يد نيرون عندما أحرق روما، أو يد قابيل عند قتل أخيه هابيل.
إن دماغ الإنسان أكثر قتلاً من قابيل
وأكثر من نيرون احمرارا
ولكن لا عيون تحزن
فلم تبق عيون للدموع
وفي القصيدة الثانية "ظل قابيل" تتحدث الشاعرة عن (البرص) الذي لازم سكان اليابان إلى الأبد ببرص الذهب الذي يخلق الجائعين والفقراء في الحضارة الغربية.
وتقرن الشاعرة بنفاذ رؤياها. البعدين الأخلاقي الروحي والاقتصادي الاجتماعي للحضارة الأوربية، فتتهم "ديفيس" وهو رمز لمحتكري الثروة بأنه ظل قابيل، ظل الجريمة التي تخنق الأرض بالإشعاع، إنه حامل البرصين: برص الذهب وبرص الذرة.
"إنه ظل قابيل، ظل الجوع الأول على الأرض"
ولكن شمسنا قد أفلت.. فهل يأتي ذهبك بالدفء
للشفاه الباردة والحصاد للأرض العقيمة
عندئذ أحضر ديفيس..... كان يرقد كشمس برصاء
مغطاة بجراح العالم، برص الذهب يغلف العالم الذي هو قلبه
أما القصيدة الثالثة فهي قصيدة تعتمد الرموز المسيحية، فالوردة هي رمز المسيح الذي صلب والذي تنعته "بصوت النار" و"النار الأخيرة" و"وردة العالم"، إن تأكيدها على الانتماء إلى المسيح لا الكنيسة وتعلقها بالمساواة ودفاعها عن الفقراء المغبونين المستغلين من أرباب المال والصناعة والسلطة يجعلها شاعرة ثورية، مسيحية الانتماء، اشتراكية المنزع، عاطفية التصور ولكنها مع ذلك كله هي أميل إلى التشاؤم والحزن.
وبعد هذا الشرح في الفهم التقدمي للعالم بمنظور ستويل نتقدم قليلاً من القضية ونجمل المعالم الأساسية لتجربة ستويل الشعرية فنياً وشكلياً لنتمكن من حصر سبل مؤثراتها في نطاق شعر السياب.
1-تضمين شعرها مقاطع من أشعار الآخرين وذلك بصورة مرمَّزة وموحية.
2-اعتمادها على الأسطورة كفن أعطى شعرها بعداً إنسانياً ورؤيا شعرية شمولية للعالم.
3-يعتمد هيكل القصيدة عندها على المزج بين الصور لتعطي الصورة المركبة. فالقنبلة الذرية في حال تفجرها شكلت زهرة جميلة (22) بالرغم من وجهها الآخر المرعب.
4-استعمالها في مضمون القصيدة القصة الرمزية ( allegorg) والتي تعتمد على حشد عدة رموز وشخوص ليؤدوا نفس المهمة. فالمسيح، ولعازر، وديفيس رموز تؤدي مهمتها بإتقان في "ظل قابيل".
ولكن ما هي المؤثرات التي طبعتها ستويل على السياب من كل هذه التقنية الحديثة في الرؤيا الشعرية:
تبدو أول المؤثرات لهذه الشاعرة في قصيدة السياب "من رؤيا فوكاي" وهذه القصيدة هي محاكاة شكلية وموضوعية لثلاث قصائد عن العصر الذري. فقد استقى السياب التقسيم الثلاثي من ستويل فكانت قصيدته ثلاثية أيضاً. "هاي... كونغاي –تسديد الحساب –حقائق كالخيال" وهو لم يكتف بهذا التقسيم الشكلي ولكنه وضع بين قوسين وتحت العنوان "فوكاي: هو كاتب من البعثة اليسوعية في هورشيما، جُنَّ من هول ما شاهده غداة ضربت بالقنبلة الذرية" وهذا ليس سوى تقليد لما وضعته ستويل وتحت العنوان أيضاً "من حديث شاهد عيان في صباح يوم الاثنين السادس من آب عام 1945" وهذا التاريخ هو لحظة قصف هورشيما بالقنبلة الذرية.
ولنبتعد قليلاً عن المؤثرات الشكلية وتدخل في المؤثرات الموضوعية في قصيدة "من رؤيا فوكاي" ولكن قبل ذلك لنحاول تقديم هذا المقطع من شعر ستويل:
رغم أن العالم قد انزلق وغاب
ترن صرختي العالية النشاز مثل أغنية طيور الفولاذ في الأعالي
"ما زال شيء واحد قد بقي –العظم –"
وراحت (البابيون) تتراقص
عليك أن تزحف على الأربع، لأنك لن تسقط من عال
كل شيء سواء –العمى، البصر
ليس من عمق، ليس من علو
ولنقارنه بمقطع آخر من شعر السياب وهو من قصيدته السالفة "من رؤيا فوكاي"
رغم أن العالم استسر واندثر
ما زال طائر الحديد يذرع السماء
وفي قرارة المحيط يعقد القرى
أهداب طفلك اليتم –حيث لا غناء
إلا صراخ "البابيون" وزادك الثرى
فازحف على الأربع.. فالحضيض والعلاء
سيَّان والحياة كالغناء.
ويبقى السؤال الأهم –بل قل الأسئلة –من أين سمع السياب بقصة "فوكاي" هذا، بل من أين جاء بتلك الأسطورة الصينية التي يحاول شرحها عبثاً في الهامش . هل كان الأمر مجرد حفاظ على خط ستويل في استعمالها للرمز الأسطوري في كل قصيدة كتبتها؟ أم الأمر أعمق من كل هذا؟
أما بالنسبة للتضمين والذي ابتدعته "ستويل" فقد تعاوره السياب أيضاً –بالرغم أن الشعر العربي قبله كان يعتبر هذا الأمر إحدى السقطات الشعرية وكان فقط يقتصر على تضمين القصيدة الآيات القرآنية أو الأمثال السائرة، أما السياب فقد عكس المفهوم واستطاع أن يضمن مقطعاً من مسرحية شكسبير "روميو وجوليت".
"دعيني.. فما تلك بالقبرة
دعيني أقل أنه البلبل
وأن الذي لاح ليس الصباح"
وهو في هذه القصيدة يضمن شعره مقاطع من قصيدة "ستويل" أم ترثي ابنها" ويترجم تلك العبارة المضمنة في الحاشية على الشكل التالي: "إن الأرض عجوز شاخت حتى لا تعلم بأن الصغار حركون كضلال الربيع."
وقد تعدى تأثير ستويل قضية "التضمين" في شعر السياب إلى أمور أخرى أهم منها. إذ أن ستويل كانت قد ابتدعت لغة شعرية عرفت فيما بعد بـ (حكاية الصوت) وهي تعتمد على كسر طوق المألوف والمعروف إلى اختراع لغة غريبة مثل "نهيق النهار وزعيق المطر ودغدغة القمر" وقد استهوت السياب هذه البدعة فسجل لنا في قصيدة "الأسلحة والأطفال" الكثير من هذه اللعبة اللغوية فكان لديه "هسهسة الخبز –وغمغمة الأم –وخفق الفراشات –وعويل السفن –واخضلال العشب –ومناوحة الرياح – ولثغ الراء –وهمس الطواحين –ووسوسة الشاي –وزفة السنبل وتصخاب البحارة –وغناء الزيت الناضب في المصباح.."
ولنلاحظ التقارب المنطقي بين هذين المقطعين من قصيدة السياب وستويل.
ومن يفهم الأرض أن الصغار
يضيقون بالحفرة الباردة
إذا استنزلوها وشط المزار
فمن يتبع الغيمة الشاردة، ويلهو بلقط المحار؟
وتقول ستويل:
يا شمس عمري تعال إلى أمك الجديدة –الأرض –
فقد كبرت كثيراً على القبلات
الأرض قد شاخت بحيث لا تفكر إلا بالعتمة والنوم
ناسية أن الأطفال لا قرار لهم مثل ظلال الربيع الصغيرة.
أما بالنسبة إلى قصيدة "أنشودة المطر" فهي تكاد أن تكون صورة موسعة لقصيدة ستويل "ما زال يهطل المطر" حتى أن تكرار اللازمة "مطر، مطر، مطر" في قصيدته السياب يقابلها عند ستويل تكرار اللازمة "ما زال يهطل المطر" خلال /33/ مرة.
بين السياب وايليوت:
تظهر أول لفتة عربية نحو "ت. س. ايليوت" وأدبه في دراسة نشرها "لويس عوض" في مجلة "الكاتب" عام 1946 وقد تضمنت هذه الدراسة نبذة عن حياة ايليوت ودراسة موجزة لفكره، ثم ترجمة كاملة لقصيدته "الخراب" وفي نهاية الدراسة يقدم لويس عوض نعتا حاداً وجارحاً لايليوت إذ يقول:
"لم نجد بأساً من أن نقول أن الفاشية إجمالاً هي الإقطاعية الصناعية، واتضحت أصول هذا الاتجاه وأمثاله، في فكر الشاعر الرجعي، والناقد الرجعي توماس ستيرنز ايليوت..."
وقد تعود علاقة السياب في فكر وشعر ايليوت، بما قدمته هذه الدراسة، ولكن أول إشارة تدلنا على مدى هذه العلاقة هي حاشية قصيدة كتبها السياب في 20 /7/ 1948 وقد دون في هذه الحاشية:
"ايليوت شاعر إنكليزي رجعي"
ومع مرور الزمن وتعمق اطلاع السياب على فكر ايليوت تحولت نظرته إلى النقيض وأصبح اليوت عند شاعراً تقدمياً "ولعلي لا أغالي إذا قلت أن المدينة الأوربية لم تهج هجاء أعنف ولا أعمق من الهجاء الذي وجهه ت. س. إيليوت إليها في قصيدته الأرض الخراب".
فمن هو ايليوت، وما هي القيم الشعرية الجديدة التي ابتدعها، والتي أثرت في مسيرة التجربة الشعرية لدى أكثر الشعراء العرب ولا سيما ما عرف منهم بالمدرسة التموزية (السياب –البياتي –أدونيس –حاوي).
المفاهيم الايليوتية للشعر:
1-يعتقد ايليوت أن الشاعر العظيم هو من استطاع استيعاب الحركة الشعرية السالفة له.
ولا يكتمل أي موضوع لشاعر ما، بإنتاجه الشخصي فقط، بل بقدر ما يتضمن هذا الموضوع من مواضيع الشعراء الآخرين.
2-لقد طرح ايليوت قضية المنطق العادي، فبات الرمز منطق القصيدة الجديدة، وأصبحت قصيدة الرؤيا الإشراقية ذات الشحنة الإنسانية الجمعية، وصارت الصورة معه صورة جديدة واللغة لغة جديدة.
3-إن الحياة التي يعيشها الفرد (ويعكسها الشعر) هي حياة قاتمة وعاجزة عن تحقيق مثل الإنسان العليا. فلذلك على الفرد تلمس الطهارة والبراءة في عودته الواعية نحو تراث الماضي والذي يمثل بفكره القدسية الكاملة.
4-يعتبر الرموز الأسطورية هي الوسيلة الوحيدة لشد الإنسان إلى جذور الماضي، وهذه الرموز هي حاجة ملحة لتفسير الظواهر الآنية للإنسان. وبدونها لا تعدو حياة الإنسان سوى ثلاثية زمنية لا معنى لوجودها (الولادة –الجماع –الموت).
5-لغة الشعر عند ايليوت هي لغة الحديث اليومي، ومعيار قيمة لغة الشاعر بملازمة العصر الذي وجدت فيه حيث أن الكلام على مستوى (من أقلهم تعليماً لأكثرهم ثقافة) يتغير من جيل إلى جيل
الأرض الخراب ( the wast land)
تتألف هذه القصيدة من خمسة فصول أساسية: (1-دفن الموتى. 2-لعبة الشطرنج 3-موعظة النار 4-الموت بالماء 5-ما قاله الرعد.)
أما موضوع القصيدة فيعبر عن أزمة الإنسان الأوربي الحضارية، هذا الإنسان الذي طحنته التقنية الحديثة، فغدا أشبه بالإله وقد انفصلت عنه الروح أمام جبروت الزمن المدمر.
ويستعمل ايليوت شخصية ملحمية هي "تيرزياس" تلك الشخصية التي تحوي في جوهرها الداخلي العقم والتمزق النفسي "فتيرزياس" هذا يحاول أن يكتشف وجوده في مضاجعة فتاة عذراء هي في القصيدة "فتاة الياسمين" ولكن ذكورته تخونه (رمز للعقم في إنسان حضارة الغرب). فيعيش في جو من الصراع. وفي القصيدة ثلاثة رموز أسطورية هي "أدونيس" و"المسيح" و"فليباس" وهذه الرموز مجتمعة تبدو عاجزة عن إبداء أي فعل جنسي لكونها قاصرة للالتحام مع جذرها الأصلي (الماء).
فأدونيس يفتقد عشتار (آلهة الخصب والجنس والماء)، والمسيح يفتقد إلى العذراء (رمز الخصوبة والبعث والماء) وفليباس يفتقد إلى أمه.
وبعد أن تتوصل هذه الرموز لما كان ينقصها (الماء) نراها تتحرر وتنبعث من جديد بصورة نهر يتدفق مسرعاً في الأرض الخراب.
فليباس الفينيقي، ميت طوال أسبوعين
نسي صراخ النورس، وتماوج البحر العميق
والربح والخسارة، تيار تحت سطح البحر
مر على مراحل هرمه وشبابه، داخلاً الدوامة.
أنت يا من يدير الدقة، وينظر باتجاه الريح
تأمل "فليباس" الذي كان ذات يوم جميلاً وطويلاً مثلك.
وقد نصادف في القصيدة شيئاً يرتبط بعالم التصوير، أكثر مما يرتبط بعالم البناء، حيث نصادف مجموعة من المشاهد الأسطورية المنفصل بعضها عن بعض كل الانفصال، ويكاد كل مشهد يقوم بذاته، لكننا ما نلبث، أن ندرك إدراكاً مبهماً أن شيئاً ما يصادفنا في كل مشهد يشدنا إليه بشكل شديد، وهذا الشيء المبهم يتخذ في كل مرة قناعاً جديداً، حتى إذا ما انتهت القصيدة. أدركنا أن هذه المشاهد لم تكن أقنعة بل مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة وهنا يكمن سر القصيدة ومدى فعاليتها في ذهن المتلقي.
أنشودة المطر والأرض الخراب:
في كثير من الدراسات الحديثة اعتبرت "الأرض الخراب" هي الأساس التي استقى السياب منها رموز قصيدته العظيمة "أنشودة المطر" وخير من يمثل هذا المفهوم الدكتور نذير العظمة والأستاذ أسعد رزق، فهذا الأخير رأى أن جميع الشعراء العب كانت محاولاتهم في استعمال الأسطورة هي محاكاة للأرض الخراب ولكن هذا المفهوم لم يستقر طويلاً إذ قامت الأديبة "ريتا عوض" بنشر دراستها القيمة "أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث" وفيها خطأت ذاك المفهوم موضحة أن الشعر العربي الحديث لا ينعي حضارة تموت (كما في الأرض الخراب) بل هو يبشر بولادة جديدة.
ومهما يكن الصواب مع هذا الاتجاه أو ذاك فإن القصيدة هي الشاهد الوحيد الذي يفصل بالقضية ويعطي الدليل القاطع في اتخاذ الحكم.
أول ما يمكن ملاحظته في "أنشودة المطر" أنها تقوم على بناء أسطوري مركز، ولكن هذا البناء الأسطوري موجودون رموز ظاهرة، وإنما يختفي وراء ستار هيكلي وفني للقصيدة، فالرمز الأول هو الأم التي ماتت والتي تحولت إلى امرأة أسطورية فهي (الأمة، الأم، الأرض) ولذلك أصر السياب على بعثها وإعادتها من جديد.
كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه، التي آفاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال
قالوا له "بعد غد تعود"
لا بد أن تعود.
هذه المرأة (الأمة –الأرض) هي نفسها الأرض الخراب الذي حاول ايليوت بعثها من جديد –بعد أن وفر لها دافع الانبعاث (الماء) –ولكن السياب بحسه الثوري والوطني كان يفهم زمن الانبعاث أكثر من ايليوت. فالمطر (البعث) وأن توفر لكنه ينزل على الأرض الخراب (العراق) عقيماً.
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار
كأنها تهم بالشروق.
فيسحب الليل عليها من دم دثار
ومنذ أن كنا صغاراً، كانت السماء
تغيم في الشتاء، ويهطل المطر
وكل عام حين يعشب الثرى –نجوع
ما مر عامٌ والعراق ليس فيه جوع
مطر.. مطر... مطر.....
و رغم عقم المطر فإن إيمان السياب بالتغيير والبعث لا يتزعزع، وسرعان ما يعلن بعد أن توفر شرط أساسي للثورة –الرجال –يعلن إيقاد الشعلة، ويهطل المطر، مطر الميلاد الجديد.
حتى إذا ما فض ختمها الرجال
لم تترك من ثمود
في الوادي من أثر
عبر هذه الرموز التي حشدها السياب بشكل فني ومنسق، هل نستطيع أن نستشف في قصيدته مؤثرات أيليوتية من قصيدة الأرض الخراب.؟
أولاً لنضع نقاط الالتقاء بين القصيدتين،
1-الأم (الأمة –الأرض) عند السياب هي نفسها (الأرض الخراب) وقد جفت مياهها، وقحلت وديانها وأصبحت عقيمة في أي عطاء، وبالتالي أصبح الارتباط بها عقيماً هو الآخر.
2-المطر (رمز البعث والخلاص) عند السياب هو نفسه (الماء) عند ايليوت، وإن كان رمز السياب يسقط من الأعلى وبالتالي هو من خارج الأشياء، بينما رمز ايليوت من ضمن وجود الأشياء.
3-الحزن والشحوب والقتامة هي بداية موفقة للقصيدتين، مع الانتباه إلى أن قصيدة السياب تبدأ من (الأسى والمساء والخريف) وقصيدة ايليوت تبدأ بـ (الموت –والذكرى –والصيف) أي في الأرض هناك كمون في الأشياء، أما في الثانية فلا وجود للأشياء نفسها.
ثانياً: لنضع نقاط الاختلاف والتمايز بين القصيدتين:
1-إن قصيدة السياب تنمو من داخلها وتتولد فيها الصورة وتتفرع وكأنها تكتب نفسها، لها بداية ووسط يؤديان بعفوية إلى نهاية واضحة، فالصناعة الشعرية فيها لا تفجأ القارئ، بل تلفه في سحر إيقاعها المنظم فلا ينتبه لوجود الشاعر المبدع فيها، أما قصيدة ايليوت فهي أقرب إلى الرسم التكعيبي، فللأحداث أهمية متساوية، وهي لا تنمو ذلك النمو الداخلي (بداية –وسط –نهاية) فيبرز في كل مقطع منها الجهد التشكيلي الواعي في ترتيب الصور.
2-إن موضوع قصيدة ايليوت يؤكد على رمزية المسيح المنقذ والمخلص للبشرية من آلامها وبالتالي من موت الحضارة، وهذه النظرة تنطلق من موقف ديني حضاري. أما موضوع قصيدة السياب فلا يهمل دور التاريخ ولا يهمل دور المعاناة الفردية والتجربة الشخصية والانخراط بعملية البعث والخلاص الفكري والسياسي، أي هو ينطلق من موقع ثوري يؤمن بالفعل لتجاوز الموت.
3-أما بالنسبة للغة، فقصيدة ايليوت تحوي لغة عادية لا تعقيد فكري فيها وهذا ينطلق من موقفه الثابت من اللغة الشعرية، أما لغة السياب فهي لغة رومانتية تأخذ دلالتها وعمقها عن طريق دلالتها الموحية في الصورة.
4-الرمز في قصيدة السياب رمز عفوي فرضته بساطة الحياة التي كان يعيشها الشاعر، أما الرمز في قصيدة ايليوت فهو رمز معقد يعتمد على أساطير بعينها وتكثف مجتمعه لتعطي فائدة الرمز، وبذلك يغدو الرمز دخيلاً –أو قل –يظهر من ضمن الصناعة الفنية للقصيدة.
من عرض هذه النقاط مجتمعة نخلص إلى أن تأثير ايليوت في شعر السياب لا يعدو سوى التنبيه إلى رموز أصيلة في التراث العربي القديم ومنها رمزية المطر وفكرة البعث من جديد، الأمر الذي يجعلنا نضع بعض التفصيلات حول عنق المؤثرات في تجربة السياب الشعرية. ومدى الاستفادة منها.
مدى الاستفادة من المؤثرات:
لقد تم لنا بحث المؤثرات الإنكليزية في شعر السياب من خلال ثلاثة شعراء هم –شيلي –وستويل –وايليوت. وقد تتبعنا جذور هذه المؤثرات على مدار ثلاثة محاور أساسية كانت تدور في:
1-أحاديث السياب وتصريحاته الشخصية.
2-النتاج الشعري للسياب ولا سيما ديوانه أنشودة المطر.
3-المحاولات النقدية العربية والتي استطاعت كشف جذور التأثير الإنكليزي في شعره، أو رد هذا التأثير. وإذا ما أخذنا هذه المحاور في عملية استبارية تكشف مدى عمق واستفادة السياب من المؤثرات الإنكليزية لوجدنا أن شيلي يتقارب والسياب بمفاهيم بعث الطبيعة واعتبار الإنسان جزءاً لا ينفصل عنها. أما ستويل فقد ساعدت في تطوير التقنية الشعرية لدى السياب، ولا سيما في التضمين واستغلال الرموز الأسطورية، أما تأثير ايليوت فكان حافزاً شديداً عند السياب لكشف النقاب عن رموز شعرية كامنة في التراث العربي القديم، ساعدت عبقرية السياب الشعرية إلى استغلالها وتفجيرها إلى عالم الوعي للإنساني العربي.
وإذا كانت مؤثرات ايليوت في السياب لا تتعدى (التنبيه) على أشياء موجودة فبظني أن مدى فهم السياب لأيليوت كان قاصراً على مجرد التنبيه وذلك لأمور هامة هي التالية:
1-إن فهم ايليوت لحركة التاريخ تخالف فهم وإيمان السياب بها، فايليوت يرى أن الخلاص في الانتماء إلى الكنيسة والرجوع إليها لإنقاذ البشرية، أما السياب فكان يرى أن عمليات التحويل في الوعي البشري والنضال بالفكر والشعر والفعل هي التي ستنفذ البشرية من الظلم والاستغلال والعبودية.
2-إن ايليوت يحرص على الاستفادة من أساطير الماضي ويوظفها لخدمة الشعر. ولا يهتم بالعلاقة بين هذه الأساطير والمبدع (الشاعر)، أما السياب فيرى أن العلاقة بالأساطير هي أهم من الأساطير نفسها وما تحويه، وهذه العلاقة اتخذت عند السياب ثلاثة أزمنة (بناء –هدم –بناء).
3-قد تكون رموز ايليوت الصعبة غير مفهومة عند السياب مما يجعل التأثير لا يتعدى الفهم الخارجي لتلك الرموز وقد ذكر الأديب جبرا إبراهيم جبرا هذا الأمر فقال "لم يكن السياب يفهم ايليوت، وهذا أمر طبيعي لأن شعر ايليوت شعر صعب ولا سيما في ذلك الحين (الخمسينات) وما زال شعر ايليوت يعدّ إلى الآن شعراً صعباً
ومهما تكن سطوة المؤثرات في شعر السياب، فإنه يبقى بعد كل شيء شاعراً عربياً بكل ما تحمله هذه العبارة من شموخ وإباء