لا أزعم أني أعرفه .. هو أيضا لايعرفني .. لم يجمعني به مكان قط .. لكن ، ربما جمعني به الزمان ، أي زمان .. من يدري؟!
تعودت أن أرى الأشخاص بعينين ثاقبتين تخترقان لب الروح ، أما أجسادهم فلا تعنيني على الإطلاق ، باستثناء ذلك الجزء الذي يعكس ما تكتنفه أرواحهم من لوعة وأسرار .
حتى أولئك الذين تفتقر علاقتي بهم إلى وجود قنوات مشتركة تجمع بيني وبينهم ، أحاول الغوص إلى أعماقهم باحثة عن الأسباب التي تحول بيني وبين التفاهم معهم ، كل هذا مألوف لدي ، لكن غير المألوف أن أرتبط بعلاقة روحية مع شخص لا أعرفه.
تصوروا معي رجلا عمله الرسم بالكلمات ، يقطن بعيدا ، فكيف سأجده ومن يكون ؟
منذ سنوات لا أعرف أمدها ، كنت أقلب صفحات إحدى المجلات فاستوقفتني صورة رجل ، إلى تلك اللحظة لم أكن أعرف اسمه ولا إلى أي مجتمع ينتمي .
حدقت في الوجه مليا .. في العينين الغامضتين .. ياإلهي ، أية أسرار تحملان ، أحزان الدنيا تستقر فيهما .. لماذا .. لماذا ؟ كنت أتساءل ومازلت .
على وجهه الأسمر ارتسمت ابتسامة شفيفة ، قد تبدو لبعضهم ابتسامة لكنها بالنسبة إلي لم تعبر إلا عن ألم دفين ، والخطوط على الجبين ، لست أدري لماذا رأيتها وكأنني لم أرها كل يوم على جباه الذين أعرفهم ، تساءلت : أهي بصمة السنين ؟ أم انها جراحات الماضي والحاضر معا ؟! بهذه الملامح كان يبدو كمن ينوء تحت وطأة حياة لايرغب فيها .
إحساس مبهم يغزو قلبي كلما أبحرت في عينيه المتشبثتين بي أبدا، شعور جامح استبد بي وأحالني إلى كرة تتأرجح بين ماض وحاضر :
هل التقيته في زمن غابر أم إن روحينا قد تجسدتا في عوالم أخرى لا ندركها الآن؟! وأسئلة أخرى طرحتها ولم أجد لها جوابا ، حين يعجز الوعي عن ايجاد تفسير منطقي لما تجيش به الروح يتقلص استيعابه ويسلم للمجهول ، لكنني لم أسلم أبدا .. لأني لم أنه الحوار مع نفسي على الأقل .
من السطور التي أحاطت بصورته عرفت اسمه ، وعرفت أيضا اسم أحد مؤلفاته ، فهو رسام بارع ، يرسم بالكلمات أناسا ومدنا ، وأنا أهوى الرسم بالكلمات .
قرأت مؤلفاته بشوق بالغ ، بحثت عن المزيد ، حاولت أن أجد سبيلا للقائه لكني لم أنجح ، لماذا اهتممت به دون سواه ؟ وأنا أرى كل يوم العشرات من الوجوه على صفحات الصحف والمجلات .. في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون ، أية متاهة تلفني
أي جواب لأي سؤال أريد ؟ بل ماذا أريد ؟!!
إحساس غريب يتملكني كلما نظرت إلى صورته .. يشعل الرغبة في اقتحام تلك المنطقة المحظورة من الذاكرة ، فتتولد لدي قناعة مطلقة ، بأنني عشت معه حياة كاملة ، وأن هذا الرجل القادم من قلب الأحزان يعرفني كما أعرفه أنا .
ثمة شىء يربط بيني وبينه ، شئ لايتحدد بزمان أو بمكان ، شىء لايخضع لحكم المعقول أو اللامعقول .
في المرات العديدة التي أجريت فيها حوارات مع نفسي توصلت إلى أنه يمسك طرف الخيط الذي أمسكه بيدي ، لذا لابد أن ألقاه ، هكذا قررت أن أترك هذا الخيار للزمن .
بعد ثلاث سنوات أو أكثر وقبل منتصف الليل بقليل ،رن جرس الهاتف ، صديق قديم دعاني لحضور احتفالية تقام لتكريم مجموعة من زملائه ، كدت أرفض ، لكنني وافقت في النهاية .
بهرني المكان للوهلة الأولى ، لقد زرته في مرات سابقات وكان يفتقر لتنظيم كهذا ، أجلت النظر في القاعة دونما تركيز .. إتخذت مقعدا في صف أخير ، ثم رحت أصغي بانتباه .
ثمة رجل أعلن بدأ الاحتفاء بزملائه المبدعين ثم راح يتلو الأسماء فيما راح آخر يناوله مغلفا يحوي جائزة نقدية .
عند اسم بعينه ضجت القاعة بالتصفيق ، ولشدما كانت دهشتي حين رأيته واقفا أمامي وجها لوجه ، اهتزت جميع أجزائي .. كتمت صرخة لو قدر لها أن تخرج لاهتزت لها جدران القاعة ، انثالت الدموع من عيني دونما إرادة .. أطبق السكون على المكان ولم أعد أرى سوى ذلك الرجل الذي أشعل ذاكرتي وأوقعني في فخ التساؤل من جديد .
هاهو يجلس أمامي بهدوء .. يلهب دمي .. ينفخ في النار التي كنت أظنها قد خبت ، بهدوء رحت أختلس النظر إليه ، كل شىء فيه يثير دخيلتي ..كل لحظة تؤكد قناعاتي .
لم أنتبه إلى أن القاعة قد أفرغت روادها ، خرجت فزعة ، ثمة تجمعات تنتشر هنا وهناك ، كان يتوسط إحدى هذه التجمعات .
في زاوية غير منظورة تواريت ثم رحت أمعن النظر إليه ، كان يحدق في وجه محدثه وكأنه يريد أن يستشف حقيقة ما ، هذه احدى عاداته ، فهو لا يعنى بالكلمات التي تتفوه بها الشفاه بقدر اهتمامه بمكنونات الآخرين ، لأنه يمتلك وسيلة استقراء لما يدور في الأذهان ، وقبل أن يجيب على محدثه رفع كمي قميصه على نحو غير إرادي وهذه عادة أخرى من عاداته ، فكشف عن وشم داكن يتوسط ساعده اليمنى ، وشمته به الحياة قبل ولادته ، لم أصب بالذهول ، لأنني لست بحاجة إلى برهان .
التحقت بأصدقائي على الفور .. طلبت من أحدهم تقديمي إليه ، تصوروا .. أنا أطلب وساطة للتحدث إليه !
اقتربت منه بوجل .. اصطنعت الهدوء ، قدمني وسيطي كمعجبة ، هل أنا كذلك ؟
امتدت يدي الراعشة لتصافح يده المقدسة ، هذه اللمسة .. حرارة اليد .. نعومتها ، ليست غريبة علي ، أقسم على ذلك .
لم أسمح للصمت أن يستبد بي ، بادرت بالقول :
ـــ أنا سعيدة جدا بلقائك .
ـــ أشكرك .
سألته في محاولة لخلق حوار :
ـــ أراك لاتحضر في مثل هذه المناسبات .
قال وعيناه تصطدمان بسقف الممر الذي يحتوينا :
ـــ بعد المسافة وعدم الرغبة ، يحولان بيني وبين المجىء.
وما كدت أنهي سؤالا حتى أبدأ بسؤال جديد ، كنت أتعمد إطالة الحديث معه .
لقد بدا لي قلقا ، محرجا ، حتى أنه تحاشى النظر في عيني ، وكأنه يتوخى حقيقة بعينها ، تسلل أحدهم مقحما نفسه بيننا ، ثم راح يتحدث معه بإسهاب ، انضم الجمع إلي .. تحلقوا حولي في دائرة مغلقة .. استمعت لأحاديثهم دونما تركيز فلقد حسمت أمرا مع نفسي .. تملصت منهم بصعوبة .. بحثت عنه في كل مكان .. اشتعلت غيظا .. كررت المحاولة عدة مرات لكني لم أجده .
كنت سأواجهه .. كلمة واحدة منه كانت ستكفي لمنحي الراحة والاستقرار ، لست أدري لماذا جرت الأمور على نحو لا أتمناه !
ليتني أستطيع أن أخترق رؤوسكم لأعرف بماذا تفكرون ، ماذا تقولون عني الآن ؟ هل تتهمونني بالهلوسة والجنون ، أم أنكم تتعاطفون معي ؟ لأنني وقعت فريسة لحياة عشقت غموضها الأزلي إلى حد الجنون ، وإذاما سقط أحدنا في متاهاتها أخرجت لسانها لتغيظه بابتهاج .
ليقل كل منكم مايشاء ، لأنني على يقين بأنكم إذا ما غصتم في أعماقكم فسوف تخرجون بما لم تحسبوا له يوما أي حساب .
لست مستاءة .. فقد تتاح لي معه فرصة أخرى ، وقد أفقأ عين الزمن الماجن يوما ما ، فطرف الخيط مازال بيده وبيدي الطرف الآخر ، والخيط لم ينقطع بعد .