كان والدي حريصاً رغم صغر سني على إيقاد جذوة التعلق بتراث الأمة في صدري أيما حرص ، فيخصص من وقته شيئاً ليس بالقليل لذلك ، بل قد بذل جهداً لجعلي أحفظ شواهد كتاب سيبويه الشعرية ، لكن مشروعه هذا لم يكتب له النجاح كما كتب لحفظي أبياتاً من حماسة أبي تمام و قصائد الجاهليين و متفرقات للمتنبي .
و عندما بدأت أخطو نحو العالم الآخر المستقر خارج جدران منزلنا ، وجدت أشياء غريبة لم أعهدها ، وجدت المعلمات ذوات الفهم السقيم ، و المعرفة الضحلة ، و الأطفال الذين لا يعرفون سوى اللهو و اللعب ، وجدت المدرسة التي ضقت بها ذرعاً ، و كم بكيت كلما أزف موعدها .
كانت والدتي حريصة على ألا أتاثر بعالم بيتنا أكثر مما ينبغي ، لإدراكها أنه لا يناسب عمري ، و لعلمها أيضاً أن عقلي ينبغي أن يتحرر من سطوة شخصية والدي التي شابها كثير من الألم و المعاناة في حياته ، و تخشى أن يزرع فيَّ عصارة ذلك فتسلَب مني طفولتي و إحساسي ببهجة الحياة ، لكنه كان يضيع عليها الفرصة ، و ببضع كلمات منه يحبط كثيراً مما تدأب عليه .
لكنَّ شخصيته تلك بدأت تتكشف عما كان مستقراً في أعماقه لا يبديه ، فتحمل أثناء تكشفه نفحة من حزن بالغ ، ذلك هو الجانب الرقيق الشفاف منه ، الجانب الذي طالما حسب الجاهلون خلوه و براءته منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب .
كان استشعاره لدنو الأجل يزداد يوماً إثر يوم ، و يزداد معه تكشف خلجات قلبه الشاعرية ، و يزداد كذلك تواصله مع العالم الخارجي ، صار يغدو إلى السوق و يأخذني معه ، و هو الذي لم يعتد ذلك حياته كلها ، و يشاهد بعض ما يُعرَض في التلفاز و هو الذي لم يكن قد فكر بشرائه قبل زواجه ، و يداعبني مداعبة الطفولة ، و يناغيني بما يلائمني لا بأشعار العرب وحدها .
أخذ الجانب الإنساني منه في تلك الأيام يشرق إشراق شمس الضحى في كبد السماء ، كما كان إحساسه بقرب الموت يرسم ابتسامة رضا على شفتيه ، ابتسامة رضا يصنعها شعوره بقرب راحته التي طالما انتظرها ، بعدما أيقن – ربما متأخراً – أن تلك الراحة لا يمكن أن تكون له في هذا العالم الذي كثيراً ما ضاق به.
و إن أنس كل شيء مر بي في حياتي ، لا أنس اللحظة التي ناداني فيها و أنا ألهو في غرفة زوارنا التي كانت خالية ساعتها على غير العادة ، ليهمس في أذني ببضع كلمات لا يزال لها الوقع نفسه على صدري كما يومها ، و صوته لا يزال يتردد في مسمعي كأنني سمعته في التو :
- يا بني .... إنني سأموت ...... فكن حسن الخلق مع الناس .
أجفلت حين سمعتها ، على أني حسبتها كلمة من كلمات التأهب للموت التي طالما ذكرها أمامي ، لكنَّ هذه الكلمة تحديداًً لم تكن كغيرها ، و لم يكن موعد قولها كغيره ، إذ كانت أقرب الكلمات التي قالها زمناً من موعد تحقق النبوءة التي فيها ، و أكثرها تصريحاً بها .
و للحديث تتمة
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ