من جديد يقدّم لنا الأديب التونسي الاستثنائي ساسي حمام مجموعة قصصية بعنوان" البطاقة" وهي مجموعة حداثية ذات مغامرة تجريبية جريئة وواضحة على مستويي الشكل والمضمون،مبرزة لنا تجربة ناضجة ومحفورة في الوقت نفسه في الصخر،لتهبنا قصصاً لاتجاور الحياة وتشبهها أو تعيد تشكيلها،بل تنقلها بحرفية خطيرة،وإبداع بنكهة خاصة إلى قصصه التي لا عجب أنّ نجد فيها الحياة نابضة بكلّ تفاصيلها ودقائقها وحوادثها واختباراتها وانكساراتها وأفراحها المؤجلة وانزلاقاتها وصراعاتها وبداياتها ونهاياتها.
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نخمّن سبب تروّي ساسي في إصدار أعماله،فبعد مجموعته القصصية الأولى"لاهثون معي" الصادرة عام 1982م،ومجموعته القصصية الثانية "قطع غيار" الصادرة عام 2000م،تأتي مجموعته القصصية الثالثة "البطاقة" ثمرة جديدة في العام 2009 لتفتح لنا الأبواب والنوافذ والمدارك والفهوم على عالم قصصي منحاز إلى الإنسان الهامشي الذي لايحتلّ مركز الصدارة في قلب المجتمع،ولايدير المشهد العام ،أو يصنع القرار المصيري،ولكنّه يتصدّر قلب المشهد الحياتي اليومي،ويصوّر حالة العموم والأكثرية في المجتمع،حيث تقبع الأحداث،وتتشكّل المواقف،وتكون المصائر والأفراح والأحزان والمتناقضات.
فالأبطال عند ساسي حمام في هذه المجموعة هامشيون (1)،ليسوا من الصّفوة والأغنياء وكبار التجّار والملاك والمترفين والمبرزين والمشهورين والمتنفّذين والسّاسة وأعضاء مراكز الّسلطة والقرار وكبار الفنّانين ورجال الدّين المتنفّذين،بل هم أبطال مُنتقون من الشّرائح الاجتماعية المتوسطة ودون المتوسطة والمسحوقة أمثال النساء والأطفال والعجزة والمرضى وأصحاب العقد والأزمات النفسية والمنسيين والمدقعين فقراً من متسوّلين و لصوص ومتشردين و بائعين متجوّلين و صغار الموظفين والفلاحين وأصحاب الحرف المتواضعة والأعمال الموسميّة والعاطلين عن العمل وأصحاب السوابق ومجهولي النّسب حيث حياة الكدح والتعب، والتمركز على حافة التشكيل الاجتماعي الذي يحتلّ أهل الصّفوة مركزه، ويديرون عجلته،ويشكلون أدباً خاصاً يسجّل حياة ترفهم ،وقضايا مشهدهم المختلف تماماً عن المشهد الحياتيّ اليوميّ عند الأناس الهامشيين في المجتمع الذين يشكلون في الغالب المشهد العريض للحياة الاجتماعية في التوليفة الحقيقية غير المفترضة أو المنتقاة لشرائح أو أمثلة مفترضة من المجتمع.
وتجاه هذه الشريحة الهامشية المطحونة يصوغ ساسي حمام حساسية خاصة تضطلع بدور إضاءة المواقف الصغيرة التي تحتضن روح الأحداث،وتكشف عن خصوصية حياة الأفراد،وترثي لأحزانهم وآمالهم وأوجاعهم وانكساراتهم،وتؤرّخ بأحداثهم الصغيرة لسير حياتهم بما فيها من تفاصيل وخصوصيات وإحداثيات ونقاط مركز وأفلاك هوامش.
ولذلك نجد مجموعة" البطاقة" تنحاز إلى المواقف الصغيرة التي قلما نتوقف عندها في سعي حياتنا المشدود الدائم إلى مرجل السّرعة والتوتر والفوضى حيث لا مكان ولا زمن ولا فرصة للتوقّف عند المواقف الصغيرة والأحاسيس الخافتة رغم أنفها تحت نير المواقف الكبيرة والأحداث الملحّة التي تبتلع أوقاتنا واهتماماتنا،وتحتل صدارة سيرورة حياتنا اليومية .
وهذه القدرة على التقاط المواقف الصغيرة تعكس بكلّ تأكيد قدرة ساسي حمام على الخلوص إلى صميم إنسانيتنا التي تختنق بصمت في مشهد حياتي مأزوم،بات لايجد وقتاً حتى للتوقف عند أكثر التفاصيل حميمة وإنسانية،ومن يعرف ساسي حمام الإنسان يستطيع أن يفهمه مبدعاً عبر توليفة جامعة مشتركة بين إبداعه وطبيعته ،وهي توليفة الإنسانية والرّقة ودماثة الأخلاق والحكمة التي تهبه صمتاً طويلاً،وعبارة ذكية متسعة على الرّغم من اقتصادها في الحروف والكلمات.
وفي هذا الشأن نستطيع أن نفهم سبب تعاطي هذه المجموعة لشكل القصة القصيرة جداً التي تضرب مثلاً جريئاً وجميلاً لقصة الومضة التي تنحاز إلى مقولة النّفري الشّهيرة التي ترى العبارة تضيق كلما اتّسعت الفكرة؛فساسي حمام يرصد الحدث الصّغير في بنية قصصية قصيرة جداً،ولكنّه على الرّغم من ذلك الاقتصاد الشكلي المزعوم إلاّ أنّه يحمّل قصصه بكلّ العبء النفسي والحدثي المثقل بكلّ تابوات المجتمع الذي يكبت الفرد في الغالب،ويتواطأ على تجريعه النّكد والألم بلا رحمة.
إذن فساسي حمام باختصار هو السّاعي نحو فضح الواقع وتعريته لا بريح صرصر عاتية،بل بنسمة قادرة على رفع الدثار عن تشوهات أرواحنا وأجسادنا ومخازينا وانحرافاتنا وعيوبنا،فطوبى لكلمات ساسي ولنسائمه التي تعانق الحقيقة،وتعيش لها.
ومن ناحية أخرى يشيد ساسي حمام قصصه على نقط فاصلة بين الدمعة والضحكة والدهشة،فيورثنا بقصدية كبيرة شعوراً بالارتباك يمثّل قلقنا ومخاوفنا في لحظة ترتكز على لعبة المفارقة التي تقدّم لنا اللحظة مشحونة بكلّ المتناقضات المشرعة على الأسئلة والإجابات والرّفض والفكرة والمواقف المشابهة التي تجلعنا شفاهنا تفترّ عن ابتسامة باهتة ساخرة تقول باستمرار: أنا أعرف هذا الموقف،أنا عشت تجربة مشابهة،أنا قابلت من قبل شخصية مشابهة،أو عاينت أزمة مماثلة لما هو في هذه القصة... الخ.ولذلك لا حاجة عند ساسي حمام لتعين أسماء،أو تحديد أماكن،أو تأريخ مناسبات ،أو تجريم مواقف بعينها،أو أحداث بذاتها،مادام الجميع شركاء في صنع الموقف،ومتشابهون في شكل الألم،ويحملون أسماء شتى تتشابه في المصير والمعاناة والصمت.
إذن يبقى القول بأنّ قصص ساسي حمام تجعلنا نعترف بصدق ساذج بأنّنا متواطئون في لعبة الصمت إزاء عيوب واقعنا،ومثالب صفاتنا،وسلبية مواقفنا،وعجز ردود أفعالنا.
ففي قصة "البطاقة" التي تحمل المجموعة اسمها،نجد بطل القصة قد فاز بانتخابات ما،دون أن نعرف من يكون،أو ماهي طبيعة الانتخابات،أو ماهو الأمر الذي تجري الانتخابات لإدارته،أو حتى دون أن نعرف كيفية فوز البطل بهذه الانتخابات المسكوت عن تفاصيلها،ولا غرو في ذلك مادامت التفاصيل متشابهة في كلّ الانتخابات،ومابعدها،حتى أن سلوك المنتخبين الفائزين متشابه،ولذلك يشكّل ساسي حمام قصته هذه لينعى على الفائزين سلوكهم الذي يمتاز في الغالب بنكران الجميل،والتراجع المخزي عن الوعود،والنّكوص عن البرامج الانتخابية المعلنة،والخطط المنشودة،والاصلاحات المنتظرة.
فبطل القصة بعد فوزه "أخيرأ...تنفس الصعداء...أخيرا...شعر بالارتياح...أخيرا...خرج من القاعة المملوءة دخانا... توجه نحو المشرب ... اتكأ على حافته ... طلب كأسا من الماء البارد ... شربه دفعة واحدة ... شعر أن الماء أطفأ حرائق اشتعلت داخله منذ مدة ... انبلجت ابتسامة على وجهه ... أخيرا ... أرجع اليوم الى منزلي باكرا ... أنام نوما عميقا ...أشرب كثيرا حتى أنسى ما عانيته هذه الايام ... لقد كانت أياما صعبة حقا ... أجبرت على أن أكلم الجميع ... أن أصافح الجميع ... أن ابتسم للجميع ... أخيرا ... أوزع الهدايا ...رأى وجوها تخرج من القاعة ...فرحة ... حزينة ... مكفهرة ... مندهشة ... ضاحكة ... انتهت عملية فرز الاصوات ... اتجه أغلبهم نحوه ... انهالوا عليه ضما وتقبيلا ...طلب من النادل أن يلبي طلباتهم ... كل طلباتهم ... لن أدفع شيئا من جيبي ...شربوا أكلوا ... تحدثوا " (2)
وبعد هذه الوقفة الوداعية التقليدية مع كلّ مع من دعموه وانتخبوه،وبدل أن يشرع في خدمتهم،وتحقيق وعوده،سرعان مايطير إلى أقرب مطبعة في المدينة،ويقرّر أن يغيّر عناوينه وهواتفه تمهيداً لتملّصه من كلّ وعوده ومشجعيه ومنتخبيه " آن للمترشح أن يستريح ... نظر الى ساعته... توجه نحو المدينة ... وقف أمام إحدى المطابع ... دفع الباب وتهالك على مقعد ... رحب به صاحب المطبعة وسأله عن حاجته
ـ أريد طبع بطاقة زيارة ...
ـ ولكن ... ألم تطبع واحدة منذ أسبوع تقريبا ؟
ـ نعم ... صحيح ... لايهم ... لقد جد جديد..."(3)
وهذا الموقف السلبي الانهزامي هو وليد المجتمع ذاته في قصة "الضجيج" حيث يعيش بطل القصة الغريب السلوك حياة غامضة،تتصف بالعزلة والوحدة والمعاناة الفردية دون أنّ يعنّي أحد من الجيران نفسه في الانحياز إلى ألمه،والسؤال عن كنه ألمه،وتفاصيل وحدته،وألغاز سلوكه،والجيران لايملكون إلا نفس السلوك المتلخّص في ديمومة حكاية:" يظهر الرجل في مدخل الحي فتفزع النساء الجالسات أمام الابواب ويرمين ما بأيديهن ويتركن البراد والكانون ويدخلن الى منازلهن ويبقين وراء الابواب ينظرن من الثقوب ينتظرن اختفاءه . وتقف الكرة في مكانها ويتجمد الاطفال وتنحبس الانفاس " (4). ويستمر الرّجل في المرور في الحي دون ابتسامة أو كلمة أو تواصل ثم :" يمر وقت قصيرويرتفع صياح الرجل وتنتشر ضجة الاواني المعدنية وهي ترمى على الجدران والصحون وهي تتحطم على الارض وبعد مدة تطول أوتقصر يعود الهدوء من جديد الى البيت ويسوده صمت المقابر" (5)
وتمرّ الأيام والشهور والسنون،والكلّ يتواطأ على لعبة الصّمت التي تورّط الجميع في إثم احتراق البعض دون أن يثير ذلك في نفوس النّاس أيّ بادرة تعاطف أو رغبة في مساعدة أو حلّ لغز "ويكبر الاطفال وتهجر بعض النساء الحلقات ويغادر البعض الحي ويبقى الرجل هو نفسه لايتغير... وحيد يدخل الى المنزل ... وحيد يخرج من المنزل ... لم يغير عاداته ... صياح وضجيج وأصوات متباينة ... وحدها الاسئلة تنمو وتكبر وتتكاثر ... ".(6).
وفي قصة " العادة" نشارك مع البطلة أرقها الليلي بحضور ،وحاجتها الخفيّة الحاضرة الملحّة فيزوجها في هذا الليلة بالذات،والزوج الأناني،يضرب عن حاجتها الطبيعية ،ورغبتها المداهمة عرض الحائط،ويتجاهلها،وينام ويتركها تتحرّق في نيران رغبتها المكبوتة الحارقة التي تحرمها من النّوم،فيشركنا ساسي حمام في أرق ليلتها،ومواجع حرمانها من رجل واجبه الإنساني والأدبي يحتم عليه أن يشبع حاجاتها الجسدية والجنسية شأن كلّ الحاجات الأخرى التي من المفروض أو المتوقّع أن يشبعها لها،فنذقُ معها مرارة السّهر،وملل البحث عن تسلية،ونشاركها في أحلامها " ... استلقت على ظهرها ... علقت عينيها في السقف وشرعت في التنقل عبر محطات حياتها تتوقف عند محطة معينة فتكثر من التفاصيل ... تستعرض ملامح الوجوه ... تسمع بعض الأصوات التي أحبتها ... أو التي كرهتها ... انتقلت عبر جميع المحطات ولكن النوم لم يكحل جفنيها ... رمت نفسها في الأيام والسنوات القادمة...أسلمت نفسها لأمواجها وتياراتها فرأت منازل وقصورا.. داعبتها أنوار متنوعة الألوان ... تأملت زرابي وثريات وتحفا ثمينة... تنزهت في حدائق وبساتين ... قطفت ثمارا تعرفها وأخرى لاتعرفها ... ملأت سلالا وصناديق وأكياسا ...وزعت على الأقارب والأصدقاء والأحباب والجيران ... تجولت في مدن عديدة ... اشترت ملابس وأثاثا ... ولكن النوم جفا عينيها" (7)
أمّا في قصة "درس التصوير" فيعمد ساسي حمام إلى المفارقة (8) كي يحمّلها سخريته(9) من مجتمع متناقض،يطالب بالشيء ونقيضه في اللحظة ذاتها،وذلك كلّه لأنّه أسير تاوبات حمقاء تطالبه بأن يعدم حواسه ومعارفه وحقائقه إن اقتضى الأمر من أجل إعلاء سلطتها،وإشهار سيف قوتها.ولذلك نجد معلم درس التصوير " يلفت نظره رسم أحدهم يجلس بجانب النافذة ... يتوجه نحوه بسرعة ويقف بجانبه ... يتأمل المشهد فاغر الفم...يفرك عينيه وينحني قليلا ليتأمل هذا المشهد الفظيع الذي اختاره هذا التلميذ".(10)
وفي لحظة يتراجع المعلم عن طلبه بأن يرسم الطلبه مايشاهدون،"ويخطف الورقة من يدي التلميذ ويمزقها قطعا صغيرة ثم يضغط عليها بعنف ويرميها في سلة المهملات ...احمر وجه التلميذ وارتعشت أطرافه خوفا وفزعا ويتكور حول نفسه ويقول بصوت لايكاد يسمع ...
ـ سيدي لقد قلتم صوروا ما تشاهدونه ... انظروا من النافذة!
ينظر المعلم ...تمتد الرؤوس ...يخاف المعلم أن يرى بقية التلاميذ المشهد فيصيح آمرا
ـ أغلقوا هذه النوافذ بسرعة ...أغلقوا النوافذ بسرعة ...هيا ... بسرعة (11)
إذن الحلّ الذي يختاره المعلم هو خيار المجتمع في الأعم الأغلب إلاّ من رحم ربي،وهو خيار الصّمت والهرب والتّراجع،وإقفال النوافذ!! بدل مواجهة الموقف،والحديث في الأمور التي تستحق الوقوف عندها،بدل النّكوص حتى أمام موقف طبيعي قد يكون موقف جنسي قابل للحدوث في كلّ مكان وزمان،وماهو إلاّ حقيقة لا فضيحة ولا عيب يجب التواري عن الاعتراف بأهميته وبوجوده ابتداءً.
وللهامشيون طرائفهم وملحهم،ولعبهم على أوتارنا الإنسانية المشدودة دائماً إلى أعواد الحياة،وترنيمات الأمل،فهذا بطل قصة " الكفّ والطريق" يكفر بالنبوءات،ويصفها بالسخافات(12)،ويصرّح بذلك للراكب إلى جانبه في الحافلة التي يستقلانها مع آخرين في رحلة طويلة،ولكنّ جاره الذّكي يثبت له في لعبة سريعة وذكية أنّه مثل معظم البشر قد يؤمن بالسخافات،ويخشى النبوءات إن حملت له أطياف محن،وحرمته من لذيذ الأمل،فيصرخ في وجه الجار الذي يدّعي أنّه عارف بقراءة الكف،ويقول له بعد أن ينبأه بكوارث وقصر حياته،وبشاعة المقبل: " أنت كذاب ... دجال ... تدعي كذبا قراءة الكف ...لماذا أغلقت في وجهي جميع الأبواب ؟ أوصدت جميع المنافذ...وأدت جميع الآمال ... دفنت جميع الاحلام ... "(13).فيضحك الرجل ويقول له فاضحاً زيف ادعاءاته:"لماذا كل هذا الانفعال ؟ ألم تقل أنك لا تؤمن بهذه السخافات ؟ (14)
وهذه القصة تقودنا إلى قصة " الكنز" التي تقوم على المفارقة المبنية على زيف مزاعم النّاس،وكذبهم،وسوء تقديرهم للأمور،وانغماسهم في عالم المادة حيث لا مكان حقيقي للعلم إلاّ إذا كان طريقاً نحو الثراء الفاحش،والسلطة الغاشمة،فبطل القصة يملك كنزاَ عملاقاً كما يصفه كلّ من يراه قوامه الكتب والمجلات ونفائس المخطوطات،فمكتبته هي الكنز الأثمن عنده:" هذه هي المكتبة.. لم أعتز في حياتي بشيء مثل اعتزازي بهذه المكتبة ولم أفتخر في حياتي بشيء مثل افتخاري بهذه المكتبة وما احتوته من كتب ومخطوطات ومجلات وجرائد ومجلدات وخرائط وصور... أغضب كل أقربائي لأني أبخل عليهم ولا أمنحهم إلا القليل من الأموال لشراء حاجياتهم وأصرف دون حساب وأبذل الغالي والنفيس من أجل مخطوط سمعت عنه أو من أجل كتاب نادر قرأت عنه... كلهم يتساءلون عن سبب ولعي بهذه الكتب التي أكدسها وهذه الأوراق التي أرصفها ومتى سأقرأها وما الفائدة منها".
وهذا الكنز كلّفه إغضاب الكثير من الأصدقاء والمعارف والجيران نظير رفضه أن يعيرهم أيّ كتاب منه،ولكنّه يضطر إلى أن يتخلّى عن جزء من مكتبته لأنّ بيته ماعاد يتسع لها بأيّ شكل من الأشكال،فيقوم بوضع مجموعة عملاقة من الكتب في صناديق في الشارع أمام بيته كي يأخذ الجيران منها مايشاءون،ولكن المفاجأة أن لا أحد يهتمّ بهذه الكتب التي توؤل إلى التلف،ومن ثم إلى مصير الحرق على أيدي الجيران الذين ضاقوا ذرعاً بوجودها في المكان،وهم من كانوا يخاصمونه في الماضي من أجل الحصول على بعضها مدعين الرغبة في العلم !!! (16).
وبذلك يقول ساسي حمام مباشرة لكلّ الكاذبين المدعين :أنتم كاذبون ومنافقون وماديون ساقطون تلهثون فقط وراء الملموسات،أمّا أمثالي من البشر فقسمتهم أن يشاهدوا حرائق الحقائق والمثل والجماليات على أيادي أمثالكم من البشر.
أمّا في قصة "ذات ليلة" فينحى ساسي حمام منحى السّخرية اللاذعة من كثير من المظاهر الاجتماعية التي تتحول إلى كرنفالات للنفاق والمزايدة والكذب والارتسام والادعاء،وبذلك تصبح مفرغة من وظيفتها التواصلية والإنسانية،ولذلك نجد عزاءً لجدّ البطل في القصة يتحوّل إلى كرنفال لكّل الكاذبين والمدعين وسط سلوكيات مكرورة ومهترئة إلى حدّ القرف،وهي جميعاً لا تمتّ بصلة إلى مشاعر الحزن والفقد الحقيقية التي يملكها البطل تجاه جده،فلا يجد مهرباً لنفسه المعذبة المتعالية على النفاق الاجتماعي الاّ الانتحار،فيقدم عليه في لحظة حزن مجنونة وسط جماهير المعزّين،ليصبح حدث انتحاره مناسبة جديدة للمزيد من النفاق والسلوكيات المفرغة من الروح:" شعرت بالخوف والرهبة، فدخلت بيتنا وانزويت في ركن من أركانه... لم يلتفت إلي أحد ولم يكلمني أحد... أهملني الجميع رجال ونساء... ثقلت علي الوحشة وأرهقتني الوحدة... بكيت بصوت مرتفع... لم يسمعني أحد... وقفت ... جريت نحو الباب... خرجت من البيت... وقفت بجانب الباب في البرد القارص... لم يخرج أحد ورائي... أو يسألني عن سبب وقوفي في هذا المكان... في هذه الساعة.... في هذا البرد.. رجعت إلى البيت... نظرت أمامي فرأيت على أحد الرفوف قارورة البنزين التي اشتريتها منذ أيام لوضعه في الولاعة... اختطفتها وفتحتها على عجل وشربت ما فيها أمامهن"(17)
ولكن ساسي حمام على الرّغم من ذلك لا ينفكّ يهبنا شعلة الأمل،فمن حقنا بشراً أن نتذوق الحميمة والرحمة وسط عالمنا المنكود،فنجد بطل قصة "غرف ونوافذ" يسارع إلى السؤال عن صديقه عندما يعرف بمحنة بيعه لكتبه الأثيرة،فيزور بيته،ويطّلع بجلاء على أزمته المختصرة في المرض" ... الأشعة.... غلاء الأدوية... قلة الإمكانيات... اليأس من الحياة ومن الناس.." (18) ثم يمدّه بما يستطيع من المال والكثير من الدعم النفسي،راسماً بذلك صورة صغيرة ولكن جملة وبرّاقة وحلوة التفاصيل لمعاني الصداقة والدعم والعون.
أمّا في قصة " السيارة" فنتورط في تواطؤ مضحك مبكي في آن معاً .فنجد أنفسنا أمام فكاهة سوداء تبكي بقدر ما تضحك(19) بمزيج مركب من القبول والرّفض لهذا العالم(20)ضمن بنية لغوية "تفرز السّخرية والمرارة في آن"(21)،فلا نملك إلاّ أن نتورط دون أن ندري مع حيرة ذلك البطل الهامشي الغارق في دموعه وحيرته بعد ليلة سكر مع الأصدقاء يبحث عن سيارته التي نسي أين وضعها،يساعده الأصدقاء في البحث عنها في ذاكرته،لكن دون فائدة ،فهو لا يتذكر أبداً أين ركنها،وعندما يقترح عليه الأصدقاء العودة إلى البيت دونها يفجّر قنبلة أمامهم وأمامنا ويقول:" لكنني لن أستطيع الرجوع إلى منزلي إلا إذا ركبتها...إنها هي التي ستقودني إليه... أعرفتم الآن لماذا لا أستطيع الرجوع إلى منزلي راجلاً؟"(22)
فيقدم لنا ساسي أزمة هامشية قابلة لإسقاطها على أكبر مشاكل عالمنا وأزماته،حيث تغذو الأمور البديهية قابلة للتحوّل إلى أزمات كبرى في ظلّ ظروف التقاعص والضعف والهروب من القيام بالواجبات المقدسة،والغرق في مستنقع اللهو المنقطع عن المسؤولية والإرادة والإنجاز.أليس ساسي حمام قادراً على أن يعرّي جميع العيوب دون أن تمتدّ يداه إليها؟فهو الساحر البارع في كلّ فعل بفعل قوى حكاياه،ودموع أبطاله،وانزلاقاتهم في وحل الحياة.
ومن جديد نقف في مواجهة مباشرة مع حاجات الآخرين وحاجاتنا المسكوت عنها تحت ثقل التابوات التي نقبع بصمت تحت ثقلها الساحق،فنصمت،ولا تصمت حاجاتنا،لتفضحنا متى أُتيح لها ذلك،فنحار في قصة"الصقيع " مع بطل القصة،فهل نقبل النقود التي وضعتها المرأة في أيدينا بعد معاشرة جنسية شبقية وسريعة على شرف أحداث فيلم إباحي جنسي تشاركا في متابعته دون سابق إنذار،أم نغضب من هذا الفعل؟ أم نصمت؟ أم نبكي في أسوء الاحتمالات؟
كلّ ردود الأفعال مقبولة ومتوقّعة،ولكن ساسي يختار أن يصمت بطله،ويدس النقود في جيبه،ويخرج ضامّاً حزنه على هذه المفاجأة المؤلمة التي هبطت به إلى حدود البغاء،فجعلته يأخذ مقابل سعادة جنسية عابرة حصل عليها بانفعال ودون أن يقصد مع امرأة تجلس مجاورة لكرسيه في السينما حيث يعرض فيلم إباحي يتشاركان في سرقة لحظات انفعاله لتكون بديلاً عن خواء وحرمان يعيشانه في عالمهما الواقعي.فنجد البطل يعيش كلّ لحظة من الشهوة مستغرقاً فيها،وكأنّها ملكه وله :" .. انتقل البطل وصديقته الى البيت ... شربا بعض الكؤوس ... ارتفعت الحرارة ... نزعا ثيابهما ... اشتدت الحرارة ظهرت حبات العرق على جسديهما ... نزعت معطفي ووضعته على ركبتي ... تركت المرأة لحافها ... وضعت مرفقهاعلى حافة الكرسي ... ابعدت مرفقي ... وضت يدها على فخذي ... التحما البطلان ... صار للجسد فحيح ... وشهيق... وزفير... وتصاعد اللهاث ... وارتفع الصياح ... اشعر بالنيران تجتاحني ... اقتربت المراة ... لصقتني ... مررت يدها...فتحت...مسكت...يتمرغ البطلان على السريرالواسع ذي الشراشف الوردية ...أخذت يدي ووضعتها بين ... أصوات وصياح وتاوهات ... ضغطت على يدي... تسارعت حركاتها ... فتحت معطفها ...كانت عارية تماما ... ارتميت عليها اقبلها و... كتمت صياحا...خنقت آهات... تسارعت حركاتها...صارت قطعة مني ... اشتد لهاثها... ضمتني بقوة(23)
وأمام صمت بطل القصة الهامشي المسحوق تحت وطأة حرمانه،لانستطيع إلاّ أن ندّد بالحرمان الذي يعوز المرء لتعاطي السعادة الوهمية في حين يعاين الحرمان كلّ يوم في حياته،ويقبل كسيراً بأن يعيش إنساناً من الدرجة العشرين في هذا العالم الذي يحرمه حتى من أبسط حقوقه الإنسانية مثل حق ممارسة الجنس مع شريك ضمن مظلة الأسرة التي ماعاد من السهل تكوينها في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة،والمطالب المادية المتضخّمة،بل من غير المستبعد أن نتواطأ مع معاناة هذا البطل،ونشرع نتحسّس مكامن الحرمان والجوع والظمأ في أنفسنا،ليصبح العالم كلّه عندئذ صقيعاً لافحاً كما يراه ويسميه ساسي في هذه القصة التي تجرّد أرواحنا بحزن وقسوة أمام حرمانها البارد الملمس اللاهب الإحراق.
وهذه المجموعة القصصية الحداثية الشّكل والطرح تتغلغل إلى قطاعات الصمت والأحلام والأمنيات بل والفهوم الخاطئة لترصد بذكاء خاص وحساسية متقدة تلك المساحات التي تشكل عوالمنا الداخلية،وتشفّ عن كلّ ضعفنا ومزالقنا وأمنيات المؤجلة،حتى ولو كانت تلك الأمنية تنحصر في أن نلفت انتباه فتاة جميلة في حافلة،أو أن تدعونا تلك الفتاة دعوة خفية للاقتراب منها.وساسي حمام في هذا الشأن يقدّم بامتياز قصصاً ذات عدسة سينمائية عميقة تستطيع أن تلتقط بفضول ودهاء مساحات دقيقة من كلّ الأبعاد،مكبرة إيّاها إلى الحدّ الذي يسمح لنا بأن نراها بأدقّ تفاصيلها بما تحمل من كلّ متناقضات المشاعر وغرائبها .
وبهذه الكاميرا التصويرية نستطيع أن ندرك ونرى ونتحسس مشاعر بطل قصة" المقعد" الذي يركب المترو شأنه في كلّ يوم،لتلفت انتباهه فتاة تلمح له بحركات يفهمها على أنّها دعوة له بشكل أو بآخر،فيقترب منها،لتكون المفاجأة الصاعقة التي تجرحه وتلكزه من حيث كان يتمنى أن تسعده في لحظة نسي فيها عمره،وشرع يحدّث نفسها فيه بأماني المراهقين والشباب الطائشين،ليكتشف أنّ دعوة الفتاة له ليست كما ذهبت به الظنون،بل هي شكل من أشكال الحسّ الإنساني الراقي،فهي تدعوه إلى الجلوس مكانها،إذ راعت كبر عمره،ورأت أنّ من الواجب أن تفسح له المكان:" على احداهن ...فحصها جيدا ... نظرت اليه ... التقت النظرات ...ابتسمت ...خفق قلبه ... تسارعت دقاته... ابتسم فرحا... أشارت له ... فهم قصدها... تقدم نحوها ... وصل اليها بصعوبة... وقف بجانبها... قالت له :ياحاج ...ياحاج ...تفضل...اجلس ...لابد أنك تعبت من الوقوف".(24)
ونتوقع رد فعل من البطل،فلا نحظى منه إلاّ بالصمت الذي يشرعه على نهاية القصة،وعلى نهاية المجموعة القصصية التي تجعل من النهاية المفتوحة بوابة على كلّ الاحتمالات والتأويلات التي تنفتح على فوضى الواقع وتناقضاته،وتومىء إلى ذلك العالم الذي يعيشه المهمشون بسيرهم الخاصة ،وأفعالهم المتباينة،وظروفهم المختلفة،فيصبح الصمت في نهاية هذه المجموعة معادلاً موضوعياً للصّخب والفوضى التي بدأت بها المجموعة القصصية حيث نجد بطل قصة " " يؤمّل نفسه بالهدوء،بعد أن نال مبتغاه بعد معركة انتخابية شرسة :"أخيرا...تنفس الصعداء...أخيرا...شعر بالارتياح...أخيرا...خرج من القاعة المملوءة دخانا... توجه نحو المشرب ... اتكأ على حافته ... طلب كأسا من الماء البارد ... شربه دفعة واحدة ... شعر أن الماء أطفأ حرائق اشتعلت داخله منذ مدة ... انبلجت ابتسامة على وجهه ... أخيرا ... أرجع اليوم الى منزلي باكرا ... أنام نوما عميقا ...أشرب كثيرا حتى أنسى ما عانيته هذه الايام ... لقد كانت أياما صعبة حقا ... أجبرت على أن أكلم الجميع ... أن أصافح الجميع ... أن ابتسم للجميع ... أخيرا ... أوزع الهدايا ...رأى وجوها تخرج من القاعة ...فرحة ... حزينة ... مكفهرة ... مندهشة ... ضاحكة ... انتهت عملية فرز الاصوات ... اتجه أغلبهم نحوه ... انهالوا عليه ضما وتقبيلا ...طلب من النادل أن يلبي طلباتهم ... كل طلباتهم ... لن أدفع شيئا من جيبي ...شربوا أكلوا ... تحدثوا ... "(25)
وأخيراً:
يبقى القول إنّ ساسي حمام فنان بنكهة الانتظار والصّبر والتأمل الطويل التي تلفح مايكتب بجمالية الحرفية المتأنية التي تتيح لنا أن ننظر إلى العالم بنظرة عامودية وأخرى أفقية،وتهبنا قدرة على الرؤية عبر بعد رابع يسمح لنا بأن نرى الحياة في عيون أبطالها الحقيقيين من البشر الذي يشكلون الشكل الطبيعي للمشهد الإنساني،ويعيشون على حواف أهميته الفعالة ظاهرياً،بعيداً عن بؤرة المركز حيث الأهمية والقيادة والرفاهية والشهرة والمعارك العملاقة والخطيرة،ولكنهم في الوقت نفسه هم أرضية الثقل الإنساني،حاضنة الفعل الإنساني وتنوعه عبر العصور،وما الوقوف عند هذه الفئات المهمشة إلاّ إخلاص للفن في محاكاته للواقع،لا انزلاق إلى خياناته عبر التملق لطبقات تعيش في بروج مشيدة على الأوهام والأكاذيب وبحار من دموع العامة ودمائهم.
*******************************
الهوامش:
(1) انظر تعريف الشخصية الهامشية عند توفيق بكار وآخرون،القطاع الهامشي في السرد العربي،ط1،دار البيروني،تونس،د.ت.
(2)ساسي حمام،البطاقة، ط1،المؤلف هو الناشر،تونس،تونس العاصمة،2009.
(3) نفس القصة.
(4) قصة"الضجيج".
(5) نفس القصة.
(6) نفس القصة.
(7) قصة " العادة".
(8) انظر:نبيلة إبراهيم،المفارقة،مجلة فصول،مج7،ع3و4.
(9) انظر سيزا القاسم،المفارقة في القصّ العربي المعاصر،مجلة فصول،مج2،ع2.
(10) قصة " درس التصوير".
(11) نفس القصة.
(12)قصة" الكف والطريق".
(13)نفسه.
(14)نفسه.
(15)قصة" الكنز".
(16) نفسه.
(17)قصة" ذات ليلة".
(18)قصة " غرف ونوافذ".
(19) انظر :الشعلان(سناء)، السّرد الغرائبي والعجائبي،نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي،قطر،2007،ص:62-64.
(20) جولمان(دانييل)،ترجمة ليلى الجبالي،الذكاء العاطفي،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،الكويت،2000،ص:307 .
(21) إبراهيم (زكريا)،سيكولوجية الفكاهة والضحك،مكتبة مصر،القاهرة،-196،ص:88؛عبد الحميد(شاكر)،الفكاهة والضّحك،المجلس الوطني للثقافة والفنون،الكويت،2003ص:456.
(22) قصة" السيارة".
(23) قصة " الصقيع".
(24) قصة "المقعد".
(25) قصة البطاقة".