النهر العاشق
نازك الملائكة
لمنكوبي فيضان دجلة في محافظة صلاح الدّين آثرتُ أن أدرجَ هذه القصيدة الخالدة
أين نمضي? إنه يعدو إلينا
راكضًا عبْرَ حقول القمْح لا يَلْوي خطاهُ
باسطًا, في لمعة الفجر, ذراعَيْهِ إلينا
طافرًا, كالريحِ, نشوانَ يداهُ
سوف تلقانا وتَطْوي رُعْبَنا أنَّى مَشَيْنا
**
إنه يعدو ويعدو
وهو يجتازُ بلا صوتٍ قُرَانا
ماؤه البنيّ يجتاحُ ولا يَلْويه سَدّ
إنه يتبعُنا لهفانَ أن يَطْوي صبانا
في ذراعَيْهِ ويَسْقينا الحنانا
**
لم يَزَلْ يتبعُنا مُبْتسمًا بسمةَ حبِّ
قدماهُ الرّطبتانِ
تركتْ آثارَها الحمراءَ في كلّ مكانِ
إنه قد عاث في شرقٍ وغربِ
في حنانِ
**
أين نعدو وهو قد لفّ يدَيهِ
حولَ أكتافِ المدينهْ?
إنه يعمَلُ في بطءٍ وحَزْمٍ وسكينهْ
ساكبًا من شفَتَيْهِ
قُبَلاً طينيّةً غطّتْ مراعيْنا الحزينهْ
**
ذلكَ العاشقُ, إنَّا قد عرفناهُ قديما
إنه لا ينتهي من زحفِهِ نحو رُبانا
وله نحنُ بنَيْنا, وله شِدْنا قُرَانا
إنه زائرُنا المألوفُ ما زالَ كريما
كلَّ عامٍ ينزلُ الوادي ويأتي للِقانا
**
نحن أفرغنا له أكواخنا في جُنْح ليلِ
وسنؤويهِ ونمضي
إنه يتبعُنا في كل أرضِ
وله نحنُ نصلّي
وله نُفْرِغُ شكوانا من العيشِ المملِّ
**
إنه الآن إلهُ
أو لم تَغْسِل مبانينا عليه قَدَمَيْها?
إنه يعلو ويُلْقي كنزَهُ بين يَدَيها
إنه يمنحُنا الطينَ وموتًا لا نراهُ
من لنا الآنَ سواهُ?