لم يكن لى أمل فيك، ولا بنيت من حبك أكواخاً ولا قصوراً.. لا يركن إلى الأمل إلا من قصُر يومه فاختلس من غده.. أما أنا فقد كان حاضرى يفيض بى ويفيض عنى.. كان! فكل ذلك قد ولى وفات.. وكأن الذى أغدق علىّ بالأمس يتقاضانى اليوم ثمن الإسراف بالحرمان.. وكم من محروم مظلوم!
يبدأ الحب بعد أن نختار، وتأخذ البداية شكل عطاء تحس فيه أنك لا تعطى، ولو أحسست لحظة واحدة فى الحب أنك تضحى أو تعطى، فأنت تمارس حباً له شكل التجارة، وأى حب يختنق لو مارسه الإنسان كتجارة.
ولأن حواسنا تتنبه لأسباب الشقاء والتعاسة بأسرع مما تتهلل لأسباب البهجة والسرور، فمن واجب الإنسان تجاه نفسه أن يدرب مشاعره على الاحتفاء بالقليل الذى يتاح له من أسباب السعادة كما يتأثر تلقائيا بدواعى الشجن والتعاسة.. فنعادل بذلك بين لحظات البهجة القصيرة وفترات الشجن البطيئة.. ونقبل بهذا المزيج العادل ونمضى فى طريقنا إلى غايته المرسومة، كما يفعل ماء النهر الذى لا يرجع إلى منابعه أبدا، ويواصل السير دوما مع التيار إلى مصبه الحتمى، ولأن الأمر كذلك فلا مفر أمامنا من أن نحاكى النهر فى مسيرته الأبدية ونمضى فى طريقنا المقدور لنا راضين بما حملته الامواج لنا من أسباب السعادة وأكدار الشقاء.
شعبى الأعزل يقتلونه، ويقتلعونه، وينسفونه، ويبعثرون أشلاءه عبر وديان الأرض وجبالها.. مطر مطر مطر.. فلأقتُل، ولأمت بعد ذلك.. تهاوت الجدران، وتعالى الصراخ، والمطر ينهمر، وأفواه القرب تتقيأ أحشاء السماء يمجموعها على المدينة المجرحّة المسكينة، المدينة المعشوقة المنتهكة فى المطر، وفى الليل، المنتهكة فى الضحى وفى الظهيرة، فى الصحو والغيم والعاصفة والسكون.. بكيت صامتاً.. ووجهى تضربه الريح والمطر.. جزعت على أخى القتيل، وجزعت على أهلى القتلى، وجزعت على صحبى، وأمّى، وجزعت حتى على من قتل فى تلك اللحظات، ومن سوف يقتل.. والمطر يدق النوافذ، والأبواب، يريد أن يخترق البيوت والمغلقات والأعماق، يريد أن يجرى أنهراً فى الحنايا والخفايا، مهدداً بالموت، ومنقذاً من الموت من احب، من سوف ألد.. مؤذناً بحياة تضطرم وتصطخب وتتناسل سراً وعلانية.. أيها المطر! أيها الفجر الأسود الذى لا ينبلج! أيتها الساعات المحمّلة بالهدم والردم.. بالأنقاض والخرائب، أيها الصباح المحشرج بسيول الدم التى ستدفق يوماً، وغداً، وبعد غد، والسنة القادمة، وما أنفكت تدفق عبر خمسين سنة من صراع، وجراح، فى كل ساعة من ساعاتك الثقيلات الباكيات.
أعلم أنى لست سوى خبر شائع، نار متنكرة بالضياء، قول يخرج من أحشائك ثم يهوى فى البئر.. صوتى تحمله الرياح حتى لو كانت الرياح مشبعة بالرمال ومضلّلة.. أنت وحدك القادر على إخراج نفسك من النفق.. ولكى تفعل، تعوزك إرادة ضارية، وطاقة ذهنية أقوى من الحلم، وأسطع ضياء من الصلاة.. إنى لا أسكن الشجرة.. بل أسكن الأفكار التى تؤلم، التى تمزق جلدى، ومع ذلك ترتقى بى إلى ما فوق الجبال والغابات الوسنة.. إنى راحل.. لقد نأيت لتوّى.. إنى أعيدك إلى ذات نفسك، إلى عزلتك وإلى رشدك!
ليس هناك ما يسمى (أنا).. إن (أنا) هذه ليست إلا ملايين من الناس يتناقش بعضهم مع بعض.. بينهم رجل شرير وبينهم رجل خير.. وبينهم رجل ذكى وبينهم رجل غبى.. وبينهم رجل ضعيف، وبينهم رجل قوى.. كل هؤلاء يتناقشون، ويتصايحون ويتعاركون داخل الجسد الواحد.. ثم يتغلب أحدهم على الآخرين فيصدر حكمه إلى العقل وإلى اللسان، وإلى أعضاء الجسم.. وعلى أساس هذا الحكم يتصرف الفرد تصرفا معينا.. هذا التصرف هو ما يسمى (أنا)