أمطرى يا قبضة الزبد التى تدعى سُحُب
أمطرى رغوتك الجوفاء فى كوب اللهب
هذه الأسوار ما رقّت لدقاتى الحزينة
وشعاع القبة الفضّية الملساء يغلى..
فى مراياى الثمينة
آه لو أملك سيفاً للصراع
آه لو أملك خمسين ذراع:
لتسلمت - بإيمانى الهرقلى - مفاتيح المدينة
آه.. لكنى بلا حتى.. مؤونة!
إن أول عهد قطعه على نفسيهما كائنان اثنان من لحم ودم، كان قرب صخرة انهارت فذهبت هباء منثوراً.. وقد أشهدا على ثبات عهدهما سماء لم تثبت لحظة واحدة على حال.. وكان كل شىء يعتمل داخلهما ومن حولهما، وهما يحسبان أن قلبيهما منعتقان من تقلبات الزمن.. فيا لهما من طفلين.. وسيظلان طفلين أبداً
حدثتكم فى الزمان فأنصتم إلىّ.. وأنشدتكم فطربتم للنشيد.. ثم متّ وتركت لكم النشيد مدوناً على ذهب بحروف من عبير.. وجاءكم الدجالون فأعطيتموهم النشيد، فأخذوا يبدلون فيه ويغيّرون حتى صار النشيد غير النشيد.. باعوا الذهب وبددوا العبير فضاع الحق بين أصوات المنشدين.. وأنتم سمعتم وطربتم للأصوات.. ونسيتم العهد واللقاء.. فهل متّ أنا أم أنتم الأموات؟
ومن هذه الكلمات، شعرت أن روحى التى كانت تشبه كتلة متراصة صارت (غربالاً)، انفتحت فراغات بين كل فكرة وأخرى، وكأن ذهنى صار جزراً صغيرة متباعدة فى محيط أزرق مشمس، بين الجزيرة والأخرى معارف لا نهائية غير مكتشفة، وشعرت أن كل ما أعرفه لا شىء مقارنة بما يمكن أن أعرفه.. أوليس هذا نوعاً من أنواع إفراغ الذهن من محتواه؟ هناك كلمات (تملأ) الرأس بمحتواها، وكلمات (تُفرغه) من محتواه، والأخيرة أجمل. الذهن هو (ممكناته) وليس (ما فيه).
ما أصعب ميلاد الخيال فى قصة تعيش.
فلفحة الألم تعتمل فى صدر الكاتب تسعة أشهر، تسعة أعوام، العمر كله، حتى تعصف به آلام المخاض فيلدها قصة، إذا تنفست هواء أرضنا عاشت، وأما إذا هبطت علينا من كوكب آخر لا يتنفسون فيه هواء كوكبنا اختنقت وولدت ميتة.
وأصعب منه ميلاد الحقيقة فى قصة ملتفحة بالخيال يقيها لسع البرد.
مثل وميض البرق، لا تستطيع أن تحضنه فى صدرك شهراً، ولا تستطيع أن تحضنه لحظة.. إما أن يمزق حجب الظلام أمامك فترى ما هو أمامك وتهتف: إنى أرى ما هو أمامى.. وإما أن يمزق أحشاء صدرك تمزيقاً، فلا تعود ترى ما هو امامك، وتتأوه.
الآن فقط عرف سبب تفوقهم على قرناء البصر الذين يعتقد الناس أنهم يبصرون.. الآن، بعد أن جرب ضياء المملكة الخفية وتحمم بسلسبيل النبوءة، وتلبّس الخفاء فى وطن الحقيقة.. الآن فحسب أكبر فيهم عشقهم للظل، وتعلقهم بالعماء، واستهانتهم برؤيا العين، لأنهم لم يروا فيها أكثر مما يجب أن يرى بحدقة العين، لم يروا فيها أبعد من المدى المكشوف على الفراغ، المدى المنتهك، المدنّس، المقلوب، الذى انتزعت منه اللؤلؤة، وسُرق من بين يديه الكنز، وأُخفى بعيداً.
ولكن لِم تتعلق هى بهذا الشعاع الكاذب، والقبس البراق؟ لم لا تغمض عينيها فلا تعود تحس بألم الخدعة، ومضاضة الوهم؟
إنها تحاول، ولكن لا تستطيع.. أى تائه فى الحلكات يستطيع أن يغمض عينيه عن بارقة تلوح، مهما كانت كاذبة؟
أى صادٍ يمكنه أن يعرض عن سراب يلمع مهما يكن كاذباَ خداعاَ؟
إن النفس الحزينة لتتوق إلى العزاء، حتى ولو كان نفاقاَ فى نفاق.
وهكذا كانت تقبل فى كل مرة على البارقة الكاذبة والسراب الخادع والعزاء الملىء بالمرارة والسخرية.
فى كل مرة كانت تصيبها نفس المتعة ونفس النشوة.. وفى كل مرة أيضاَ كانت تعقبها نفس الصدمة ونفس اللوعة.
أيها المخبول الذى يحاول أن يحمل نفسه على كتفيه، أيها المتسول الذى يقدم ليستجدى من باب بيته نفسه.
ضع أعباءك بين يدى من يستطيع أن يحمل كل شىء، وإياك أن تلقى بنظرة حسيرة إلى خلف.
إن اشتهاءك يطفئ شعلة المصباح إمّا لامستها أنفاسه، إنه مدنّس، فلا تقبل أى عطاء تعرضه يداه الملوثتان، وارض بما يقدمه إليك الحب المقدس فحسب.
ينحدر من تلال أفريقيا البعيدة، مهيباً كملك، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحرقة الصحراء الممتدة، يخترق جلاميد الصخور البالغة الصلادة، ويواجه ستة من الشلالات العنيدة، يملأ الغابات الصامتة بالصخب والهدير، يفور بالزبد، وينثر الرذاذ ويخلق أقواس قزح لا تتبدد، يجتاز أشجار السنط والأبنوس والصفصاف والجميز، ويمضى متفرداَ مثل شاعر حزين وسط مجاهل الصحراء، لا تجود عليه السماء بقطرات من المطر، ولا تذوب الثلوج من اجل إنعاشه، لا يحيط به إلا جلاميد حجرية داكنة تشاركه أسرار الأبدية، ويحرص النهر بدوره على ألا يمحو ما عليها من نقوش وجعارين وخراطيش، يندفع وهو متقلب المزاج، حاملاَ طمى الخلق الاول، فيه شىء من رعونة النيل الأزرق، وبعض من حكمة النيل الأبيض، يعلو ويهبط، ويتفرق ويتبدد أحيانا ليضيع فى مسارب المستنقعات، ثم يجمع شريانه الرئيسى المتوحد، لا يهدأ ولا يأخذ سمة الوقار والعبوس إلا عندما يلمح رؤوس النخيل فى جنوبى وادى مصر، أقدم نخيل عرفه بشر، يقف مزهواَ على صفاف النهر منذ آماد بعيدة، غرسه الفراعنة وشذبه الأقباط وأكل من بلحه جنود الرومان وعرف الفاتحون العرب أسرار فسائله فنشروها.