اغتراب
1-
انتصف الليل ، هجرني النوم ، و تركني في عراء الغرفة ، رائحة الرطوبة المشبعة بالعفن ، تثقل صدري ، أتحسس الورقة اليتيمة في جيببي ، هذا ما تبقى من الراتب ، و الشهر في أوله، جرّبت كل العمليات الحسابية ، لم تنفع شهادتي الجامعية في إيجاد معادلةٍ ، تجعل الورقة النقدية تكفي لأظل حياً حتى آخر الشهر .
أشعل الصندوق القديم الذي أسميه تلفازاً ، و بخبطةٍ قوية على رأسه ، تستقر الصورة المضطربة ... جندي أمريكي يفتش امرأة عراقية ، تمتد يداه من تحت الإبطين هبوطاً إلى الخصر ثم القدمين ... تنتابني رجفة ، النوم أفضل ...... البرد شديد ، لا أستطيع النوم ، اللحاف مهترئ , صفيحة التنك فوق موقد الغاز ، مناظر الدم و الحرائق التي يبثها التلفاز ، كلها لم تستطع أن تبدد البرد ، أرتدي ملابسي على عجل ، أخرج من القبو الذي سماه صاحبه حين استأجرته غرفة .. أمشي في ظلمة الشوارع الخالية إلا من كائنات الليل المريبة ، تغوص قدماي في برك الطين ، و تغوص يداي في جيوب المعطف بحثاً عن دفء موهومٍ .
2 -
الليل انتصف ، و جدران الغرفة العارية تزيد وحدتي .. في النهار تؤنسني أصوات المارة و الباعة .. أما الليل فيبعث وحدتي من رقادها .. منذ ساعة و أنا أقف وراء الباب الموارب ، أتأمل المطر ... البرد قارس ، و الليل طويل ... إذا لم يطرق أحدٌ بابي ، سأصوم عن الطعام كما صمت البارحة مكرهة .
مطر .. مطر كثير ، لكن الضروع جفّت ، و الأرض نسيت اللون الأخضر ... و هذا الجسد الشاحب و الصدر الهزيل لن يجتذبا أحداً .. ( مومس السياب العمياء لن تغري أحداً ) ... ينكسر شرودي بوقع خطا وئيدة .. يبدو من مشيته و شروده أنه ليس من زبائن الليل ... لكن سأحاول .. سعلت ، فالتفت ، دعوته للدخول .
3 –
دخلتُ متردداً .
- معك نقود ؟ .
سألَتْني .
أخرجْتُ الورقة من جيبي و ضحكتُ : هذا ما تبقى من الراتب و الشهر في أوله .
- نقودكَ قليلة ، لكن لا يهم الليل في أوله و البرد قارس .. ثيابك مبتلة ، يبدو أنك سرتَ تحت المطر كثيراً .
- لم أستطع النوم ، فخرجت ألتمس الدفء تحت المطر .
- تبدو مهموماً ؟.
- ماذا أفعل ؟ عائلة في القرية من تسعة أشخاص و المواسم صارت ماضياً ، و الراتب أبعثه ثمناً للخبز .
- على الأقل لديك عائلة تفكر فيها ، يفرح قلبك حين تراها ، تنتمي إلى أهلٍ و قرية و أرض ، أما أنا ...
- أليس لديكِ أهل .
- بلى ، تركتهم هناك في بغداد ، ينامون مع أهل الحي في مقبرةٍ جماعية ، هاجمتنا قوات الاحتلال ذات ليلة ، لا أدري كيف نجوت ، و لا أدري كيف غادرت بغداد ، من قرية إلى قرية ، وجدت نفسي بعد أيامٍ من الخوف و الضياع هنا ، قلت : الشام كبيرة ، لا بد أن أجد عملا ً فيها ، بحثت كثيراً ، قلت لأرباب العمل : لديّ شهادة جامعية .
ضحكوا ، و قالوا : لدينا شهادات و شهادات .
أنهكني الجوع ، و أذلتني الغربة ، استأجرت هذه الغرفة ، و صرت كما ترى ..
تجمعتْ قطرات الدمع في عيني ، وضعتُ الورقة النقدية على طرف السرير ، و اتجهتُ نحو الباب.
- إلى أين ؟ دفعتَ نقوداً ، ألا تريد البضاعة ؟! .
تذكرتُ الأسرى في ( أبو غريب ) ، تذكرت مشهد الجندي الأمريكي ، و هو يفتش المرأة العراقية ، لو فعلت سأكون مثله حتماً .
لا أريد شيئاً .
قلت لها .
- تكفيني نقودك بضعة أيام و بعدها ؟ .
- اسمعي .. جهزي نفسك ، سأمرّ بعد نهاية الدوام ، و آخذك إلى القرية ، قريتنا صغيرة ، و سكانها طيبون ، عائلتي تسعة أشخاص ، لن يتغير الأمر كثيراً إن صارت عشرة أشخاص . ركضتْ باتجاهي ، عانقتني مبتسمةً دامعة .