السؤال الثلاثون
وكل خسارة مذكور في القرآن فهي خسارة الدين، والخاسرون في القرآن هم من خسروا آخرتهم.
ومعرفة أسباب الخسارة، وأعمال الخاسرين سبب لاجتنابها، والنجاة منها؛ والله تعالى قد بين لنا في كتابه العزيز كل طريق يؤدي إلى الخسارة، ويجعل صاحبه من الخاسرين.
وكل كفر فهو طريق إلى الخسارة، وكل كافر فهو خاسر، وكل معصية فهي سبب للخسارة، وكل عاص يخسر بقدر عصيانه، بيد أن وصف بعض الذنوب في القرآن بالخسارة، وذكر أعمال الخاسرين وأوصافهم إنما كان لشناعة ما عملوا فكانت الخسارة فيه كبيرة؛ وذلك لتنبيه العباد وزجرهم، وتعظيم أسباب الخسارة في قلوبهم. وإما لكون العمل الموجب للخسران يكثر وقوعه من الناس فاقتضى تخصيصه بالتنبيه رحمة من الله تعالى بعباده. وإما لكونه ذنبا لا يظن من يقارفه أنه يوصله للخسارة، فاختص بذكره للعلم به. ومفردة الخسر وما اشتق منها كررت في القرآن في أكثر من ستين موضعا، مما يدل على أهمية الموضوع في القرآن.
والكفر بالله تعالى أعظم الخسارة؛ لأنه يوجب خسارة أبدية، ويجعل صاحبه من الخاسرين ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 52] ﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15] ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65] وكلما أوغلوا في الكفر بالله تعالى ازدادوا خسارا؛ فكما أن الكفر دركات فكذلك الخسران دركات، يزداد الكافر خسرانا كلما ازداد كفرا ﴿ وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ فاطر:39]. ﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴾ [ نوح:24].
والمال والولد نعمة ومع ذلك فقد تجني على صاحبها بظنه أن الله تعالى ما أعطاه إلا لرضاه عنه، فيكفر بالله تعالى، ويكون فتنة لغيره بأن يتبعوه كما قال نوح عليه السلام واصفا عامة الكفار من قومه ﴿ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ نوح:21].
ومن الكفر المستوجب للخسارة الكفر بآيات الله تعالى الكونية أو الشرعية ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الزمر: 63] ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [يونس: 95]. وقال تعالى عن القرآن ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121] ومنه التكذيب بالبعث والجزاء ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [ يونس:45].
ولا يظنن ظان أن الكفار لا يدينون بدين، ولا يعملون أعمالا يظنونها صالحة؛ فإن أكثرهم يدينون بدين، ويعملون أعمالا، ولكنها تعب في الدنيا، وخسارة في الآخرة ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ الكهف:103-104] لأن الله تعالى أمر عباده بدين الإسلام، وبما شرع فيه من عبادات وأحكام، فمن دان بغيره، أو عمل بعمل ليس من الإسلام فهو خسارة على صاحبه ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85] وهذا يكشف عظيم نعمة الله تعالى علينا بالهداية للدين الحق وهو الإسلام، كما يبرز حجم الضلال في البشر ولو اكتشفوا الذرة، وصنعوا الحضارة، وبلغوا الآفاق، وغاصوا في الأعماق.
ومن الناس من يكون إيمانه لأجل الدنيا، فإذا نال بإيمانه مالا وجاها ونعمة التزمه، وإن ابتلي بسبب إيمانه ترك إيمانه، وهذا من أشد الخاسرين؛ لأنه جعل إيمانه وسيلة لدنياه، ولم يجعل دنياه وسيلة لإيمانه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ﴾ [ الحج:11] وفي زمن العدوان الصليبي على الأندلس تنصر عدد من الوزراء والقضاة والتجار والأعيان حفاظا على أموالهم وضياعهم، ولو أنهم ضحوا بها فداء لإيمانهم لكان خيرا لهم، ولو أنهم قتلوا على إيمانهم لكان شهادة لهم، ولو أنهم فروا بدينهم لكان أسلم لهم ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].
والكفر بالقرآن باب إلى الخسران، سواء كفر به كله أو كفر ببعضه، وكثير من الناس قد يرد حكما مما جاء في القرآن ولا يدري أنه برده إياه صار من الخاسرين ولو كان من المصلين، وما أكثر الواقعين في ذلك في هذا الزمن الذي اجترأ فيه المنافقون والفساق على الشريعة فانتهكوها ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121].
ومن عجيب أمر القرآن أنه مصدر هداية للناس، ومع ذلك فلا ينتفع به أهل الخسران، بل يزدادون خسرانا بتكذيبهم آياته وأحكامه وعدم انتفاعهم بقصصه ومواعظه ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ الإسراء:82].
وثمة أعمال وُصف مرتكبوها بالخسران لشناعتها وكثرة وقوعها؛ ليحذر الناس منها، كسفك الدم الحرام ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ المائدة:30]، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ الأنعام:140] ونقض العهد، وقطيعة الرحم، والإفساد في الأرض ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ البقرة:27] والأمن من مكر الله تعالى ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف:99]، واللهو بالمال والولد عن ذكر الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ المنافقون:9] وسوء الظن بالله تعالى ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ فصِّلت:23] وطاعة الكفار وهي جالبة للخسارة في الدنيا وفي الآخرة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149] وكذلك التفريط في الصلاة سبب للخسارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن أَوَّلَ ما يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يوم الْقِيَامَةِ من عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» رواه الترمذي.
ومنع حق الله تعالى من المال باب إلى الخسران؛ كما في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا – مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ – وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» رواه الشيخان.
والخاسرون قد تكون خسارتهم كليه وهم من فقدوا أصل الإيمان، واستوجبوا الخلود في النار، وهم من حقت عليهم كلمة العذاب ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 18] ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [ المؤمنون:103] ومنهم من خسارته جزئية كمن قارف سيئات قد يعذب بها في الآخرة، وأقل خسارة منهم من خسروا حسنات في الدنيا فسُبقوا إلى أعالي الدرجات في الجنة. وقد فضل النبي صلى الله عليه وسلم قبائل ضعيفة مغمورة سبقت إلى الإيمان على قبائل قوية مشهورة، حتى قال قائل في المسبوقة: خابوا وخسروا
وعندما ندقّق في الخسر والخسران أكثر نجد أنه عبارة عن ذهاب رأس المال إما كلاً أو بعضاً، والخسران أبلغ من الخسر. وخسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة والشقاء، بحيث يبطل منها استعداد الكمال فتفوتها السعادة8، والخسارة هنا أشمل من الخسارة المالية أو الماديّة، إذ الخسارة المادية أو المالية في عمل أو تجارة ونحوه يمكن أن تعوَّض، أما الخسارة التي يخسرها الإنسان هنا فإنّه لا يمكن أن تعوّض.
ماذا يخسر الإنسان؟ يخسر الإنسان رأسماله الحقيقي، وأغلى ما يملك في هذا الوجود وهو عمره، فالعمر في حالة نقصان وتسرّب دائمين، ويتناقص يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة ولحظة بعد لحظة، وبسرعة دون أدنى توقّف أو تأخر أو بطء، فتضعف قوى الإنسان المادية والبدنية والمعنوية، فالعمر كثروة ورأسمال كبير يؤخذ منه كل يوم شيء، رغماً عن صاحبه، فيكون في حالة خسران مستمر. ينقل أحد العلماء في تفسير هذه الآية عن أحد الصالحين أنّه تعلّم معنى هذه الآية من بائع ثلج، يعرض بضاعته تحت الشمس وكان يصيح ويقول: إرحموا من يذوب رأس ماله. فالمعلوم كما في الروايات أنّ كلَّ نَفَس من أنفاس الإنسان يقرّبه خطوة نحو الموت، روي عن الإمام علي عليه السلام "نفسُ المرء خطاه إلى أجله"9.
يأتي الخسران في اللغة بمعنى النقص، كما قال ابن فارس: خسر: الخاء والسين والراء أصل واحد يدل على النقص، يقال: خسرت الميزان وأخسرته، إذا نقصته.
ومن معاني الخسران الضلال والهلاك كما جاء في لسان العرب: والخسار والخسارة: الضلال والهلاك، وفي التنزيل العزيز: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}.
قال الراغب في «المفردات في غريب القرآن»: الخسر والخسران انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته؛ قال تعالى: {تلك إذا كرة خاسرة}، ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين فقال: {الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين}، وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالمقتنيات الدنيوية والتجارات البشرية.
وأسباب لخسران الشرك والكفر وعدم الايمان والتكذيب بلقاء الله والردة