خَلفَ كل تجربةٍ تَعبرُ جَسدَ العمرِ حكايات مَنسيّة ..
حِكاياتٌ تخفِتُ في القلبِ ، وأخرى تبزغُ في القلب ، وكلّ حِكايةٍ تخلِّف رمادَها ، ومِنْ تحتِ الرَمادْ عَلينا أنْ نَنبش لنستوحي مِنْ جذورها كيفَ نزرَع شَجرَ الزيتون .
لطالما راودتني فِكرة الكتابةِ عنها قبل الآن ولم أفعل ..
ستقولون لي : ما شَأننا نَحنُ بِجدّتك وضفائرها الطُهر و أساورها اللجين وكُحل عينيها و(مدرقتها ) الكركية بالقطبة الفلاحية ورائحة الهيل تَضوعُ مِنْ أركانِ مطبخها ؟
وبالتأكيد فالأمر لا يَعنينا إلا مِنْ زاويةٍ واحدةٍ : هو أنها أرادت أن تَكون ذاتها ، وهو حلمٌ مَشروع لكيانها المجبول بطينِ الأرض ، ويَعنينا لأنها حَصَلت على حِصتها مِنْ نورِ الشمسِ وَحِصتها مِن ضَوْء القَمر دون أنْ تنضَم لأي جمعيةٍ نسائية .
وَجدّتي امرأة أميّة ، لَم تقرأ سَطرا ً واحداً في كتابِ ( تحرير المرأة ) لقاسم أمين إذ أنها كانت تؤمن ببديهية مُطلقة أنها حرّة ، وحريتها ليست قابلة للأخذِ والعَطاء فَوق طاولة مفاوضات ، أو حتى فوق صفحات كتاب يعلّم المرأة كيف تكون حرّة ! .
وَجَدّتي لم تتردد للحظة ٍ واحدة بتقديم واجب تصنيع مؤونة بيتها مِن ( مقدوس ومخللات ومربى سفرجل وكبس زيتون أخضر وأسود ) على واجب السفر للمشاركة بمؤتمر لتحرير المرأة في كلية راسكن بإكسفورد عام 1970 ، إذ أن الأمر لا يعنيها من قريب ٍ أو بعيد .
وَهي ( حسب معلوماتي ) أخذت حقها كاملا ً في ميراثها من والدها دون أن ترفع أي عريضة للمفتي العام كي يصدر قانونا ً خاصا ً بمنع تنازل النساء عن ميراثهن ، لأن الحصول على الحقوق ( في عُرفِها ) لا يحتاج إلا للتصميم والجرأة ، ومن لا يمارس هذه القناعة فعليه اللجوء وبصمت ٍ مخجل للملح يرشه فوق جروح خيبته.
وَجَدَّتي ( الأميّة ) اختارت زوجها على طريقتها بعد أن أعلنت الحب عليه بسهولة ٍ تامة ودون أن يكبلها المجتمع بأية قيود ، طالما التزمت بمعاييره وتقاليده وأعرافه ، واستطاعت خلال نصف قرن ٍ على الأقل أن تمارس حياتها معه بشكل ٍ طبيعي دون أن تلجأ ( للخلع ) أو حتى لطلب ( الطلاق ) باستثناء تلك المرّة التي علمت فيها أنه أرسل ابنها للعلاج من مرض السرطان إلى ( إسرائيل التي تقتل الناس حسب رأيها ) ، وهي بالطبع كانت قادرة على اتخاذ قرار ٍ مثل هذا دون أي شعور بالخنوع أو الضعف ، إذ أنها كانت تحتفظ خلال هذه الفترة الطويلة في مؤسسة الزواج بذمة ٍ مالية مستقلة عن جدي ، من خلال ما تجنيه من أرباح ٍ بعد بيع محصول أراضيها حيث كانت وما تزال تمارس الإشراف على الزراعة فيها بنفسها .
هذه المرأة لَمْ تلهث يوما ً خلف أحلام الجمعيات النسائية ومطالبها إذ أنها أدركت و بفطرتها النقية أن أول شرط لممارسة أية حرية هو حمل المسؤولية عن جدارة وعدم اعتبارها ترفا ً إضافيا ً ، وفهمها لهذه العلاقة على هذا النحو المدهش جعلها تدرك أن اهتمامها بتربية أبنائها وسعيها لحصولهم على أعلى الشهادات هو شهادة تضاف إلى رصيدها هي ، من خلال سهرها على راحتهم وعلى حياكة أحلامهم تحت سراج التصميم .
هو نفس الدستور الذي ألزمت والدتي به عندما ضربتها ليلة زفافها ، لأنها اشترت الكثير من الملابس كأي عروس مقبلة على الزواج إذ أنه هذا الأمر يدخل في باب الإسراف غير المبرر ضمن حسابات عرفها الأصيل ، وهو نفس الدستور الذي بثته إليّ عندما زرتها أثناء فترة حملي بطفلي وكنت أتقافز فوق الدرج حيث نهرتني قائلة : احذري ، ابن الناس أمانة ! ووقفت مشدوهة أفكر: أليس ابني أيضا ً !؟ .
جدّتي لم تصفق لقانون ( الكوتا ) النسائية ، ولم تبتعد عن مجريات الحياة السياسية الأردنية أو تلك العربية ، لأنها تثق بقدراتها وكينونتها داخل مجتمع ٍ تشكل فيه حجر الزاوية كزوجة وأم وأخت وبنت وجدّة وعمّة وخالة .
ثمّة أشياء ما زلنا نمتلكها ، وتتدفق من أعماقنا ، ولا نريد أن ننساها ، ولن نسمح لروح العصر بسرقتها منا ، وهي أشياء لا تحتاج إلى إنشاء جمعيات تطالب بها أو تصرخ للحصول عليها ، لأنها داخل كل إنسان سوي خرج من ظلمات مستنقعاته النفسية ، ودخل مساحات مضيئة من المحبة والثقة بإمكانياته، في أمّة ٍ تمر بمأزق ٍ حَرج يتطلب حشد الطاقات كلها لمواجهة عدّو فعلي بدل التوهم أن العدو هو الرجل الرفيق في هذه المعركة ، فنحن لا نريد أن ننسى ( مؤسسة الأسرة ) في غمرة انشغالنا بمحاكاة كل عصري وتقليده تقليدا ببغائياً أعمى .
في هذه العجالة من الوقت قرأت بتمعن تام، تسلسل الأفكار
وجمال السطور، وروعة التعبير ..
لقد عدت بنا الى الوراء كثيراً، حيث الاصالة والروعة
والنقاء، يوم كانت المرأة تعمل بصمت وتنتج بصمت
دون أن تلهث وراء .. الجمعيات
اخذت حقها وبقيت منقوشة في ذاكرتنا ..
وهو بالضبط ما كنت أريد للمتلقي أن يصله ، المرأة لا تحتاج للجمعيات النسائية كي تطالب بحريتها لأنها حرّة كما خلقها الله وعليها أن تؤدي واجباتها كي تحصل على حقوقها بكل بساطة .
دعني أعترف بأن موضوع الجمعيات النسائية ( بشكلها الحالي وعناصرها غير المرغوبة وأهدافها اللاواقعية ) يؤرقني .
أشكرك سيدي على بهاء مرورك وعمق القراءة وجميل الثناء
مساؤك ِ خير .. ولكنني لم أقصد السرد بل قصدت هنا أن أعطي نموذجاً لم يهدر عمره بحثاً عن حقوق هو يمتلكها حقاً ، هي ليست جدتي بل كما قال الأساتذة الأفاضل هنّ جداتنا رمز الترفع عن صغائر الأمور
لم أقرأ مقالا بل نصا أدبيا رائعا يموج بالصور الجميلة والاستعارات الرائعة وكل المجازات البلاغية فأنا أمام خاطرة يفوح منها عبق الأدب الرفيع وليس فيها من فنون المقال إلا الأسطر الأخيرة وقد أكون واهما لعدم معرفتي بقواعد المقال والخاطرة ولكن هذا ما تراءى لي أثناء التهام النص فقد شممت عطر البلاغة العربية في تحبيب النساء إلى المجتمع وأن جداتنا الأميات كن واعيات لدورهن في الحياة أفضل بكثير من النساء المتعلمات الحاملات لشهادات جامعية عالية
اعذريني إن قصرت ولكن إعجابي بالنص قد عقد اللسان وألجم الحروف فهو قطعة أدبية رائعة ولك الحق في أي مكان تضعيه
المرأة هي القادرة على انتزاع حقوقها
هي من تستطيع أن تفرضها
ولا تنتظر من أحد أن يمنحها هذا الحق
البناء الأساسي يبتدئ من الأسرة ليصل المجتمع
فكلما كان أساس البنيان قويا أصبح البنيان أكثر متانة
استطعت إيصال ما تريدين قوله بطريقة غير مباشرة من خلال هذا الطرح
نعم إنها حكايات تخفف من آلام القلب في ظل الفوضى الآنية
شكرا لك
وبما أن المقال يناقش حقوق المرأة
علي أن أنقله إلى قسم المرأة
قلّة في هذا العالم ممن يستحقون الاحترام والتبجيل وأنت سيدي منهم، وأقسم أنني أكثر الناس بعداً عن التملق والنفاق ولكنني شعرتُ بدمعةٍ سخيّة تنسكبُ على خدي عندما قرأتُ تعليقك إعجاباً بهذا التواضع وبهذه الطريقة الودودة التي توجه فيها تلاميذك، هي العبارة التي أكررهها دوماً : ( هو تواضع الكبار ).
نعم هي خاطرة كما أشرت، لكنها تحملُ شكلاً اجتماعياً وقد لاحظت أن قسم الخاطرة هنا يقترب من جانب البوح الشخصي، ودعني أخبرك عن هذه الخواطر التي أسميتها مقالات أدبية ، طلب مني أن أكتب مجموعة من المقالات لموقع رأي وسياسة وهو موقع للشاعر والأديب والصحفي خالد محادين، وقد عكفت على هذا بالفعل لكنني لم أستطع أن أخرج من لغتي وأسلوبي الخاص، فاتفقنا أن يكون هناك تصنيف أسميناه ( آفاق ) داخل الموقع كي أكتب فيه بعد أن لاحظنا نجاح هذا النوع من التوجيه الإجتماعي من خلال استخدام الشكل الأدبي.
سيدي لك كامل الحق بنقلها أينما شئت، ودعني أقدم لك أعمق امتناني على ألق حضورك ورقّة توجيهك