طفولتي ( 6 )
في ليلة شتائية باردة غريبة ، كانت ليلة خميس يليها يوم جمعة ، غمرني لوالدي شوق عجيب لم أعهده ، و رغبة بالتعلق به و قد أخلد للنوم و بإسناد رأسي إلى ظهره و الالتصاق به كأنما أستجدي الغياب في جسده و التوحد به .
لا أدري أي مشاعر غريبة انتابتني ساعتها ، لكنني أحسست أن الاقتراب منه قدر ما أستطيع و عدم مغادرته و لو لحظة واجب و فرض تمليه علي قوة ما لست أعلمها .
ما زلت أذكر تلك اللحظات كأنني أعيشها الآن ، و قد أطفئت الأنوار ، و التصقت أنا بظهره أتحسسه و أتلمسه و أسند رأسي إليه شاعراً بالأمان و الراحة ، كأنني بذلك أمنع غيابه عني دون أن يبدي هو أي حركة ، و كم أسرني حينها دفء القرب منه كأنها المرة الأولى ، بقيت سادراً في ذلك دقائق كانت كالعمر كله ، قبل أن تطلب منيأمي الابتعاد عنه خشية أن أضايقه .
رفضت و تعلقت به ، لكنها بإصرار كسرت حاجز العناد لدي ، و أخذتني للنوم في غرفة أخرى ، و قلبي ما يزال مشدوداً إلى والدي في نومته تلك .
و كأن الإحساس بضرورة البقاء إلى جانبه كان مغروساً في قلبي بإرادة غيبية ، أوعزت إلى جسدي بفعل ما يجبر أمي على إعادتي إلى حيث كنت ، فقد استيقظت بعيد منتصف الليل لأجدني بللت فراشي كاملاً ، و ذلك فعل ما كان ليصدر عني يوماً قبل ذلك ، فحسبت أمي عندئذ أن ما حصل سببه البرد الذي كان أشد في الغرفة التي أنامتني بها ، فأعادتني إلى جانب والدي لأكمل الليلة بقربه .
لكنها تساءلت بعجب عما جعلني أفعل مثل ذلك ، و كيف لم أحس بنفسي حين ارتكبت ما لا يليق ، ثم أدركت بعد لأي أن كل ذلك كان لا بد بتدبير من فوق البشر أراد لي أن أبقى بجانب والدي أطول من أي فترة سبقت ، لأن هذا القرب سيغدو من بعد عزيزاً مفتقداً .
لما استيقظت بعيد الفجر وجدت الحياة على طبيعتها كما كل يوم ، والدي يحتضن مصحفه و يرتل منه سورتي البقرة و آل عمران كعادته إثر كل صلاة فجر ، و فنجان القهوة إلى جانبه يرتشف منه رشفات ، فيما السماء في الخارج تلقي عباءتها الرمادية على الجو كله .
نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فأبصرتها تشير إلى السادسة ، بقيت على فراشي و تدثرت بالغطاء و أنا أفكر بشيء واحد : أن هذا اليوم يوم جمعة ، و كفى به جمالاً أنه يوم عطلة ، لا مدرسة فيه و لا تعب .
أخذت أتأمل والدي مطولاً بمحبة ، أحدق في وجهه الذي وخط الشيب فوديه ، و في شفتيه اللتين تتحركان بكلمات الذكر الحكيم ، و في الهالة الجمالية التي رأيتها تحيط به .
كان الحب وحده ما يحرك قلبي نحوه ساعتها ، و الجمال يتلألأ على محياه فيبديه ملكاً متوجاً على عرش الحسن و البهاء ، كأن ملائكة السماء تحيطه و تنشر ألقها من حوله .
بدا جميلاً كما لم أره يوماً ، هادئاً كما لم أره يوماً ، وديعاً كما لم أره يوماً ، شاباً كما لم أره يوماً ، فلبثت أتأمله مستمتعاً بألقه ذاك غير شاعر بالوقت ، و ابتسامة ترتسم على شفتيَّ لم أعتدها حين النظر إليه ، ابتسامة صنعها إحساسي أن كل حواجز الرهبة و الغضب و العنف قد زالت عنه ، و بات محلها حنان و حب و عطف لا تنتهي .
و فجأة .. و دونما إنذار ، وجدته يبعد المصحف عن نفسه بكل هدوء
، و يأخذ في الاستلقاء مسنداً رأسه إلى الأريكة ، ثم يضع يده على موضع قلبه و يلفظ الكلمتين اللتين أسمع صوته يتردد بهما حتى اللحظة في أذنيَّ : يا بنيَّ .. إنني أموت .
لكم سمعتها منه قبل ذلك ، و لكم رددها بسبب و من دون سبب ، لكنْ هذه المرة رأيت في عينيه ما لم أعهده ، كأن صورة ملك الموت الذي حضر في الغرفة ساعتها قد تجلت فيهما .
و للحديث بقية .............