آخر 10 مشاركات
لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم (الكاتـب : - )           »          اللَّهمَّ صلِّ على سَيِّدِنا محمد (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          سجل دخولك بنطق الشهادتين (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          إعتراف (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          ! قهوة دائمة (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          صباحيات / مسائيـات من القلب (الكاتـب : - )           »          كتمان .. (الكاتـب : - )           »          يوميات فنجان قهوة (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          هـذا الصبـــاح .... (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          توأمة (الكاتـب : - )



العودة   منتديات نبع العواطف الأدبية > نبع التألق > مسابقات منتديات نبع العواطف الأدبية > مسابقات السرد

الملاحظات

الإهداءات
عصام احمد من فلسطين : الف الحمد لله على سلامتكم الاخت الفاضله منوبيه ودعواتنا لكم ان ترفلى دوما بثياب الصحة والعافيه ******** عصام احمد من فلسطين : اطيب الاوقات لكم ************ اتمنى ان يكون سبب غياب الغائبين خيرا ************ منوبية كامل الغضباني من من تونس : عميق الإمتنان ووفر العرفان لكم أستاذنا الخلوق عوض لجميل اهتمامكم وتعاطفكم ************متّعكم الله جميعا بموفزوالصّحة والعافية عوض بديوي من الوطن العربي الكبير : سلامات و شفاء عاجلا لمبدعتنا و أديبتنا أ**** منوبية كامل و طهور و مغفرة بإذن الله************محبتي و الود منوبية كامل الغضباني من من القلب إلى القلب : كلّ الإمتنان صديقتي ديزي الرّقيقة اللّطيفة لفيض نبلك وأحاسيسك نحوي في محنتي الصّحيّة التي تمرّ بسلام بفضل دعائكم ومؤازرتكم جميعا دوريس سمعان من ألف سلامة : حمدا لله على سلامتك أديبتنا المتألقة منوبية من القلب دعاء بتمام الشفاء وعودتك لأهلك وأحبابك بخير وسلامة منوبية كامل الغضباني من من القلب : كلّ آيات الرفان والإمتنان للسيّدة الرّاقية عواطف عبد اللّطيف لمتابعتها وانشغالها بوضعي الصّحي وسؤالها الدّائم عنّي ****************ولكم جميعا أهل النّبع فماغير العلاقات الإنسانيّة تجمعنا ************دوام الصحة للجميع عواطف عبداللطيف من الحمد لله والشكر لله : على عودة الغالية منوبية لضفاف النبع بعد نجاح العملية الجراحية وتماثلها للشفاء,,

موضوع مغلق
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 10-20-2011, 10:08 PM   رقم المشاركة : 11
المدير العام





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :نبع العواطف غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: القصص المشاركة في مسابقة عبدالرسول معله للقصة القصيرة

القصة رقم (11)

العيــد ..


العيد قريب .. و بهجته رائعة عندما تنعكس على الأطفال و أمهم ..
العيد سعيد لكن مصاريفه باهظة و أنا فقير .. لا أتذمر و لا أشكو، أحمد الله على الستر ، و أتحمّل الأيام و وطأتها بجـَلد صنعته السنون ..
لكن العيد قريب و المصاريف كثيرة للثياب و الحلويات ..
لم أكن أرغب يوما أن أكسر فرحة أبنائي و تنكسر عيونهم عند رؤية أقرانهم يخطرون في جديد الثياب ، أو تنكسر عيناي عندما أرى حزنهم حينها..
و لكنني فقير و ازداد فقري قسوة هذه السنة ببطالة استمرت شهورا .. فساءت الأحوال السيئة أكثر ..
كلّما اقترب العيد زاد حزني، فلم أتلذذ نكهة أيام رمضان و بركتها.. و في غمرة الأسى فكّرت أن أغلق الباب بعد رؤية الهلال أياما ، حتى لا يراني جاري قاسم فيفتخر بملابس أبنائه التي اشتراها من المحلات الراقية أو أرسلها إليه أقاربه من الخارج و لا يتباهى أبناؤه أمام أبنائي بأثوابهم البديعة و حلوياتهم التي لا نعرف أسماءها.. فكّرت ألا أخرج أيضا حتى لا أضطر لمحادثة جاري عمّار فيذيقني بلسانه اللاذع شواظا من البذاءة و الثِقل و هو يظن أنه يواسيني أو يشجعني على تحمل المصاعب كما يفعل ذلك دائما.. و لكني استسخفت الفكرة فالعيد قريب و بهجته رائعة .. ما أروع انعكاسها على وجوه الأطفال و أمهم ..
فكرت و فكرت طويلا .. و قلّبت الأمر على وجوهه .. ثم تحادثت مع الزوجة الصابرة دوما فوافقتني دون تردد ..
يوم العيد السعيد جاء .. جاء ببهجته الغامرة وعبقه المميز .. بأصوات المفرقعات هنا و هناك .. بضحكات الأطفال تتعالى في رقة و صفاء، بصوت المزامير يرتفع مشوّشا بعفوية بريئة .. بعبارات التهنئة متناثرة من الأفواه المبتسمة .. بالثياب والحلوى و الألعاب و النقود و لهو الصغار و أعباء الكبار..
خرج أبنائي إلى الشارع بثياب قديمة و لكن نظيفة .. يتنقلون من مكان إلى آخر لتهنئة جيراننا كبارا و صغارا بقلوب صادقة و أدب جمّ .. و إن نالوا " عيدية " احمرّت وجوههم خجلا ..
نظروا إلى ثياب أقرانهم بإعجاب و لكن نظروا أيضا إلى ثيابهم في ثقة و طمأنينة ..
زوجتي أخرجت علبة الحلويات الطيبة التي صنعتها بيديها فأتقنت التصرف فيها لتعيد إلى كل جارة في إنائها مقابل ما أرسلته إلينا ..
أما أنا فسِرت إلى جاري قاسم و هنأته بحميمية صادقة و استمعت بصبر إلى حكاياته المسترسلة عن أمواله الوفيرة و شكواه المصطنعة من تكلفة ملابس العيد التي اشتراها لأبنائه .. بعد انصرافي عنه مضيت إلى جاري عمّار و هنأته فظلّ يحدثني بكلام ثقيل جارح عن الصبر و تحمل الفقر و تحملت قسوة لسانه و سماجته فهذا عيد .. و هو سعيد .. و ما أجمل بهجته تنعكس على الوجوه من قلوب سعيدة ..






 
قديم 10-20-2011, 10:10 PM   رقم المشاركة : 12
المدير العام





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :نبع العواطف غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: القصص المشاركة في مسابقة عبدالرسول معله للقصة القصيرة

القصة رقم (12)

غـُـربــَـاءُ وَطــــن..



لمْ أكن أعرف أنّ قطرة ماء، تــُساوي ملايين الدقائق العمرية بيني وبين مدينتي المتجدِّدة في الغياب.. طبعا، هذا بعدما تم نفيي – عفوا – تعييني في جنة..الجحيم، من الحدود هناك إلى الحدود هنا.. قبَّــلـْـتُ قطرات عرق ثمينة من على جبيني المرهق تماما، وأنا حديث الوصول إلى ال..هنا..
كنتُ يومها قد ترجـَّـلـْـتُ من سيارة * الـخـَـطـَّـافْ * الذي أقلـَّنـي من عوالمــي المضيئــة إلى * تـَـغْـبــَـالــْتْ *. مسافة مائة وسبعين دمعة بالتقريب، تتقيَّؤها رجلايَ اللتان بالكاد تحملاني من هول الخوف الذي غزا مشاعري حد التيه.. وكأني بها رحلة السندباد البرِّي إلى جزيرة الظلمات..
نـُـقـِـلـْـتُ من الخيط الأخضر .. إلى الخيط الأبيض.. من بعض نخلات آنستني بداية إلى مساحة من القفـــــار استقبلنـي نهايــــة.
وهو يودعني بنظرة مبهمة.. تتخللها مشاعر الشفقة، أمدَّنـِـي* الـخـَـطـَّـافْ *ببعض المعلومات البسيطة، لمساعدتي في الوصول إلى المكان الذي سيعانقني بيديه القاسيتين، كمعلِّم في مدرسة الحياة.
أول من استقبلني ذهولي وخوفي اليابس، تغمرني عين الطبيعة العذراء، تؤرق أفكاري بتمرِّدها.. لا شيء غير طنين العتمــة.. ولا ضوء سوى حفيــــــف البيــــــاض و المجهــــــول.
مرَّت ثلاث سنـــوات هـنـا.. هديــــــة لي نظيــــر سنـيـــــن الدراســـة والاجتهـــــــــــــــــــاد.
بحثت عني في هذا المكان المتجذر في البداية، فوجدت فراغــــا بحجمــــي والسمـــــاء، ولكن علي الصمــود عساي أجد ولو بعض مظاهر الحضارة التي لفظتني، وجدت الهواء ولم أجد الماء، وتــاه عني خبز أمي.
وأنا غارقٌ في الظلمة، لمسـَـتْ يدي الباردة يد طفل جميل، متـسخ تماما، لا يشبه تلاميذ الجبل في اللون أو الشكل، ( كأنني أعرفه، تساءلت في صمت) ترافقه ذبابة تشبه هذا المكان كلمة بلا معنى..

( صرخت في وجهه وأنا منفعل من تأثير اقتحامه لعزلتي وذكرياتي فجأة..)

- ماذا تريد؟ ألم أقل لك أن تصطحب والدك معك؟ تغيبك المستمر عن المدرسة أريد له تبريرا مقنعا.. من والدك نفسه.

- آسف معلمي، أبي مقعد تقريبا، اليوم جاء مع عكازه الذي ينوء بحمله، ويدي في يده تتحمل مرارة الباقي.. كل هذا قصد مقابلتك سيدي، فأنت المرآة التي نرى عبرها زيف الحياة، ووالدي هو الوجه الآخر للموت، لكن لا.. مازال في جعبته بعض من الشجاعة المحتضرة، إنه الآن تحت هذا الجبل المنكسر، بجانب شجرة عارية الأوراق، ينتظرنا..
- ماذا؟ لـِــمَ لمْ تخبرني عن مرض والــــدك؟ ثم ما هذا الكلام الغامــض؟ إنك تتحدث أكبـــر من سنـك بكثير.
- وهل كنت ستصدقني؟ ثم ما دخل سني ! هل للطفولة معنى في هذا المكان الغاضب من نفسه..؟ لا أظن.. ! الطفل كالكبير هنا.. يتحمل ثقل المسؤولية كذلك، ثم إنني حللت محل والدي المريض في الدكـَّـان، بعدما ازدادت حالته سوءا.. اليوم هو معافى تقريبا.. لأجلي يعيــش.. ورغم وحدتنا المريرة نبتسم للغد، لا أم ولا أخت لي، لا يوجد غيري وأبي، لكننا ننظر إلى ال..هنـاك.. عسى يوما نلتقي بمن نحب.. فهل أنا طفل حقـــا؟

- غريب أمرك يا بني، هيــَّا.. هيـــَّا معي لنقابل والدك.

( نزلنا من الجبل واقتربنا من ظل الأب النحيل، أحسست باختناق في صدري يزداد كلما اقتربت منه، كان ظهره لي، هممت أن اكلمه بلطف، أدار وجهه إلي ، فصدمت عندما رأيته، سألته بشدة: )

- يا إلهــي.. ما هــذا ؟، إن لك نفــس ملامحي، نفس العينين المحدقتيـن في البيـــاض، إنـك.. إنـك أنــا.. إلا بفارق شعيرات بيضاء تهاجم بقوة مساحة السواد المتبقية من شعرك..

( لم يجبني وبدأ الضباب يخنق عيني ،أحسست بالمرارة، حاولت التكلم معه مرة أخرى.. لم استطع، استدرت إلى الطفل استفسر منه، فإذا بي أتبين مدى الشبه بينه وبين هذا الرجل / الظل .. النحيل.. عندها سمعت صوت حبيبتي.. من مكان ما سحيق في الذكرى.. تقول لي ):

- لا تحزن يا عزيزي، سوف أنتظرك بلا ملل، أنا متأكدة بأنك ستعود لي يوما، سنتزوج وألــِــدُ لك "مصطفى" طفلنا الذي حلمنا به معا.. سنكون سعــــداء كأسرة متماسكــــــة.
-
( اختفت ابتسامة حبيبتي، اختفى الطفل والظل الرجل، اختفت الشجرة، و وجدتني وحدي وسط فناء المدرسة، يكاد يلتهمني السكون، خرجت مني زفرة عميقة وأنا أهمس بذهول):

- الحمد لله، اخـتــَـفـَـيــْــتُ، لا أحد غيــري والأمــل.



• * الخطاف* : سائق سيارة أجرة أو حافلة صغيرة غير رسمـي.
• * تغبالـــت* : قرية نائة خارج حدود * زاكورة* في المغــرب.







 
قديم 10-20-2011, 10:13 PM   رقم المشاركة : 13
المدير العام





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :نبع العواطف غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
افتراضي رد: القصص المشاركة في مسابقة عبدالرسول معله للقصة القصيرة

القصة رقم (13)

حكاية زوج مع المرأة



"سّي علال" رجلٌ خَمْسينيّ، صَموت، قويُّ البنية، محبوبٌ بين أفراد قريته الصغيرة الهادئة الواقعة على سفح جبلٍ تكسوه أشجار البلّوط والصنوبر. تزوَّج، لَمّا بلغ التاسعة عشْرة من عُمره، مِن ابنة عمّه "فاطْنَة"، التي تصغُرُه بأربع سنوات كاملة، وكانت متميزة من قريناتها بجمالها الطبيعي الآسِر، وبقدِّها المَمْشوق، وبذكائها اللافت. وقد عانت المسكينة كثيراً من أجل الإنجاب، بعد سنوات سبعٍ من الزواج، وتردُّدٍ متواصل على أطبّاء المدينة، و"فقهاء" القرية والقرى المُجاورة والبعيدة. وحين رُزِقا بمولودهما البِكْر، جمع الأبُ – رغم تواضُع مدخوله الشهري من عمله حارسَ رحبة الزرع لدى "المختار"؛ ثريِّ القرية وأحدِ ملاّكيها المعروفين – أهلَ بلدته صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، فأوْلَمَ لهم ببقرة سمينة، ودعا فرقتين موسيقيتيْن شعبيتيْن لتنشيط الحفل، وإبهاج المَدْعُويين.
مرّت أشهر قليلة، كان يملأ خلالها ابن سي علال جنبات المنزل صُراخاً وحيوية وبهجةً، ويكبُر في عيني والِدَيْه يوماً بعد آخَر، ولم يكن أبوه يمَلُّ من الحديث عن سلوك ابنه وحياته كلما تحلَّق من حوله رفاقه في مقهى القرية، الذين كانوا ينزعجون، أحياناً، من ذلك... قال أحدُهم لما رأى إكثاره من ترديد نفسَ الأسْطُوانة كلما اجتمعوا به في المقهى:
- "أسِّي عَلاّلْ لَغْزالْ، راكْ كَرَّهْتِينَا فْ لَگلاَسْ مْعَاكْ.. واشْ فُوقْما گلَسْنا مْعَاكْ، صْباحْ وَعْشِيّة، كَتَفْرَعْ لينَا رُوسْنا بْهادْ الكاسيطْ؟!".
أجابه أحدُ الحاضرين الذي كان أباً لثمانية أطفال:
- "خَلِّي عْليكْ السَّيِّدْ!.. نْتا باقِي عَزْري!.. حتّى تْكَمَّلْ الهَدْرَة مْعَ داكْ البَريئة الِّي مازالْ كَطَّمَّعْ فيها بالزّْواجْ، أُو تَوْلَدْ مْعاها، عادْ تْحَسّْ بَحْلاوَةْ الأبْناءْ!".
أخفى سي علال ضحكته من الحوار الدائر بين الاثنين، ونظر، مليّاً، إلى الشابّ قبل أن يستأذن زملاءَه بالمغادَرَة قافِلاً إلى بيته لمُلاعَبَة وَليده، كما ألِفَ أن يفعل يومياً.
ومن جهتها، لم تكن تتوانى فاطنة في ذكر أخبار ابنها وحكايتِها، واتخاذها محورَ كلامها حين تجتمع بفتيات القرية لدى ذهابها إلى البئر لسقْي الماء، أو لدى خروجها إلى المُروج والحقول المُحيطة لإحضار ما يلزم من الكلإ لأنْعامها. ولم يكن كلامُها ذاك يجد، دوماً، آذاناً تُصْغي إليه باهتمام، وتلذ بسماعه، بل إن مِنْ صاحباتها، ولاسيما مِمَّن هنّ قريباتٌ لها في السّن، فتياتٍ لم يكنَّ يُخْفينَ تضايُقهن من كلامها المكرور ذاك!
لقد كانت حياة أسرة سي علال مستقرة هانئة سعيدة، ولم يكن عيشها البسيط على الكفاف لِيُنغِّص عليها ذلك. وعلم ربُّ الأسرة – متأسِّفاً – أن عديداً من نِسْوة القرية ورجالها يَغارون منه ومن أهله، ويتساءلون عن سرّ سعادتهم التي تُرى عليهم، على الرُّغم من قلة ذات اليد! وكان سي علال يخشى من أن تصيبَه "عين" حقود، فتُهلكه وتشتت عُـشَّه؛ لذا، لم يتردّدْ في قَصْد فقيه القرية، الذي كتب له "حِرْزاً"، ونصحه بأنْ يضعه في "قرطاسة" معدنية، ويعلّقه في عنقه، ولا يتجه إلى أي مكان إلا مصْحُوباً به! ودفعته غَيْرَته على عائلته، وخوفه مِنْ أنْ يُصيبَها مكروهٌ، إلى اتخاذ حِرزيْن آخَرَيْن مُشابهيْن لكلٍّ من زوجته الحبيبة، وابنه قرّةِ عيْنه.
ولم يكن سي علال وحدَه من يشتغل في رحبة المختار، بل كان يعمل معه اثنان مكلّفان بمهامّ أخرى، إلى جانب فتاة، في عُمر سي علال، لم تكن تقلّ جمالاً وذكاءً عن فاطنة، كلَّفها المختار بإعداد الطعام لخَدَمه، ولم تكن تخالطهم ألبتّة، بل كانت تلازم المطبخ، وترسل إليهم ما تعدّه لهم من وجبات، مع أحد أبناء المختار الأربعة.
وبينما سي علال مشغول، ذات صباح، بترتيب غرفته الكوخيّة الصغيرة، الواقعة في مدخل الرحبة، لمَح من نافذتها الضيّقة تلك الفتاةَ قادمةً لمُباشَرَة عملها الروتيني، فارتجّ شَغافُ قلبه، وتسمَّر في مكانه يراقبُها دون حراكٍ، وكأنه لم يَرَ فتاةً من قبلُ خلال حياته، ومن شدة انبهاره وقعت المِكنسة التي كان ينظِّف بها غرفته من يده. ومنذئذٍ، ملأت عليه صورتُها ذهنَه، وشغلت تفكيرَه، وأحْدثت تغييراً ملموساً في حياته العادية؛ تغييراً سَرْعان ما لمَسَتْه فاطنة، التي خشيت أن يكون زوجُها قد أصيب بمَسٍّ أو بأذىً آخَرَ، لاسيما بعد أن لاحَظت إغراقه، يومياً، في التأمل والتفكير، وأرَقه باستمرار، وفاتَحَت أمَّها في أمْره، فاقترحت عليها أن تعالجَه ببعض الأعشاب البَرية التي كان يُعتقَدُ بفعّاليتها في علاج حالات الاكتئاب والانعزال والشُّرود. وقلَّ ميلُ سي علال إلى الفكاهة والضحك، واحتضان ابنه... بل سيطر على كِيانِه التفكيرُ الذي لم تستطع المسكينةُ زوجتُه فهمَ أسبابه الحقيقية، لاسيما وأنه حدَث بين عشية وضُحاها، وعلى نحْو لم يكن يتوقعه أحد!.. إنه الوقوع في شَرَك الحُبّ!
إن ما كان يَشْغل بال سي علال هو بحْث أنسب الطرق وأجْداها لمُصارَحَة زوجته وعشيقته التي أحَبَّها، بجُنون، من جانب واحد.. مصارحة فاطنة أمِّ طفله الوحيد بحقيقة الأمر، والتي لم يخطر ببالها أن يحبّ زوجُها مخلوقة أخرى غيرَها، لاسيما وأنهما منسجمان وسعيدان، ولم يمرَّ على زواجهما وقت طويل حتى يَمَلاّ من بعضهما البعض.. ومصارحة الخادمة بمقدار حُبِّه لها، والتي قد تقبَله زوجاً بالنظر إلى وضعها الاجتماعي والاقتصادي الصَّعْب؛ إذ إنها يتيمة أمّاً، وتعيش في منزل أبيها، مع زوجته الثانية، بين أحد عشَر أخاً وأختاً؛ منهم مَن هو شقيق، وأكثرهم غير أشقّاء لها. ولم يكن أبوها سوى فلاح صغير يحرث الهكتارات الخمسة التي ورثها من جدّها، ويعيش من غلاّتها ومن محاصيل مغروساتها، التي لم تكن منتظمة، بل تتوقف على التساقطات المَطَرية التي يتسبّب توقُّفُها، أو شُحُّها، أحياناً، في الجفاف وفي الإضرار بما يبذرُه فلاّحو القرية ويغْرسونه. ثم إنها لم يتقدم لطلب يدها أحدٌ من قبلُ؛ الأمرُ الذي كان يُقلقها، ويُشْعِرُها بالخوْف من أن يفوتها "قطار الزواج"!... لقد عَلِمَ سي علال بهذه المعلومات من عددٍ مِمَّنْ سألهم عن تلك الفتاة، فكان أكثرَ ارتياحاً وثقة بالنفس وتوقعاً للمُفْرِح فيما لو فاتَحَ أباها في موضوع الزواج بابنته. ولكنّ المشكلة الكُبْرى التي ظلت تُقلقُه هي كيفية مصارحة زوجته فاطنة بما يريد فِعْلَه! وكعادته حين يُقْدِم على أيّ فعل ذي أهمية كبيرة، قصَد فقيه القرية، الذي كان موضعَ ثقةٍ بالنسبة إليه بعد أن جَرَّبه مراراً في حوادث ونوازل أخرى، فقصّ عليه ما وقع، وأخْبره بما يَنْوي فعله، وأسَرَّ إليه بحجْم حبّه للخادمة العاملة لدى المختار. أحسّ الفقيه بحرج شديد أدْرَكه سي علال سريعاً، لاسيما بعد أن رأى وجْهَه يتصبَّّب عرقاً، وخدَّيْه قد تورَّدا، وسكت عن الكلام بُرْهة من الزمن يقلّب الأمر في ذهنه، مُخَمِّناً فيما يجيب به سائله الذي بدا له على غير عادته المعروفة. وأخيراً، قرّر إجابة سائله، فقال:
- "هل وقع سوء تفاهُم بينك وبين زوجتك فاطنة؟". وأرْدَف قائلاً:
- "إذا كان قد حصل شيءٌ من ذلك، فثمة طرقٌ أخرى لإرْجاع المِياه إلى مَجاريها من دون تسْريح أمّ طفلك!".
تنهّد سي علال تنهيدة عميقة، وعيناه مغروستان في الأرض، قبل أن يجيب الفقيه قائلاً:
- "لم يَحْدُث خصامٌ بيننا، ولا سوء تفاهُمٍ، ولا أي شيء من هذا القبيل.. الحمدُ لله، فمنذ زواجي بفاطنة عشتُ أحْلى اللحظات داخل بيتي، بعيداً عن المشاكل الأسَرية التي يحكي عنها أكثر الناس، وما قصَّرت قطُّ في واجباتها ومسؤولياتها!.. الحمدُ لله على هذه المِنّة!". ثم صمت استعداداً للبَوْح بما يجد صعوبة في البوْح به... ولكن الفقيه ظنّه لن يواصل جوابَه، فذكّره بأنه لم يُجبْ بعدُ عن الشقّ الثاني من سؤاله.
- "نعمْ !.. لم أنْهِ كلامي بعدُ!" قال سي علال.
- "ما دامت حياتك مع زوجتك أحْلى وأسْعد، فلِمَ تفكر، إذاً، في التزوُّج بثانيةٍ؟!" قال الفقيه.
- "في الحقيقة، رأيتُ، منذ أسابيعَ مضت، فتاة حسناء، تعمل طبّاخة لدى المختار. وبمجرد تلك النظرة، أحْسسْتُ بأمْر غريب يَجْذبني نحوها، ويملأ عليّ حياتي كلَّها. بل إني أفكّر فيها الآن كذلك!!.. ولن أستطيع العيشَ بدونها! لذا عقدتُ العزْمَ على مُفاتَحَتها ومفاتحة أبيها في شأن طلب يدها زوجةً ثانيةً لي". وأرْدف سي علال موضحاً:
- "يا فقيه.. إني لستُ ناوياً طلاقَ فاطنة بتاتاً، بل أريد أن أتزوّج بأخرى، فأجْمَعَ بين زوجتين اثنتين؛ كما فعل مُحَنْد الملولي وعيسى الموساوي، وكما فعل جدّي، رحمه الله برحمته الواسعة، الذي تزوّج بستِّ زوجات، أنْسل منهن عشرات من الأبناء والبنات، وكما فعل كثيرون من رجال القرية..!".
وبعدما أوْضَح له ما يريده، استشار سي علال الفقيهَ الذي وجد نفسَه، أخيراً، مُضطرّاً إلى أنْ يحدّث مخاطَبَه عن مقاصد الزواج في الإسلام، وعن أحكامه، وعن شروط التعدد في الزوجات. وقد أصْغى سي علال، مليّاً، إلى كلام الفقيه، وعَلِم منه جوازَ التزوُّج بأربع، شريطة العدْل بينهن في حدود المَقدور عليه. ولكنه نصحه بأن يُخبر فاطنة بحقيقة الأمر عَلَّها تتفهَّم، وتقبل راضيةً بذلك، رغم عِلْم الاثنين معاَ بأن مجرد سماع ذلك سيكون صعباً عليها، وما بالُكَ بتقبُّله، وتقبُّل ضرّة تعيش معها، وتشاركها زوجَها!
ودّع سي علال الفقيهَ راجعاً إلى منزله، وحاول استجماع قُواه والتحلي بالشجاعة اللازمة لإخبار زوجته فاطنة المسكينة.. وحين أعدّت مائدة العشاء، وتناوَلا معاً ما هيّأتْه، وأرْضَعت صَغيرَها الذي سرعان ما أسلم نفسَه لنومة عميقة، أمْسَك بيدها قائلاً:
- "زوجتي الجميلة.. شْحالْ هادي وأنا بْغِيتْ نْصَارْحَكْ بْواحَدْ لْخَبَرْ شْوِيَّ صْعِيبْ، نَتْمَنّى تْقَبّْليهْ!".
- فقالت: "اللّهْ إسَمَّعْنا خْبَرْ الخِيرْ.. تْفَضَّلْ أنا كَنَسْمَعْ ليكْ يا زَوْجي الحَبيبْ!"
فأخبرها بتفاصيل ما حدث كلّه، واعترف لها بعُمق حبه لها، وبأنه سيجتهد في إسْعادهما معاً، والعدْل بينهما على النحو الذي فرضته الشريعة. وقبل أن تجيبه بالمُوافقة أو الرفض، سألتْه:
- "قُلْ لي، أوّلاً، واشْ هادا هُوَ سْبَابْ الحالة الِّي نْتا فيها شْحالْ هادِي؟!"
وفهمت من جوابه أن وُقوعَه في حبّ تلك الفتاة هو سببُ إغراقه في التفكير والشرود الذهنيّ، وقالت له مُصطنِعةً ابتسامة "صفراء" تُخفي وراءَها شعورَ أيِّ زوجةٍ تُلفي نفسَها في مِثل وضعها هذا:
- "شُوفْ أسِّي عَلاّلْ.. نْتا راكْ عارَفْ مِقْدارْ حُبَّكْ عَنْدي.. ولكنْ مَنْ بَعْدْ ما سْمَعْتْ مَنَّكْ كُلّ ما سْمَعْتُو ما بْقا لي ما نْقولْ لَكْ سِوَى نَدْعِي مْعاكْ بالتِّيسِيرْ.. واللهْ إعاوْنَكْ.. أُو مَرَحْبَا بْبَنْتْ النّاسْ ألْفْ مَرَحْبَا!"
شعَرَ سي علال، وهو يُصغي إلى كلام زوجته، بإحساس مزدوج! فقد صدمه جواب فاطنة، من وجْهة؛ لأنه لم يتوقعْ، بتاتاً، أن تقبل، بتلك السهولة، ضَرَّةً تشاركُها زوجَها. وأحس، من وجهة أخرى، بأن الظروف أضحت مساعِدة له للإقدام على تنفيذ ما يريده، مع أنه لم يضمن بعدُ ردَّ الزوجة المنتظَرَة بالإيجاب، وإنْ كانت أغلب المؤشرات ترجّح أن تقبل به زوجاً، لاسيما وأنه كان وَسيماً قوياً غيرَ مُتّكل على غيره في توفير قوته، وإعالة أسرته...
وكان المتوقَّع، بعد سماعه هذا الجوابَ من فاطنة، أن يطير فرحاً، وأن يشكرها على تفهُّمها ورحابة صَدْرها.. بيد أنه لم يفعل شيئاً من ذلك! بل كلُّ ما صدر منه طَلَبُه منها أن تُطفِئ ضوء القنديل، وتدَعه ينام كما ادّعى.. ففعلت مُسْرعةً، وهي تردّد:
- "اللهْ إعاوْنَكْ أسِِّي عَلاّلْ.. اللهْ إوَفْقَكْ لْكُلّ خِيرْ!".
لم يخلُدْ إلى النوم، طَوال الليلة، ولم يَهنأ له بالٌ، بل ظل مستغرِقاً في التفكير وتأمُّل جواب فاطنة الطيِّبة اللّبيبَة.. وبلغ به الأمرُ حدَّ تأنيب ضميره، وتوبيخ نفسه التي سَوَّلت له ما سَوَّلتْ، لاسيما وأنه يملك زوجة صار ينعتها بـ"الكنْز النادر"!
مرّ أسبوع بكامله، وسي علال لا يطرُق موضوع الزواج مع أحدٍ فيما يشبه عزْمَه على التراجُع عنه، بعدما أحْرَجَه جواب زوجته، ولكنّ حالته النفسية لم تتحسّنْ، بل زادت، بالمقابل، سوءاً!.. وكانت حَيْرته أعظم لَمّا جاءته زوجته تُلِحُّ عليه بالإسراع بخطبة تلك الفتاة من أبيها، وأكثر من ذلك فقد قرّرت أن ترافقه بنفسها، وتخطبها له، وكان هدفها الأساس أن يرتاح زوجُها نفسياً، ويستعيد حالته الطبيعية، وتُعينَه على تحقيق رغبته في الزواج ثانيةً.
وفي صبيحة اليوم التالي، وكان يوم أحَدٍ، ذهب الاثنان، سي علال وفاطنة، إلى منزل أبِ الفتاة، فرحّب بهما، وأجْلسهما في الصالون، وعرف منهما سبب الزيارة.. ولمّا أُخْبِرَتِ الفتاةُ بسبب قدوم ذلك الرجل، الذي سبق لها أن رأتْه أكثر من مرةٍ في الرحبة، عن بُعد، وطُلِب رأيُها في الموضوع، كان ردُّها بالإيجاب كما توقع سي علال تماماً!.. وتمَّ التداوُل في شؤون الصداق والزواج ونحْو ذلك، وانتهوا جميعاً إلى التوافق والتراضي بخصوص كل نُقط النقاش. وحُدِّد موعدُ الزواج في أجل أقصاه ثلاثة أشهر من تاريخ الخطبة، وهو ما حصل بالفعل؛ حيث أقام العريسان حفلتيْ زواجهما وَفق التقاليد المَرْعية داخل القرية، وانتقلت العَروسُ إلى بيت سي علال لتسكُن مع زوجته الأولى التي كانت سعادتها بهذه الضرّة غامرة! وكانت تردد باستمرار: "الرجل ليس مِلْكاً للمرأة تملكه كما لو أنه متاع خاصّ بها، بل إنسان نتشارَك معه الحياة؛ لذا، فلا داعي لأنْ نحتكرَه"!
لقد عاش سي علال بين زوجتيْه عيشة هانئة مستقِرّة، وتحسّنت حالته النفسية، وبدت عليه أمارات الارتياح والرضا، وكان يجتهد في العدْل بينهما مادياً ووُجْدانياً، وإنْ كان قلبُه يميل، أحياناً، إلى فاطنة التي لقّنته دروساً في نُبل الأخلاق لن ينساها أبداً. ووجد أن عمله في رحبة الزرع حارساً لم يعُد يناسب وضْعه، ولا يوفر له ما يكفي من المال لإعالة أسرتين، فقرّر ترْكها ليعمل في منجمٍ للفحم الحَجَري يقع على مشارف القرية، فتحسَّن مدخوله، وإن كان عمله الجديد أشقّ وأخطرَ على صحته، لاسيما وأنه كان يضطرّ إلى النزول إلى جوف الأرض لاستخراج الفحم بوسائل عمل تقليدية.. لقد كان المهمّ، بالنسبة إليه، أنْ يحصل على ما يكفيه لتغطية مصاريف أسرتيْه اللتين تعزّزتا بضِعْف عدد أفرادهما تقريباً في غُضون العام الموالي لزواجه الثاني، بعدما أنجبت له فاطنة مولوداً ذكراً آخرَ، والزوجةُ الثانية توأماً أنثوياً؛ وبذلك، توسّعت عائلته الصغيرة، وتزايدت مصاريفها وأعباؤها، وكثرت مشاكلها أيضاً!
ولم تكد تمضي أشهر معدودة من إنجابها توأمَها حتى بدأت الزوجة الثانية تُطالِب سي علال بتوفير مسْكَن خاصّ لها ولابنتيْها، مع أنه اشترط عليها، حين تقدَّم لخطبتها، أن تقطن في منزل واحد مع زوجته الأولى، فوافقت يومئذٍ على ذلك. ثم إن فاطنة كانت تعاملها باحترام بالغ، ولم تكن تُغْضِبُها أو تُسيء إليها بأي شكلٍ من أشكال الإساءة! الأمرُ الذي جعل سي علال يثور في وجهها، ويُغلِّظ معها الكلام، ويهدّدها بالطلاق إنْ لم تعُدْ إلى رُشْدها! وتدخلت فاطنة لتهدِّئ الوضْع، وتُطفئ نار غضب زوجهما الذي بدا كثور هائج لم يسبقْ لها أن رأتْه بمِثل تلك الصورة، فتراجعت الزوجة الجديدة عن مَطلبها ذاك، وقبِلت، على مَضَض، بالأمر الواقع. ولكن علاقتها بزوجها أخذت تسوء شيئاً فشيئاً، رغم تدخُّلات فاطنة وبعض الجيران ذوي النيّة الحَسَنة الراغبين في جبْر تلك العلاقة. ومن جهته قلّل سي علال من تردُّده على غرفة زوجته الثانية، وفَتَر إحساسُه تُجاهَها بصورة واضحة، وزاد – بالمقابل – تعلقه بزوجته الأولى ذات القلب الكبير، التي لم تكن تتردّد في تأنيبه على تقصيره الملحوظ حِيال زوجته الأخرى، وتفريطه في القيام بما يلزم نحْوَها ما دامت العلاقة الزوجية قائمة بينهما!
حاول سي علال أن يتكيّف مع الوضع المستجِدّ، وأن يعالج مشاكله الداخلية بعيداً عن تدخلات الأجانب، وأن يُنصت إلى زوجته الثانية لإقناعها بمحدودية إمكاناته المادية، وبعدم قدرته على تلبية مطلبها في السكن المستقلّ. وعلى الرغم من تحسُّن وضعه العائلي إلى حدٍّ مّا، فإنه لم يستطعْ العودة به إلى حالته الأولى من السعادة والاستقرار والانسجام.
وذات يوم، استيْقظت فاطنة باكراً بعدما عزمت على ترميم بعض شقوق سقف غرفتها، وإصلاح بعض ما انْهَدَم من حائطها، فأخذت سُلّماً خشبياً، وأعدّت عجْنة صغيرة بخلْط الطين والماء والتبْن، وشرعت في ذلك الترميم والإصلاح، لتفادي نفاذ قطرات المطر إلى داخل حجرتها، لاسيما وأن فصل الشتاء كان على الأبواب. وبينما هي منهمِكة في عملها، زلّت قدمُها من إحدى درجات السلم، فوقعت أرضاً لتُصابَ بكسْرٍ على مستوى عمودها الفِقْري، وأطلقت صرخة مدوّية سمعها الجيرانُ، فضْلاً عن جميع مَنْ كان بمنزل سي علال.. جهّز الزوجُ بغلته الهزيلة، وحمل على متْنها زوجته إلى أقرب مستشفى، وكان يبعد عن سُكناه بنحْو ثلاثة كيلومترات، ونُقلت، مباشرةً، إلى مستشفى المدينة الكبير بعدما أُحْضِرت – على وجْه السرعة – سيارة إسْعاف. شخَّص طبيب المُستعْجَلات حالتها، وهي ما تزال في غَيْبوبة، فوجد كسْرَها كبيراً، وليس بمُستطاعه جبْرَه وعلاجه بالإمكانات المتوفرة في المستشفى حيث يعمل، فتَلْفَنَ للمسؤولين الذين أشاروا عليه بتحرير مَحْضَر، ونقْل المُصابة إلى المستشفى العسكري بالعاصمة. وفي صباح اليوم الموالي، وصلت إلى ذلك المستشفى، وأجْرِيَت لها فحوصات وعملية جراحية، وقُدِّمت لها أدوية، ومكثت هناك أسبوعاً كاملاً، كلّف مبالغ باهظة سدَّدَها سي علال بصعوبةٍ، وبمساعدة عدة جهات أخرى. وعادت فاطنة إلى منزلها، ولزمت الفِراش، وخفّ النشاط والحيوية في بيت سي علال على نحْو لا تخطئه العين... ولم تتحسّن حالتها الصحية، بل استمرت في التدهْوُر وسط حيرة زوجها الذي بدا كالمصدوم العاجز عن استيعاب ما يجري! وذات صباحٍ، دخل سي علال غرفتها ليَعُودَها، وليطَّلع على مدى تحسُّن وضعها الصحي، كما دأب أنْ يفعل كلَّ يوم قبل خروجه إلى العمل، فناداها مرّاتٍ، ومرَّر يده على وجهها المستدير دون أن تحرِّك هي ساكناً، فانتبه إلى أنها استحالت جثة هامدة.. ماتت.. لقد ماتت.. حرّكها سي علال بعُنف. وضَع يده على صدْرها ليتأكّد من توقف تنفُّسها.. أدرك، يقيناً، أنها رحلت إلى دار البقاء. بكى، وحيداً، قُرْبَها بحُرْقةٍ شديدةٍ، والحزنُ يَعْصر قلبه الرَّهيف، قبل أن يخبر زوجته الثانية بذلك، والتي أسالت، أيضاً، دمعاً غزيراً، ورفعت صوتها بالبُكاء والنحيب حتى سمعها الجيران الذين تقاطروا على منزل سي علال يُصَبِّرونه، ويخفِّفون عنه، ويدْعون لفاطنة بالرحمة والغفران وحُسن الخِتام.
وما إنِ اقترب منتصف ذلك اليوم حتى كانت جثة الراحلة قد غُسِلت وكُفنت وجُهّزت لإيداعها في مثواها الأخير.. لقد كان حزن سي علال على فراقها عظيماً ألْزَمَه الفراش أياماً.. وكان على زوجته الثانية، التي استقلّت بمنزلها إلى حدّ ما، أن تتكفّل بابنيْ زوجها من فاطنة، إلى جانب طفلتيْها، وأن ترعاهم جميعاً، وتتولّى كل شؤون المنزل الداخلية. ولكنها لم تكن في مستوى تحمُّل هذه المسؤولية الجسيمة؛ إذ سَرْعان ما ظهر اهتمامها البالغ بتوأمها، وإهمالها ابني الراحلة! الأمرُ الذي كان يُؤلِم سي علال حقاً، ويَحِزّ في نفسه، ويدفعه إلى تقريبهما إليه أكثر. بل إنه صار يفكر، بجِدِّية، في زوجةٍ أخرى ترعى ابنيْه، وتخدمُه، وتحلّ محلَّ زوجته الهالكة، لاسيما وأنه لم يعد بقادرٍ على أن يوفق بين الاستمرار في العمل بالمنجم وبين رعاية ابنيه من فاطنة بعد ظهور إهمال زوجته الثانية لهما إلى حدٍّ لا يُطيقه أبوهما.
وقبل إقدامه على أيِّ خطوة في هذه السبيل، قرّر أن يستشير عمّته الحاجّة "يطّو"، تحديداً؛ لأنها الوحيدة التي كانت تُحسّ به، وتقوّي معنوياته، وتشجعه على الثبات في مواقف الشدة... وذلك في موضوع زواجه المُرتقَب. فدَلَّتْه على "جَمْعَة"؛ ابنة الحاج التولالي، التي كانت تكبُره سِنّاً بعام واحد تقريباً، فتقدّم لخطبتها من أبيها، دون إعْلام زوجته الثانية بذلك، بخلاف ما فعل لدى إرادته التزوُّج بهذه الأخيرة. واشترط عليها شروطَه، وفي مقدمتها ضرورة اعْتنائها بابنيْه من زوجته الأولى، كما تعتني بأبنائها المُحتمَلين، وقبولُها بالسَّكَن مع زوجته الأخرى، فقبلت بعد تردُّد لم يستمر طويلاً.
ولمّا انتهى إلى علم الزوجة الثانية ما ينوي سي علال فِعْله، غضِبت غَضَباً حادّاً، وحزمت أمتعتها وأغراضَها، وغادرت إلى بيت أبيها دون رجْعة، تاركةً وراءَها توأمَها. الأمرُ الذي أحْزَن زوجَها من ناحية، وأفْرَحَه من ناحية ثانية؛ لأنه تخلّص منها، ومن أخلاقها وطباعها الخَشِنَة.
انتقلت جَمْعة، بعد انتهاء حفلة عُرْسها، إلى بيت الزوجية لتجد نفسَها أمام زوج وأربعةٍ من أطفاله، لا اثنين كما قيل لها سابقاً! ولكنْ ما خفّف من صدمتها، وجعلها تقبل، راضيةً، بذلك الوضع خلوُّ ذلك البيت من ضرتها المُغادِرة؛ وهو ما كان يَعني لها أن تكون سيّدة المنزل، الآمرة فيه والناهية! وتعاوَن سي علال وجمعة على رعاية أولئك الأطفال، والقيام بشؤونهم كلِّها، على الرغم من صُعوبة الأمر، لاسيما وأنهم كانوا صغاراً ذوي أعمار متقاربة جداً، ويَمْرضون باستمرار فيملؤون المنزل بالصراخ صباحَ مساء، ويَحْرمون أباهم وزوجته الجديدة من النوم والاستراحة. وبدا للزوج أنها بدأت تعبّر عن ضَجَرها وتذمُّرها، وإنْ بصورة ضِمْنية، فحاول تشجيعَها على مواصلة عملها الإحْساني تُجاه أولئك الأبرياء، مؤكِّداً لها أنّ ذلك لن يذهب هباءً منثوراً، بل ستُجْزى عليه دُنيا وآخِرَة!
وفي تلك الأثناء، رجع الميلود من بلاد الإسبان، بعد أن غاب مدة فاقت السِّتّ سنوات حتى كادت عائلته تفقد الأملَ في عودته سالماً إلى بلدته، وكان قد تواعَدا، هو وابنة خالته جمعة، على الزواج بمجرد عودته من تلك البلاد، وتجميعه نصيباً من المال يساعده على تكوين أسرة معها، وحصوله على أوراق الإقامة هناك بصفة قانونية ومستديمة.. تركت جمعة بيت سي علال وأبناءَه، والتحقت بأهلها تحت ذريعة عدم تحمُّلها العيش مع زَوجها وصغاره الأربعة، وأتيحت لها فُرَصٌ للِقاء الميلود، وذكّرتْه بما تواعَدا عليه منذ سنوات.. ولكنه حاول التملُّص من وَعْده متذرِّعاً بأنها لم تعد بِكراً كما كانت وقتَ تواعُدهما، وبأنها أصبحت في حُكم المطلَّقة! فأحسّت بكلامه وكأنه خنجر يخترق شَغافَ فؤادها، وندمت على تعلقها بسرابٍ، وفقدانها زوجَها الوفيّ بتهوُّرها وطمَعها! وسعت، عبر وساطاتٍ، إلى إصلاح علاقتها بزوجها سي علال، معبِّرةً عن رغبتها في العودة إلى بيتها الذي غادرته دون علم ولا إذن زوجها! ولكن سي علال، المعروف بطبْعه البدوي الأصيل، كان قد بادر، من فوْر علمه بحقيقة ما جرى، بفسْخ علاقته بجَمْعة، والبحث عن زوجة رابعة تتكفل بأبنائه، وتعمر بيته الذي يبدو أن عيناً شرّيرة قد نظرت إليه بسوء؛ كما كان يردد باستمرار!
إن قصة سي علال مع الزواج صارت على كل لسان داخل القرية، إلى درجةِ أنّ بعضَهم كان يتخذها موضوعاً للتندُّر والتفكُّه، وبعضَهم كان شديدَ التأثر بها ومتعاطفاً مع بطلها في محنته، وبعضَهم الآخَر عزا سبب ما يُعانيه كله إلى إقدامه على التزوُّج من امرأة ثانية مع أنه كان يعيش في سعادة تامّة مع فاطنة... وأيّاً كان سبب تعاسة سي علال، وسوء حظّه مع الزواج، فقد كان المُشْفِقون عليه كُثراً، لاسيما وأن أطفالاً صغاراً يعيشون في كَنَفه، وأنه مُلزم بالحضور إلى المنجم، بانتظام، كيْلا يفقد مصدر رزقه الأساس.. وكانت يطو، خلال فترة مغادرة جمعة بيْت الزوجية، تتولى مهامّ الاعتناء بصغاره، في انتظار عثوره على زوجة أخيرةٍ لاستيفائه الأربعَ التي أباحهن الشرع!
ومن الذين رقّوا لحال سي علال، وآلَمَهُم وضعُه الصّعْب الذي يعيشه، عبد النور؛ جارُه وزميله في المنجم، الذي دَلَّه على خَيْرَة بنت مَنّانة؛ أرْمَلة بوشتى الحميدي العاقر، التي يشهد لها كلُّ مَنْ عرفها، من كثبٍ، بنُبْل خُلُقها، واقترح عليه التقدُّم للزواج بها على سنة الله ورسوله. تحمَّس سي علال للفكرة، فاصطحب معه يطو وبوشتى إلى بيت أبيها، الذي كان "مْْقدَّم" القرية وأحد فُضَلائها.. وبعدما استمع، باهتمام، إلى قاصِدِي بيته، وعَرَف وضعية سي علال الحَرِجَة الباعثة على الشفقة حقاً، لم يتردّدْ في إعلان موافَقته المَبْدَئية على الزواج، لاسيما وأنها كانت امرأةً مُحِبّة لفعل الخير، فكانت هذه فرْصتها السانحة لذلك. ومن جهته، أحسّ سي علال، في أعقاب ذلك اللقاء، بارتياح عميق لم يُحسَّه منذ زمان، وتفاءَل بهذا القِران.
وبالنظر إلى الظروف الخاصة التي كان يعيشها العريس، تمّ الاتفاق على التَّعْجيل بإقامة عُرْس سي علال وخيرة بحضور بعض أقاربهما وجيرانهما، لتنتقل مباشرةً العروسُ إلى منزل زوجها الجديد. ولم تمْضِ سوى أيام قليلة، حتى لمَسَ سي علال مقدار التغيير الذي أحْدَثتْه خيرة في بيته كله، وكان يشبّهها بزوجته الأولى، التي ترك رحيلُها المبكّر عن الدنيا فراغاً مَهُولاً في حياة الزوج، الذي ظلّ يذكُرُها ويترحّم عليها باستمرار.. وكان يرى فيها خير خلفٍ لخير سَلَفٍ!.. لقد استطاعت، بصبْرها ورزانتها، أن تعيد الدّفء المُفتَقََد إلى بيت زوجها، وأن ترعى، على أكْمل وجْه، أبناءَه، الذين كانت تَعُدُّهم بمثابة أبناء حقيقيّين لها، وأن توفّر له كلَّ أسباب الراحة والاستقرار؛ فأحسّ وكأن شيئاً من المعاناة لم يحصل، وأنْسَتْه همومَه وآلامه، وفتحت عينيْه للحياة مجدَّداً.. فحَمِد الله كثيراً على هذه الزوجة المُبارَكة!






 
موضوع مغلق


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مسابقة عبدالرسول معله في القصة القصيرة (المسابقة الثالثة لمنتديات نبع العواطف الأدبية) نبع العواطف مسابقات السرد 15 10-16-2011 10:54 AM
النصوص المشاركة في مسابقة القصة القصيرة الثانية لمنتديات نبع العواطف الأدبية عواطف عبداللطيف مسابقات السرد 19 10-28-2010 05:19 AM
مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة عواطف عبداللطيف مسابقات السرد 19 10-20-2010 02:47 AM
نتائج مسابقة نبع العواطف الأدبية الأولى للقصة القصيرة عواطف عبداللطيف مسابقات السرد 38 03-23-2010 01:12 PM
مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الأولى للقصة القصيرة عواطف عبداللطيف مسابقات السرد 28 03-01-2010 12:35 PM


الساعة الآن 10:59 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
:: توب لاين لخدمات المواقع ::