شعرت بسائل دافئ يتدفق على وجهها ويتسرب إلى أذنها اليسرى، قفزت مذعورة ..فتحت عينيها بصعوبة بالغة من أثر السائل الكريه الرائحة..امتلأت ذعرا وتراجعت الى الوراء وهي تحاول حماية وجهها ..
أغرقه منظرها في نشوة لا متناهية وتمنى لو يستطيع أن يغرقها في بوله..تتالت قهقهته ، التي انقلبت إلى صراخ: "دين امك ناعسة..فيقي الله يغرق ليك الشقف..."
فيما واصل شتائمه البذيئة، وهو يترنح ، كانت تمسح وجهها بيد وتحاول تجنب ضرباته المفاجئة باليد الأخرى، دون أن تتوقف عن التوسل" عفاك الاولاد ناعسين..الجيران كيسمعوا..الله يرحم ليك الوالدين..
ما كادت تكمل جملتها الأخيرة حتى انقض عليها كوحش كاسر و بدأ يشد شعرها وهو يصرخ.."آش جاب والدي للكلام؟ (ما دخل والدي في الموضوع) دوي آل......يا بنت الخراز..
أخذ يضرب رأسها بعنف على الحائط.. قاومت ، حاولت الاحتمال حتى لا تصرخ، ولا توقظ الأطفال مذعورين ككل ليلة، إلا أن ضربة موجعة أفقدتها السيطرة فخرجت من حلقها صرخة مدوية وبدأت تستغيث من كل الأحياء "واك واك آعباد الله عتقو الروح..."
انتفض الأطفال في أسرتهم، وخرجوا مذعورين في اتجاه استغاثة أمهم، وبدؤوا يبكون وهم ينادونها "ماما..ماما"
أخرجته أيديهم الصغيرة التي كانت تجره وتحاول أن تبعده عن جسد أمهم الذي غطته الدماء من نشوته..ركلهم، وصرخ فيهم "سيروا تنعسوا آولاد ال........"
لم يمتثلوا لأوامره.. لم يعد يحتمل إزعاجهم، جر أكبرهم من أذنه وفتح باب المنزل وألقاه في الخارج، ارتمى الصغيران الآخران على أمهما التي عانقتهما، وحاولت أن تخرج من الزاوية التي انحشرت فيها..
عاد الوحش، نظر إليها مجدد، ثم استدار وفتح الباب وصرخ فيها :"يالله خرجي انت واياهم..درقوا علي وجوهكم..جالسين تطحنوا لي في رزقي..
استمر يجرجرها رفقة طفليها في اتجاه الباب، بينما كانت تقبل قدميه وتتوسل إليه أن يرحم الأطفال من البرد ومن المطر المنهمر في الخارج، وتعده أنها ستغادر مع أطفالها في الصباح..
لم يستمع لكلامها، ولم يأبه لتوسلاتها..رماهم جميعا في الخارج، ودخل وأطفأ مصابيح البيت وارتمى على السرير الذي كانت تنام عليه..
كان صراخ أطفالها يمزق سكون الليل في الخارج ..
تحت سقيفة المنزل، ظلت تحاول أن تحميهم بجناحيها، وهي تطرق الباب وتتوسل إليه أن يفتح، أو أن يلقي لهم بغطاء ..لم يكن يستطيع أن يسمع شيئا من ذلك..تعالى شخيره وسط الغرفة....
بدأت مصابيح الحي تشتعل تباعا على إيقاع صراخ الأطفال وتوسلات الأم، كانت نافدة بيت المكي هي أول نافدة تفتح بعنف، ويخرج منها صوت غاضب : "ثاني بدينا آ الجيران د الويل... حنا ما ننعسوش..ما كاين مخزن ما كاين حكام فهاد البلاد.."
شعرت بالمهانة، احتضنت أطفالها وتوقفت عن التوسل، طالبتهم بأن يكفوا عن البكاء، لكن دموعها استمرت بالانهمار بلا انقطاع، رفعت بصرها الى السماء..لم تجد ما تخاطب به رب السماء غير دموعها الساخنة.."يا ربي راك عالي وعالم.." اختفت كل الكلمات..هدأ الأطفال قليلا وهم يحيطون بجسمها النحيل، ويحاولون دفن رؤوسهم الصغيرة بين ثناياه..
التفتوا على وقع خطوات قادمة نحو آهاتهم الدفينة..إنها للا خدوج زوجة المكي، تحمل معها غطاء قديما، وقنينة ماء..سبقتها دموعها الى احتضان الأم والأطفال، همست في أذنها "ما كرهتش ندخلك للدار ولكن راكي عارفة..يلا دخلتك يخرجنا المكي بجوج للزنقة فهاد الليل.."
ما كاد الصوت الغاضب يميز خيال زوجته أسفل المنزل حتى صاح بها "ادخلي لدارك، ما قادرين على مشاكل..تنوض تمشي للبوليس..واه هو يخرجهم ويرجع ينعس وحنا نباتو فايقين.."
وضعت للا خدوج الغطاء على الأطفال، ومدت قنينة الماء للأم وعادت مسرعة الى بيتها بخطوات سريعة..
لم يخرج أحد من بقية الجيران، لقد ألفوا هذا المشهد، ولم يعد يستفز فضولهم، فهم يعرفون ماذا حدث وما سيحدث في الليلة القادمة فلم يجازفون في هذا الليل البارد بالخروج، اكتفى بعضهم بالتفرج عليها من وراء شقوق الشبابيك، بينما وجد آخرون الجرأة الكافية لكي يطلوا برؤوسهم كأنهم يتابعون مشهد قطة ترضع صغارها تحت الأسوار..
أيقظ أنين الأطفال خالد الساكن الجديد في البيت المجاور، نزل بسرعة ..أرعبه المشهد، حرك بين جوانحه ذكريات موجعة..لم يتمالك نفسه، انقض على الباب وأخذ يطرقه بعنف، ويصب جام غضبه على هذا الوحش "اللي ما لقاش الرجال"..لم يفتح الباب، ارتفع صراخ الأطفال من جديد..تزايدت زخات المطر..التفت إليهم..لم يقل شيئا، أدار ظهره ومشى وهو يردد بصوت مرتفع "لا حول ولا قوة إلا بالله...لا حول ولا قوة إلا بالله.."
غاب لحظات، ثم عاد، فتح باب المرآب بسرعة..أخرج سيارته المتهالكة..ركنها جانبا، ثم حمل الأطفال واحدا تلو الآخر، ودعا أمهم للدخول.."ما تخافوش..نجيب ليكم الفراش والغطاء، وباتو هنا حتى للصباح.."
قبل أن يطفئ النور ويغادر المكان، التفت إليها وسألها :"في الصباح تمشي لداركم ولا تمشي للبوليس؟"
لم ينتظر جوابا حائرا، أغلق باب الكراج، اطمأن على سيارته التي كان يغسلها المطر ثم عاد الى بيته...
..وقفت أمام بيت أبيها تجر أطفالها وتحمل همها الثقيل، ما كادت تطرقه حتى أطل أخوها من النافدة:"..ثاني؟.."
كانت هذه أول تحية تستقبلها، لم تجب، التفتت إلى أطفالها، نظرت إليهم، ثم أغمضت عينيها للحظات قبل أن تخرجها حركة فتح الباب من الداخل من شرودها، كانت تعرف أن ما ينتظرها هنا ليس أقل سوءا مما خلفته وراءها ، لذلك صبرت كل هذه السنين، وانتظرت أن تغير بركات الأولياء أو أبخرة السحرة شيئا من طباع زوجها فلا تضطر لمغادرة بيتها..
بعد خطوتين، وجدت نفسها وجها لوجه أمام أمها..حيتها ببرود، تفحصت جرحها الغائر، لامست بأصابع يدها الدماء الجافة على خدها الأيسر، اشتعلت نيران الغضب في عينيها، نظرت بحنق الى الأطفال..رددت وهي تضغط على أسنانها :"علاش جايبة معاك ولادو؟.." (لماذا أتيت بأولاده؟)
شعر الأطفال بالرعب، غرسوا أصابعهم الصغيرة في في جسم أمهم، أخفى أكبرهم وجهه في ظهرها النحيل، بدأ يبكي..التفتت إليه، عانقته وقبلت أخاه "ما تخافوش.. ما تخافوش.."
صرخ أخوها في وجهها:"زعما هذاك الكَنس كيخاف؟ ..واش هو خالي دار بوك، وانت هازا ليه براهشو؟ داك الشي اللي بغا..تهنا.." (وهل يخاف هذا الجنس البشري؟..لا أفهم كيف يضربك ومع ذلك تحملين أطفاله معك..هذا ما كان يبحث عنه..ارتاح..)
حاولت أمها أن تخفف من حدة الموقف، أشارت إليه أن يسكت، عانقتها للحظات، تركتها تبكي بين أحضانها، تصفحت جروحها بأسف، لم تكن في حاجة لتسمع منها نفس الحكاية التي كانت تحكيها كلما جاءت الى بيت أبيها محملة بجراحها..
فتحت خزانة الملابس، قبل أن تلتفت إليها " اغسلي وجهك،وبدلي شراوطك (ملابسك)، و يفعل الله خيرا.."
همس أصغر أطفالها في أذنها "ماما في الجوع.." تذكرت أن أطفالها لم يذوقوا طعم الخبز منذ الأمس، وضعت يدها على عينيها لتخفي دمعة منفلتة، زاد إلحاح الطفل "ماما راه في الجوع.." لكزه أخوه الأكبر، وطلب منه أن يسكت..رق قلب جدتهم، وأتتهم بقطع جافة من الخبز، أمدت كل واحد منهم بقطعة وهي تردد :"راه غير على وجه امكم، بسبب عمايل أباكم خصكم تاكلو السم ماشي الخبز.."
لم يهتم الأطفال كثيرا بكلام جدتهم، التهموا قطعة الخبز بنهم، توجهت نظراتهم الى أمهم تطلب المزيد، تجاهلتهم، قبل أن تطلب منهم أن يخرجوا للعب في الخارج..
تسللوا خارج الغرفة، ما إن لمحهم خالهم حتى بادرهم "شي واحد فيكم يقيس ليا شي حاجة نقسموا.." (إذا لمس أحدكم شيئا يخصني سأقسمه).. لم ينبسوا ببنت شفة، أطلقوا أقدامهم الصغيرة للريح، في لمح البصر كانوا خارج البيت..
عادت أمها الى الغرفة، بدأت تلومها لأنها تحملت كل هذا الوقت، ولأنها أنجبت منه أطفالا، ولأنها لم تترك له أطفاله وتخرج الى الحياة لتستمتع بشبابها وجمالها، و..و..
لم تكن تلتقط من كل ذلك سوى كلمات طائرة بين الفينة والأخرى،فيما كانت تزدحم الصور في رأسها، كانت لا تكف عن التفكير في أطفالها؛ بيت أبيها لن يتسع لهم، ولا يمكن أن تجازف بالعودة الى بيتها، قد يقتلها في المرة القادمة..
...
هدها التفكير والتعب والسهر الطويل، دخلت فيما يشبه الغيبوبة، لم تدر ماذا حدث خلال الساعات الماضية، إلى أن أيقضها صوت أبيها الغاضب ..لم يكن في حاجة لكي يراها أو يرى أطفالها ليعلم أنها هنا، لقد زاره زوجها هذا الصباح في دكانه الصغير المنزوي في أطراف السوق، واشتكى له من تصرفاتها، وكيف أنه يعود منهكا من العمل فيجدها نائمة، وكيف أنها لا تهتم به ولا تشعره بوجوده، ولا تؤدي واجباتها الزوجية..و..و.....
وقف أبوها بباب الغرفة، قفزت من مكانها..لم يترك لها فرصة لتحكي له ما حدث، بدأ يمطرها بوابل من النصائح القاسية.."المرا الحرة ما تخرجش من دارها..يلا كان مقلق دخلي لبيت آخر سدي عليك حتى يبرد..الساعة لله..واه كل نهار خارجة من دارك؟ ما لاقياش الحكام؟..المرا عزها فدارها...(المرأة الحرة لا تخرج من بيتها..إذا كان غاضبا ادخلي غرفتك وأغلقي عليك إلى أن يهدأ...أليس لديك ولي يحكمك..المرأة عزها في بيت زوجها..)
لم يتوقف عن الكلام، ولم يمهلها لتدافع عن نفسها أو لتشرح ما حدث لها..لم يسمح لها بغير البكاء..تدخلت أمها لتخفف عنها، حاولت أن تشرح له أنها جاءت في الصباح غارقة في دمائها، وأنه يضربها استمرار، لكنه لم يقتنع بمبرراتها وواصل بصوت أكثر ارتفاعا.."كون ما دارتش علاش ما يضربهاش.. كون جا ولقا داك الشي اللي بغا فدارو ما يخصها خير.." (لم لم تخطئ لما ضربها..لو كان سعيدا معها لما قصر..) والتفت إلى أمها ليصب عليها المزيد من غضبه.."ترابيك هاديك(هذه تربيتك)..كون ربيتيها ما تبقاش كل نهار غاديا جايا.."
عم الصمت..سقطت مغشيا عليها..توجهت أمها أليها، أخدت تناديها وتصب الماء على وجهها،هدأ بعض غضب أبيها، اقترب منها أكثر، حملها إلى الفراش، وبدأ يمسح على رأسها ويردد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..."
دخل الأطفال مذعورين الى الغرفة، التفوا حولها من جديد، تعالى بكاؤهم أكثر من أي وقت مضى، فتحت عينيها..غادر أبوها بسرعة، فيما بدأت أمها تلومها لأنها أفزعت أطفالها، وبدأت تخاطبهم.."صافي راها لاباس..هاهي فاقت.." تعاطفت أمها معها ومع الصغار واحتضنتهم لأول مرة منذ وصولهم في الصباح..خرجت وتركتهم قليلا مع أمهم، قبل أن تعود بالماء وتساعدها على غسل وجهها، طلبت من الأطفال أن يذهبوا ليتفرجوا على التلفاز ويتركوها ترتاح قليلا، غامر أوسطهم واعترف لها بأنهم جوعى..أمسكت بأيديهم الصغيرة، وحملتهم الى الغرفة الأخرى، وضعت أمامهم قطعا من الخبز المدهون بالزبدة، وصنعت لهم شايا..
بعد ساعة عاد أبوها، جلس الى جوارها، كان أكثر هدوءا، وحاول أن يكون أكثر حنانا، بدأ يشرح لها كيف أن خروجها من بيتها ليس في مصلحتها، وهو لا يبحث إلا عن مصلحتها...
بينما كان يتكلم، كانت تشعر بوجوده لكنها لا تسمع شيئا..جفت دموعها ولم تعد قادرة على ذرف المزيد منها، رجتها العبارة الأخيرة التي قالها أبوها "غدا صباحا سيأتي ليأخذكم الى بيتكم.."..يا إلهي ..كانت تعرف أن أباها أعطى كلمته ولا سبيل لتراجعه عنها مهما يكن، وكانت تعرف أنها إن عادت ستعود الى حتفها..
حاولت أن تصرخ بكل قوتها "أرجوك يا أبي لا تفعل بي ذلك.." لكن لسانها تجمد في مكانه..اختنقت الصرخات في جوفها..وضعت يديها على رأسها وبدأت تئن..
قبل أن تشرق شمس الصباح، أيقظت الصغار برفق، طلبت منهم ألا يحدثوا أي جلبة، فتحت باب المنزل وخرجت تجرهم وراءها، سألها أكبرهم "ماما إلى أين سنذهب؟" لم تجبه، كان رأسها يضطرم بالهواجس..فكرة واحدة سيطرت عليها أن تعرض نفسها رفقة أطفالها لعجلات القطار، كانت تسير وتلتفت اليهم بين الفينة والأخرى فتأخذها الرحمة بهم ويمزقها الأسى، تغرق في دموعها..تسمع هدير القطار القادم من بعيد..تغد السير باتجاه السكة..تنظر آخر مرة لوجوه أطفالها..تتخيلها ممزقة ومدرجة بدمائها..ترتعب..تبعدهم عن الخطر الذي بات قريبا تحضنهم ..تلتفت من وراء ستار دموعها الى محطة القطار القريبة...