عاد آدم إلى قضبانه وخيبة الامل تحضنه بيد من حديد وصورة الجريمة لا تبرح مكانها هاهنا تحط وترسي الاوتاد. كان يأمل أن يعاقب على ما اقترفه في حق الضحية والمجتمع فيسكن الالم ويسدل الستار على نهاية مسرحية كان بطلها ولكن الالم أبى الرحيل والجريمة عالقة بفكره بالصوت والصورة، توقظه كلما قرّر النسيان.
نعم عاد إلى نفس المكان حيث الحجرة الباردة والمسافات رسمت قدميه في ذات المكان والحيرة أشواك تصنع من الالم لوحة خالدة تروي قصة فتى لعب به القدر فكان ضحية شوقه وحنينه للدفء العائلي.
ظلّ آدم على تلك الحال شهرا كاملا لايعرف مصيره المجهول ونهاية ألمه بيد العدالة وملف قضيته لا يزال مفتوحا، والقاضي بالمستشفى بين الحياة والموت تربطه بالواقع آلات لو نزعت ربما لكانت نهايته.
وفي أحد الايام جلس آدم في ركن من الحجرة التي أصبحت جزء منه وبين يديه كتاب الله أنيسه ومدرسته في الصبر على تحمل الشدائد وتجاوز الالم وإذا بحارس السجن يقطع خلوته ليخبره أنّه مطلوب عند مدير السجن. ارتسمت على وجه آدم إبتسامة الرضى والبشرى إعتقاداً منه أنّ المحكمة استدعته لمواصلة المحاكمة.
دخل آدم على المدير فألقى التحية و الاغلال جزء من الصورة. كان استدعاؤه لإخباره أنّ القاضي عاد إلى وعيه وهو يريد مقابلته.
فكرّ آدم كثيراً في سبب ذلك ولم يجد جواباً لتساؤلاته .. قضى ليلته تلك وهو يسأل نفسه: ما سبب استدعاء القاضي لشاب مجرم لا تربطه به علاقة؟ خدّر فكره بجواب معقول كان أنّ القاضي يريد إنهاء القضية التي شرع فيها.
وفي الصباح الباكر غادر آدم السجن برفقة أربعة حراس ويداه لا تزلان مكبلتان. وهناك بالمستشفى دخل آدم حجرة المريض الذي كان مصفر الوجه تبدو عليه علامات رجل يلقي آخر نظرة على العالم وهو يودع أعز ما يملك وراى مشهداً مؤثّراً زعزع كيانه ألا وهو بكاء ثلاث فتيات في مقتبل العمر، إقتربت منه إحداهنّ وهي تعانقه بحرارة قائلة: كم انتظرنا هذه اللحظة، وكم كان والدي يأمل إيجادك، لقد تعب وهو يبحث عنك كما تبحث عن الإبرة في كومة تبن وما وجدك قط، عشت معنا وانت بعيد عنّا ، كنت تجلس دوماً إلى مائدتنا فتعيش أفراحنا وأقراحنا.أخي ..................
قالتها ودموعها تنهمر ثم اتجهت نحو فراش والدها وهي تردد: ها قد تحقق حلمك ووجدت إبنك الوحيد فلا تتركنا يا أبي، سنجتمع جميعاً حول مائدة الطعام وأصواتنا تملأ المكان.
وقف آدم كالمعتوه لا يفهم شيئاً، ورأسه يكاد ينفجر لما يرى ولما يسمع. واقتربت منه فتاة أخرى وهي تعده بأن تتولى قضيته وتفعل كل ما بوسعها لتساعده في قضيته وتقول أنّها وعدت والدها أن تجدك لو حدث له مكروه لأنّه كان يعاني من نوبات قلبية سببها يأسه في إيجادك.
فتح القاضي عينيه وأشار بيده إلى آدم ليقترب منه ففعل وإذا بالاب يمسك بيد إبنه قائلا: لا تخف يا بني أختك محامية ماهرة ستتولى قضيتك بمساعدة زوجها وهو قاض معروف ثم واصل حديثه، لا تفكر يا ولدي أنّني تخليت عنك، صحيح أنّني سافرت لإتمام دراستي ولكنني ما استطعت فراقكما فعدت ولم أجدكما بنفس المكان، بحثت عنكما طويلاً دون جدوى وختم كلماته ب: أحببتك......... وكانت كلماته الاخيرة. جسَّ الطبيب نبضه وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ...............