أذكر أنه حينما كنا في مركزالتكوين قبل سنوات نتلقى ما يسمى مجازا التكوين الأساسي نظريا وتطبيقيا، الهدف منه التخرج إلى ميدان العمل بحمولة فكرية ونظرية معرفية وعملية تكون بمثابة المعين المساعد على تحسين المردودية التربوية وفق بيداغوجيا محددة، أذكر فيما أذكره في هذه الفترة الزمنية التي دامت سنتين كاملتين، أننا كنا مثل أطفال دخلنا كصفحة بيضاء يريدون حشوها بالمعارف والمعلومات التي يقتنعون بأنها ناجحة وتخدم المسار التربوي الذي يرومونه لخلق مواطن صالح لخدمتهم يصمت كلما أرادوا له أن يصمت، ويتحدث دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء كلما أحبوا له أن يتحدث. وكل هذا ليس من قبيل الافتراء، ولكنها الحقيقة التي كنا نلمسها عند المكونين الذين يعتبرون في نظرنا مجرد ببغاوات يعيدون ما يسمعونه على لسان مسؤوليهم فكثيرا ما كانوا يقمعون كل طالب يخرج عن المألوف لينتقد سياسة أو فكرة ما، فيوجهون له كلمة "واحدة كافية" لتخرسه طيلة مدة التكوين وهي "إذا أردت أن تتَكوٌنَ فَكَوِنْ"، وهذا التهديد كان ناجعا بصفة عامة، خاصة أن أغلب الطلبة كانوا مرغمين على التكوين لا أبطالا .
لقد استحضرت هذه المقدمة التي توضح بجلاء ما يتعرض له رجل التعليم في مؤسسات التكوين قبل ولوج ميدان العمل، وهذه الأمور ليست إلا جزءا من مشاكل يواجهها بالجملة. وقد حكى لنا الكثيرون من رجال التعليم بعد تخرجهم أمورا غريبة زادت من اشمئزازنا واحتقارنا لمؤسسات التكوين الأساسي التي تعتبر الطالب فيها كأنه ملكا لها تستخدمه متى شاءت وكيفما شاءت، فالطالبات يتعرضن للتحرش من طرف الأساتذة المكونين، والطلبة الذكور يواجهون القمع الفكري والاجتماعي والإنساني، إضافة إلى منع الاعتصام والاعتراض والانتقاد وكل ما يواجه الإدارة بحقيقتها المتمثلة في التسلط والظلم والإهانة. فهل يمكننا، بعد هذا كله، أن نتحدث عن تكوين تربوي أساسي سليم ينتج لنا أساتذة في مستوى المسؤولية المطروحة على عاتقهم؟ أم سينجب لنا أشخاصا متشبعين بروح الانتقام والضغينة يحاولون قتل كبتهم داخل القسم، فيعيدون إنتاج ما تلقوه وما عانوه في مؤسسات التأطير والتكوين؟ وهل هناك سبيل لإعادة النظر في مؤسسات التكوين بعد أن تبين بالملموس ضعفها في خلق رجل تعليم في مستوى المسؤولية الكبرى وهي التربية والتعليم؟ .
وأما الطامة الكبرى فهي المتمثلة في عملية الانتقاء التي تكون قبل ولوج مراكز ومؤسسات التكوين الأساسي، فلا الشروط الموضوعة لاختيار رجال تعليم مستقبليين تحترم، فنرى الكثير من السلوكات غير التربوية تعم عملية الانتقاء، فتعم الزبونية والمحسوبية والارتشاء، وحتى لو تمكن بعض المحظوظين الذين يمرون إلى مرحلة اجتياز الامتحان الشفوي، وهذه المرحلة تعرف خروقات عظيمة عظم سور الصين العظيم، فنجد الزبوينة والارتشاء وما إلى ذلك من أمور مستبعدة أخلاقيا، فيتم تسريب هؤلاء بطريقة لا معقولة إما بطرح أسئلة صعبة أو أخرى خارجة عن الموضوع المناقش والمطروح أمامه ....
أما فيما يخص مقررات التكوين الأساسي داخل مراكز التكوين فإننا نجدها لا ترقى إلى متطلبات المدرسة المغربية إن نظريا أو تطبيقيا، فالمستجدات التربوية التي تغرق عالم التربية والفكر في العالم لا نرى أي حضور لها في المراكز أو حتى بعض الإشارات المقتطعة من نظريات جديدة وحديثة، فكل ما نفعله هو انتظار أفكار ونظريات جاهزة ومستهلكة من قبل الغرب، ونغرق بها عالمنا التربوي دون تنقية أو مناقشة ونحشو بها عقول رجال تعليمنا فتولد لهم الغثيان والكره الدفين. وإضافة إلى كل هذا، فإننا نجد الكثير من الأساتذة المكونين لا يهتمون بمواد التكوين ولا يجتهدون في البحث والتنقيب عن الجديد وعن المعرفة المتجددة والنظريات الحديثة، وقد نجد البعض لا يبالي بأي شيء سوى الحضور في الوقت، والخروج في الوقت، لا يقوم بأدنى مجهود في الاجتهاد لنقل المعرفة المتجددة إلى الطلبة .
وحتى بعد تخرج رجال التعليم من مراكز التكوين الأساسي تكون ضرورة متابعتهم داخل المؤسسات التعليمية بنقل النظريات والمعارف الجديدة إليهم، ويكون ذلك بواسطة التكوين المستمر. وضرورة التكوين المستمر لرجل التعليم كضرورة الماء للإنسان، إضافة إلى ضرورة متابعته للمستجدات الفكرية والتربوية والثقافية، ولكن الموارد المالية الضعيفة التي يعيشها رجل التعليم تحول دون ذلك، فيبقى على المسؤولين على قطاع التربية والتكوين وضع استراتيجية جديدة للنهوض بالتكوين المستمر نهوضا كبيرا يكون البلسم الشافي لرجل تعليم يعاني أمراض الأمية الثقافية وضعف القراءة ...
وحتى لو تقبلنا بعض المشاريع التكوينية التي بدأت مؤخرا الوزارة الوصية على التربية والتعليم تقدمها لرجل التعليم المغربي لكنها تبقى مشاريع كافية وقادرة على تغيير ملامح السواد على وجه تعليمنا، لأننا مازلنا لم نبرح الطريقة التقليدية للتعاطي مع التكوين والمعارف والنظريات الجديدة، فأغلب ما يقدم من معارف تربوية وفكرية لرجل التعليم إنما يكون قد أصبح قديما ومتجاوزا في الغرب أو في دول أخرى عربية جربتها دون جدوى ودون الوصول إلى نتائج ملموسة وعظيمة. فالمغرب مازال يجرب النظريات والبداغوجيات والأفكار التي تتعايش في الغرب وتعطي نتائج باهرة دون أن يحقق منها تقدما ملموسا أو تطورا على صعيد الثقافة التربوية والعلمية عند رجل التعليم المغربي. والدليل على ذلك هو الترتيب الذي يحصل عليه المغرب في مجال التربية والتعليم الذي يعتبر من المجالات الحيوية التي تساهم في تطور المجتمع والناس .
قررت وزارة التربية الوطنية مؤخرا تقديم تكوينا يدخل في ما يسمى التكوين المستمر حول "بيداغوجيا الإدماج" لازال ساري المفعول اليوم وسيستغرق حوالي 3 سنوات، لكن هل يمكن لهذا التكوين أن يؤتي أكله وهو قائم على ظلم رجل التعليم الذي لا يمنح له حقه المادي والمعنوي من أجل أن يساهم في هذا التكوين وإنجاحه. فكيف يطالبون رجل تعليم ينتقل إلى مقر التكوين من جيبه ويقدم له إطعام في مستواه الإنساني والمجتمعي؟ وكيف يطلبون منه أن يضحي بوقته ووجهده الفكري والعضلي والنفسي دون تعويضه على ذلك، بينما الذي يؤطره يحصل على تعويض محترم وسمين ولا يتحرك من مكانه إلا بتعويض مغر؟ فهل في ظل هذه الظروف سينجح مثل هذا التكوين المستمر؟ طبعا سيكون الجواب بلا .
إن مثل هذا التكوين سواء كان حول "بيداغوجيا الإدماج" أو حول أي موضوع آخر، لن ينجح ويعطي أكله إلا إذا مر في جو سليم واحترام لكل الحقوق ودرء المفاسد وإعطاء لكل ذي حق حقه. سيكون من العدل أن يمر اي تكوين في مناخ سليم بعيد عن الإضرار بمصالح الكل وإحقاق الحق .