قراءة في قصيدة ( توبة عاشق)
للشاعر العربي الكبير / صبحي ياسين
الجزء الأول
قلبي الذي في الليل ِ أرهقه ُ البُكا
أرخى عليه رُموشــــه ُ ، ثمّ اتكا
في هذا المطلع الجميل ، كل جوانح الشاعر كانت في حالة بكاء ، لكن قلبه وعلى وجه التحديد أصابه الإرهاق والإجهاد من كثرة الدموع ، وهنا الشاعر يقدم في صدر البيت الإسم الموصول ( الذي ) ليميز القلب من عن غيره من جوانحه التي تعرضت للبكاء .
وجاء عجز البيت تعميقا للمعنى في صدره ، فذكر الوقت الذي فاضت عبراته وزاد بكاؤه ، والبيت ُ لا يخلو من الصور الفنية العالية ...
فهذا الليل أفاض أهدابه على الشاعر وزاد من وجعه وحزنه ، ربما لأنّ العاشق يستحوذ عليه الشعور بالوحدة في خلوته ...
والشاعر هنا لم يخرج عن الدائرة التي أبدع بها الأجداد ومن سبقوا في عالم الشعر ، فالليل للعاشق له وضعية خاصة ، فهذا المتنبي يقول :
ليالي َّ بعد الظاعنين َ شكول ُ
طِوال ٌ ، وليل ُ العاشقين طويل ُ
وكذلك أمرؤ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل .....الخ
وكذلك جرير :
أبدّل َ الليل ُ لا تسري كواكبه ُ
أم ْ طال َ حتى حسبت ُ النجم حيرانا
والنماذج كثيرة في الشعر العربي ، ونجد أن الشاعر صبحي استطاع بثقافته الواسعة وقدرته على التعبير أن يستهل هذه القصيدة من خلال صورة غاية في الروعة ، ولا يخفى براعة الإستهلال وحُسن البدء ، وهي من مزايا القصيدة عن صبحي سليمان .
أنا لستُ ممن حاد َ عنك ِ مســـاره ُ
أنا ما اتخذت ُ سوى سبيلك ِ مسلكا
أنا : في الصدر ، الشاعر يقول لها : أنه لم يخرج عن طريقها ، ودرب حبها ، ثم يعود في الصدر ويكرر البدء في ( أنا ) ، وهنا ليؤكد الفكرة بنمطية أخرى ، وأنه لم يشأ سوى حبها يسلكه ...ومسار : اسم مكان من سار َ ( خط السير ) ، مسلك : جمعها مسالِك : وهي الطريق .
وهنا الشاعر قام بتوظيف ( مساره ) ( مسلكا ) ، في سياق التأكيد على فكرة تبعية قلبه لها .
لا تــبعديني عن جـناك ِ فإنني
ما زلتُ بالحبّ المُعتّقِ مُمْسكا
هنا الطلب في معرض الرجاء ، وعبارة ( الحب المعتّق ) ، كناية عن القِدم ، فهو حب عميق قديم ، يرجوها أن لا تحول بينه وبين أن يجني ثمار الوصال لأنه ما زال متشبثا في حب عتيق يسكن وجدانه ( صورة جميلة ) .
قلبي الذي شرب َالصبابة َوالجوى
أمســى ببعدك زاهــدا ً مـتنســـكا
لماذا يطلب منها أن لا تبتعد ؟ لأنه قد ذاق رقة الشوق كما ذاق الحزن من البعد ، وهذا الشطر يوحي للقاريء أن الوصال كان بين العاشق والمحبوبة ، وربما هو وصال ٌ مجازي ..ولأنه تذوق رقة الشوق ،أمسى عاشقا وفيا مخلصا ً لها وهذا الأمر تؤكده الأبيات اللاحقة .
لا والذي فَطَرَ القُلوب َ على الهوى
ما كنت ُ يوما ً في غرامك ِ مُشركا
تتجلى في هذا البيت الثقافة الدينية العالية وجمال التوظيف أن يخرج عن الخط الرئيس في التأثر ، فكثير من الشعراء يقع في مواطن سوء التعبير والتوظيف حين يتعلق الأمر بتوظيف التأثر في النصوص القرآنية المشرفة ...في هذ البيت يقسم الشاعر بالخالق سبحانه وتعالى الذي جعل القلوب تعشق وهذا العشق الذي يتفق مع الفطرة .
ويؤكد وفاءه وإخلاصه بأنها وحده في القلب ولن يتخذ لها شريكا ..
لكنْ زماني قصّ كلّ أصابعي
وبقيت ُ بالعهد الموثق ممسكا
لا يكاد نص من نصوص الشاعر يخلو من حنقه وتمرده على الظروف القاسية التي مرّ بها ، سواء بالإشارة أو بالإيحاء ...فالمتتبع لسيرة الشاعر الذاتية فقد كانت سيرة لا تخلو من القسوة ، سواء في طفولة مبكرة أو في شباب تائه بين منفى وغربة بحثا عن لقمة العيش والعمل الكريم أو واقع ألقى بظلال قسوته عليه ، فهنا الشاعر لم يقدم لنا هذا البيت في سبيل النظم بقدر ما هو تعبير واضح عن تجربة عاشها يعيشها ( لكن ْ زماني قصّ كل أصابعي ) فهنا إشارة واضحة لما سلف َ وذكرنا بإيجاز ...وفي الشطر الآخر يؤكد ما ذهبنا إليه آنفا ً الوفاء والإخلاص لهذا الحب ...
والقاريء المتتبع لقصائد الشاعر العربي الكبير الأستاذ / صبحي ياسين ، والذي يملك القدرة للولوج في نفسية الشاعر المُتعبة نتاج ظروف قاسية أحاطت وتُحيط به ، سيجد الإقتراب من نصوصه أكثر إمكانية وقدرة ...
صبحي ياسين ...شاعر مطبوع ، لا يطلب القصيدة بل هي من تطلبه ، وأجزم أن هناك إرهاصات تداهمه قبل ولادتها ، فيشعر بقرب مخاضها ، لذلك عندما يكتب القصيدة تصل لذائقة المتلقي دون عناء ...
صبحي ياسين ...شاعر يستوقفني ويُجبرني أن أقرأ شاعريته المتدفقة في محاولة أكثر لتقديم قراءة تليق بهذه الروائع لقاريء يبحث عن الشعر الجميل ...ومن حقنا في منتدى نبع العواطف الأدبية أن نزهو ونتيه لأن هذه القامة الأدبية الباسقة من أركان هذا المكان ...
ودأبنا أن نقدم َ القراءة دون إسهاب وإطناب حتى نبتعد في القاريء عن الملل ، ويبقى في حالة تماس مع القراءة والقصيدة ...
على أمل اللقاء بحول الله في الجزء التالي
الوليد