ومن المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه لئن أغناه اللّه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين، فما وفى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون اللّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة عياذاً باللّه من ذلك، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: ادع اللّه أن يرزقني مالاً، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه) قال، ثم قال مرة أخرى، فقال: (أما ترضى أن تكون مثل نبي اللّه؟ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً و فضة لسارت) قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت اللّه فرزقني مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (اللهم ارزق ثعلبة مالاً)، قال: فاتخذ غنماً، فنمت كما ينمى الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود، حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: (ما فعل ثعلبة؟) فقالوا يا رسول اللّه اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره، فقال: (يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة)، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ثناؤه: { خذ من أموالهم صدقة} الآية، ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: (مرّا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما)، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وما أدري ما هذا! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بهما، فلما رأوها، قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك، فقال: بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة، فأخذاها منه، ومرا على الناس، فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما، فقرأه فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، فلما رآهما قال: (يا ويح ثعلبة)، قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: { ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن} الآية.
وقوله تعالى: { بما أخلفوا اللّه ما وعدوه} الآية، أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، وقوله تعالى: { ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم} الآية.
يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم، وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها، فإن اللّه أعلم بهم من أنفسهم، لأنه تعالى علام الغيوب، أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن.
[1] أخرجه ابن جرير بتمامه وفيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم لم يقبل صدقته في حياته فلما قبض صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم عرضها على أبي بكر فلم يقبلها ثم عرضها على عمر فلم يقبلها حتى هلك في زمن عثمان، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم بنحوه