يقول تعالى: إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم { وإن جنحوا} أي مالوا { للسلم} أي المسالمة والمصالحة والمهادنة { فاجنح لها} أي فمل إليها، واقبل منهم ذلك، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر.
قال ابن عباس ومجاهد: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر}[1] الآية وهو قول عطاء وعكرمة والحسن وقتادة وزيد بن أسلم، وفيه نظر، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص واللّه أعلم.
وقوله: { وتوكل على اللّه} أي صالحهم وتوكل على اللّه، فإن اللّه كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا { فإن حسبك اللّه} أي كافيك وحده، ثم ذكر نعمته عليه بما أيده من المؤمنين المهاجرين والأنصار، فقال: { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك، { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج، حتى قطع اللّه ذلك بنور الإيمان، كما قال تعالى:{ واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}[2].
وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم اللّه بي، وعالة فأغناكم اللّه بي، وكنتم متفرقين فألفكم اللّه بي) كلما قالوا شيئاً قالوا: اللّه ورسوله أمنّ؛ ولهذا قال تعالى: { ولكن اللّه ألف بينهم إنه عزيز حكيم} أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه { حكيم} في أفعاله وأحكامه، عن ابن عباس قال: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن اللّه إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم}، وعن مجاهد قال: إذا التقى المتحابان في اللّه فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر، قال عبدة، فقلت له: إن هذا ليسير فقال: لا تقل ذلك، فإن اللّه يقول: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني.
عن سلمان الفارسي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم قال: (إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار)