رواية على حائط الذاكره - ساره العبدالله " ساره الدوري "
~~~~~~~~~~~~~~~
في البداية احب ان انوه على ان الرواية مكونه من 3 فصول وهي اولى رواياتي في 17 عام , شاركت بها بمسابقه مدرسيه فقيمت كـ الافضل من بين 10 روايات
كما اني اجريت عليها بعض التغييرات الا انها لم تنقح لغويآ و تركتها بلغتها البسيطة وكلماتها السلسه الواضحة المعاني ..
نبذه عن الرواية :
الروايه من وحي الخيال , تربط واقع الحب والحرب بين فتاة نصف فلسطينية نصف عراقيه " رهف " لاتتجاوز ال 12 عام و شاب يكبرها ب 7 اعوام " سامي "
, احداثها مأساوية مشوقه تدور معضمها في فلسطين فيعاني كل منهما الكثير من الاضطهاد والظلم والمأسي ..
ابطال الرواية :
رهف , سامي
غلاف الرواية
الموقع الرسمي للرواية
اضغط هنا
رابط تحميل الفصل الاول من الرواية PDF اضغط هنا
الفصل الاول
مقدمه
يُغضبني او آغضبهُ .. لآ أذكر تمامآ من كآن يجني على قلب الآخر بالقتل , بكل مرة تشابكت بها اصواتنا لتصدع جدران المنزل وترتجف الثريات من شدة قوتهُ ليغطي احد ما أذنيه منزعجا ويصرخ كفى ! أن سهم ندم كان يصيب قلبي بكل مرة سمعت بها هذه الكلمه " كفى " .. بلحظة الصمت والالتفاته السريعه لهُ ..
كنا نحمل كبريائنا علي اكتافنا لنستدير لاتجاهين متعاكسين .. دون ان توقفنا لحظة ندم رغم انها تحاول جاهدة احيانا ...لم يكن هو يفهم قسم اقسمه كل ليلة من اجل النسيان ، ليكون فطوري في الصباح صورة منهُ .. ولم اكن افهم انه تحول لوحش يتهجم على الناس بلسانه لمجرد انني لم اعد احدثه .. !
والناس ايضا لم تكن تفهم ان احدنا ان مر بجانب الاخر كان يحترق دون بركان مرئي .. على متن سفينة الحياة ، نتقبل تقلبات الاجواء من مطر لبرد لعواصف او لسماء صافيه ... نتقبلها ونحن ببطن سفينة الحياة الا اننا بكل مرة كانت تهب بها عاصفة قوية ، اعتقدناها النهاية ..
بكل مرة سمعنا صواقع السماء لذنا بالفرر لينسى احدنا الاخر وكأنه ما ولد للحياة الا ليحبها ويحب ذاته .. تلك الصواقع .. أنهاتشبه كثيرة ليلة امس ، او شجار الامس
حيث اعتقد كلانا انها فعلا النهاية ... تخلينا عن الاخر لفترة اسميناها فترة الاحتفاظ بالكرامة ..
انه مصطلح بقدر ما هو جميل كان بشع بحق مشاعرنا ، بحق انسانيتنا ، بحق المحيطين بنا ..
لا اكترث حياة مشوشة بآحداث الامس لا يقوى هو على بعد سببته لحظة غضب وكلمات خرجت بغير اوانها ..
اننا الان نشبه حكاية الموت ، حيث انفصال الجسد عن الروح ... لا احد يعلم ان الارواح تتهاوى فوق سطح القبور وانها لا يمكنها ترك الجسد لمدة طويله ... يوهمونا انها تعلو سقف السماء ...
وما هي كذلك ابدا ...
الساعات تدق ، الاجراس تدق ، وترن الهواتف طويلا ومع كل ومضة هاتف او رنة جرس او منبه
ساعه
كان هو قادم بباقة ورد ، واقفٌ خلف ابوب ذاكرتي يلغي علي متعة الواقع ، ويطفئ بقلبي ضحكة اطلقها للاخرين بحزن ...
كآن يحرق شوقه كل ليلة بسجارة ليطرحني مع تنهيدة قوية كدخان يرسم به صورة لي ...
يتذكرني كلما عزف بملعقته على جدران كوب الشاي ، وهو يحاول اذابة سكر ذكرياتنا
يغير نغمة هاتفه بين ليله واخرى ،لم يعد يلتحف احلامه عند التاسعه ، بل اصبح هذا الوقت وقت الاجتماع بالاصدقاء ...
والناس لازالت كما هي ، تترقب صورة نضعها على برامج التواصل كالواتساب .. ، جديرة بالمراقبه
تنتظر حرف حزين يعلن عن قصة انفصالنا ولا اعلم لماذا ..! هل كان انفصالنا سيغير جحيمهم الى جنه .. !
كنت اطفئ اضواء الغرفه بحين مبكر يثير فضول الاخرين ، ما الذي
تريده " ريم الصغيرة "
عندما تقتحم غرفتي بقساوة غير متوقعه حاملة
بحقيبتها ضجيج اصطدام الالعاب واحده بالاخرى ، لتفضح عليّ سر تمطره عيناي دون ادنى ارادة
فتطرح علي بصوت مرتجف سؤالها :
- أتبكين رهف !
- لا .. لست كذلك ... وانت ؟
عندما ادركت مسامعها سؤالي , انفجرت بالبكاء فجأة !
سألتها بصوت اقرب للشفقه !
- مابك صغيرتي ؟
- امي غاضبه مني .. جدآ
- ولم هي كذلك ؟
- خربشت جدران غرفتها بقلم احمر الشفاه , كنت أحاول الرسم ليس الا !
ضحكت بشكل مفاجئ :
- أووه , أنها الجدران مرة أخرى !
دهشت الصغيرة من ردت فعلي !!
هل تعلمين يا صغيرتي ما الذي يثير اضحكوتي الان !
هو انك تبكين لذات السبب الذي ابكاني قبلك الالف المرات .. اللون الاحمر ! والجدران !
يآآآه , كم كانت ايام قاسية بحق طفولتي ..
غرة الحبيبة , طفولتي الفلسطينية الناقصة كالعاده .. كانت كمرار القهوة السمراء التي تقدم دون قطع البسكويت الحلو على غير عادتها !
مرة للغاية يا صغيرتي ... تلك الجدران .. أعني جدران الذاكره !
والحارة ايضا .. لازلت اذكر تماما منظر الدماء الذي يسّود يوما بعد يوم امام عيني !
ودماء من ! أنها أمي .. نعم دماء امي يا صغيرتي ..
لقد رحلت .. قتلوها .. كما كان يقول والدي !
والدي .. آآه منك يا ولدي ! كم تمنيت لو انك ذات يوم فتحت لي ذراعيك بحنية وقدمت لي ولو ربع حنان !!
ااه لو انك منحتني الامان الذي فقدته بعد فقدي لامي ..
واخوتي .. آآه كم تمنيت ان يكون لي اخ اقل صلابة من الذي كان عليه اخي بشار
هل تعلمين يا صغيرتي !
انك ستجعليني اقص عليك حكايتي كلها , ربما قد جفت دموعك الان , وقد تكون والدتك قد ازالت اللون الاحمر من على الجدران , ولكن كيف لي ان ازيل الاوساخ العالقة بجدران ذاكرتي !
في الحقيقة لا يمكنني ان انعتها كلها بـ الاوساخ .. فهناك ما هو انقى واجمل وانكه من ان اطلق عليه مصطلح كهذا !
كان هو سامي يا صغيرتي ..
الاقرب والاحب الي نفسي , اعني نفسي الطفولية وحتى الحالية ..
كنت اعشق مدرستي التي لاتبعد كثيرا عن منزلنا .. أو زقاقنا , فنحن كما تعلمين كنا سكان قرية تعبة منهكة جدا
ورغم ذلك .. عشقت ارصفتها المتكسره , وشوارعها التي لابد ان تمتلا مياه في الشتاء , عشقتها لاجله فقط ..
حين كان يطل علي بدراجته الزرقاء ومعطفه الاسود الجلدي و هو يحتضن شقيقته الصغرى
“ مريم “
شقيقة روحي وطفولتي , يطل علي بنظرات يضطرب لها القلب , تزداد لها الخفقات , يتحول الشتاء فجأة لبركان دافئ يتخلل عروقي , نظراته الحادة الغريبة ! يااه لازلت اذكرها مستغربه كيف لفتاة صغيرة مثلي ان تستمدها بتلك الطريقة العجيبة !
شيء فشيء كان يقترب كثيرآ لي , لقلبي , يستوطن مشاعري , اجل يا صغيرتي يستوطن مشاعر طفله مثلك
طفله لم تتذوق حنين اخر من سواه !
كان مساء مظلم شديد المطر , حينما أصر هو على ان يقلني ومريم بدراجته الى منزلنا
خشيتة ان يصيبني البرد أو ان تأخذني امواج الشوارع الطافحة
ضمني بين ذراعيه بقوة , ومريم تتوسطنا على الدراجه , ثم سار بنا الى حيث لا أدري !
وصلنا !
رمى بساقيه مسرعا على الارض , ثم اخذ ينتشلنا انا ومريم واحده تلو الاخرى
ويدخلنا داخل ذلك البيت الذي بدى وكأنه مهجور وغريب جدا !!
يآآه يا صغيرتي لو تعلمين الفاجعه التي وقعت على رأسي بعد ان اقتحمت ذلك المنزل !
يااه , ليتني ماركبت تلك الدراجة ابدآ , ليتني ما أتيت الى هذا المكان الذي لم اكن اعلم انه سيغير قدري تماما ...
يآآه يا صغيرتي لو تعلمين هول الصاعقة التي ضربت قلبي الصغير , حينما أجلسنا سآمي على مقاعد حديدية انيقة بعيده كل البعد عن بساطنا الخفيف , حيث كانت تحيط بطاولة زجاجية يمتلا سطحها اكواب من الحليب الممزوج بالكاكاو الساخن و صحون البسكويت المغطى تماما بالشوكولاته والذي لم يكن يغريني منظره المشهي قدر ما كانت انظاري تـتبع خطوات سامي , بشعره الحريري الفحمي والذي لا يتجاوز طوله حدود عنقه !
ضرب الباب فجأة وبقوه لم يكن احد منا يتوقعها , انقلبت اجواء السكون والهدوء والدفئ التي تحيط بنا فجأة الى صراخ ..
ولكن صراخ من !! يآآآه يا صغيرتي لو تعلمين الرجفة التي انتابتني وانا أختبئ كعصفور محطم الاجنحة خلف سامي وشققيه الاكبر , مختبئه من من ! من والدي , من اخي! الذي الى الان لا اعلم كيف عرفوا بمكاني هذا !
لازلت اذكر صراخي , بل و وجعي , بل وحتى اثار الضرب التي التصقت بجسدي كوشم يصعب أزالته ,
نعم كان من السهل جد له ان يتلاشى من جسدي مع مرور الوقت , ولكن ماذا عن الوشم الذي تركوه بنفسي !
يااه يا صغيرتي , لو تعلمين الليالي الطوال التي قظيتها بفراشي الصغير مرتعبه , متوجعه , يصعب عليّ النوم
تقلقني حركة بسيطة اتقلب بها من جهة لاخرى وانا في هذا الفراش الخفيف !
مرّت أيام ولازال والدي مصر على ان لا اذهب لمدرستي وكان هذا اقل عقاب يمكن ان يقدمه لفتاة في الثانية عشر من عمرها تقصد منزل ليس فيه سوى طفلة بسنها و شاب !
جربت ذات مرة ان اتوسله , اقبل يداه , ابكي على ركبتيه ! ولكن .. يال الخيبات التي تضرب خافقي ويال الام
الذي اسكتني نهائيآ عن طلب الرحمة والمغفره منه حتى كدت انسى ان هنآك شيء يدعى مدرسه مرة أخرى !
حالفني الحظ للمرة الاولى , في ذاك الصباح الذي قصدت به مديرة المدرسة بيتنا ! يااه كم انا محظوظه
“ المس “ بذاتها تترجى والدي ان يعيدني مرة اخرى الى مدرستي , ولكن هي لم تكن طيبة لتلك الدرجة التي من الممكن ان تجعلها تخاف على مستقبلي أنذاك .. كل ما كان يمهما هي المنافسة التي ستخوضها مدرستنا مع مدارس اخريات , ولانني كنت المتميزة من بين 60 طالبة ترجته ان يعيدني , وعلى كلا .. فأنا لازلت الى الان مدينه لها بالكثير , فبفضلها اخيرا عدت لمدرستي وبمعجزة عظيمة يحققها والدي انذاك !
رفرفي يا أجنحتي , أرقص يا قلبي , تطايري يا جذائلي , أسبحي في بحر السماء يا رهف , ها انت من جديد تسلكين الطريق اليه .. اقصد الى مريم وسامي .. وبحقيقة اوضح .. سامي فقط !
ولكن ...!
أين هي مريم ! رحلتنا خاليه منها تماما كما كانت خاليه مني , فتشت عنها في ساحة المدرسة , برك المياه , حتى الحرم الاداري , لا أثر لها أبدآ .. أخيرآ قررت ان أسال عنها أحد الطالبات واستدركت حينها انها منذ ان تغيبت انا غابت هي الاخرى !
أين انت مريم ! تكالبت علي الافكار السوداويه , خشيت أن يكون سامي قد منعها من المدرسة كما فعل ابي معي , لالا هذا امر محال , سامي شاب مثقف لايمكنني مقارنته بولدي , ولكن لم أذآ تغيبت مريم طوال الايام السابقه !
ربآآه , أني أتضرع الم , برود تام يتخلل الى اقدامي على غفلة , خيبة ما اصابتني , الدروس تمضي ولازالت اراقب ذكرياتنا المخطوطة على سطح مقعدنا “ رحلتنا “
احلام اليقظة , تخيلات , مخاوف , هواجس قاتله تحيط بي طيلة الوقت , اجفلني جرس المدرسة وهو ينبهنا على انتهاء الدوام , كنت اخر من خرجت من الصف , وأنا اودع مقعدنا بنظرات شاحبه مخذوله الملامح ..
عدت كجثه متحركة , غيرت ثيابي , وعدت لاشغال البيت , حيث لم يكن ثمة حس انثوي بهذا البيت سواي ..
لا اخت تخفف مواجعي وتضعني , ولا حضن ام يفهم نبضاتي العليله !
لكن لاتستعجلي الحكم يا صغيرتي , فالحياة افتعلت معي كل ما لديها من مغامرات “ اكشن “ كما يدعون
حيث حدث ما لم تتصوري حدوثه .. او ما لم اكن انا اتصور حدوثه , حين قضيت نهاري الثاني في الدوام
بنسخة مطابقة تماما لليوم الذي سبقه , من حزن , شحوب , خيبة , وايضا لهفة .. لا داعي ان أؤكد انني اعني لفهتي لسامي , فلا بد انك بدأت تفهمين حكايتي , أو بعض منها ..
خرجت بعد ان اجفلني الجرس مرة اخرى من المدرسه , ولكن كانت المفاجأة , وهي ما ام اكن احلم به حتى !
هي انني مشيت .. وبهدوء تام , اراقب تقعر الارض المرصوصة بالحجر الصغير المتعدد الالوان
خيم فوقي ظل ما , على ما اذكر اني صرخت من شدة هرعي لذلك الظل الذي من الطبيبعي ان اتخيله لاحد الجنود الاسرائيليين ..
ولكن .. انها خيبة اخرى , ولكن خيبة جميله , بل رائعه حقآ .. أتتخيلين يا صغيرتي انه كان ظل سامي !
سامي بذاته ! والاشد دهشة من هذا كله انه كان هناك من أجلي , من اجلي انا فقط ..
لا اعلم ان كان بأمكانك تخيل السعادة التي غمرتني عندها , والاحساس الغريب الذي اجتاح عمق احشائي , ارتبكت , تلعثمت , خجلت , تبعثر مظهري وما عدت اعرف بماذا انطق !!
أذكر تماما ما كان يقوله لي , اتتخيلين انني اتذكر نبرته المملوئة بالهفة والخوف بذات الوقت :
- أيا رهفي الصغيرة , فجعتي قلبي خوف .. منذ اكثر من 7 ايام وانا احج حول مدرستك ولا اثر لك !
دهشت , ذهلت , أنبهرت , أحقآ يكلمني أنا !! للتو كنت سألتفت وانظر ان كان احدآ ما يقف خلفي ! لربما كان يحدث أحد اخر غيري ! الا انه اضاف قبل افتعالي لاي حركة :
- لعلك تتسائلين عن سبب وجودي هنا بما ان مريم ليست معي !
أجبته بأرتباك :
- صحيح !
بنظرة يملؤها العطف “ أن اصح التعبير “ أكمل :
- ذلك الوحشي الجاهل حطم اعصابي حين كان يضربك بتلك الوحشية , أتعلمين !
والله لو انه لم يكن والدك لقضيت على امره حينها .
صعقت من هول ما يقوله .. أضاف :
- لم يترك لعيني نومآ , كنت افكر فيما ان كنت ستعيشين بعد الضرب الذي تلقيته
الان بدأت أحكم في نفسي , أستدركتني الخيبة حينما استنتجت انه كان مجرد عطف اصابه جراء الضرب الذي اشبعني اياه والدي !
لكن بطريقة ما كان يقتل استنتاجاتي , يبدلها , يغير مجرى افكاري , يحيرني ..
قال بعد صمت مني لم يتعد الثوان :
- ملامحك , بريئة لدرجة لا يمكن ان يمحيها كبر او عمر
تبادلنا نظرات غريبه , الاعين متقابله , الصمت يسود , الثوان تمضي ..
تجمدنا كتماثيل متقابله , ثم فجأة بدى وكأنه يحاول اخراج شيء ما من جيبه !
كان قلب زجاجي شفاف مملوء بسائل احمر خفيف يمكن ان ترى الاشياء من خلاله , و يطوف على سطح ذلك السائل والذي على ما اظن انه زئبق , قلب اخر ذو لون ابيض , مدون على احد جهاته اسمي “ رهف “
واما الجهة الاخرى منه فكانت تحمل اسمه .. أعني “ سامي “
قدمه لي وهو يعلق سلساله بأصبعه , ثم قال :
- اوصيت الشركة التي تزود مكتبتي بالميداليات الصغيرة ان تصنع هذا القلب خصيصآ لك
ترددت مقدما في اخذه .. تابعت الصمت .. فأضاف هو :
- ارسلوا لي انا ايضا واحد مماثل , بالطبع كما طلبت انا , لعله يكون رابط ابدي بيننا !
يداي المرتجفه كثيرآ , كانت تود لو لها القدره على انتشاله للقلب بسرعه كبيرة من بين يديه ومن ثم ضمه الي احضاني بشدة .. الا انها لم تسعفني لفعل شي ..
اضطر حينها ان يجر كفي ويضع بها القلب ويعاود اغلاق اصابعي واحد تلو الاخر , ومن ثم يقف يتأمل ملامحي بوجهه الشاحب :
- مريم .. متعبه جدآ , ادعي لها يارهف !
سحبت يدي منه بسرعه نتيجة ما افتعلته كلماته المرعبه بي :
- مآآذا !!!! ما الذي حدث لها ؟ أين هي ؟
- منذ فترة وهي في غيبوبة مفاجآة , اصابتها حمى قويه اودت بها الى غيبوبة مفاجأة
هنا انهار بكاء , لا .. لا .. يااربااه ارجوك لا تفعلها هذه المرة معي , ارجوك لاتحرمني من مريم , أشفها يا الله
فلا احد لي بعدها .. هو يحاول أن يقول شيئآ لكن شفتاه كثيرآ ترددت !
وهنا تفرقنا فاجعة أخرى , لا اعلم كيف داهمنا الوقت هكذا , فنسيت ان اخي بشار كان سيأتي ليأخذني الى المنزل بعد انتهاء الدوام .. نسيت كل شيء , لا ابالغ ان قلت اني كدت انسى اسمي حينها !
وحدث ما يجب عليك ان تتوقعيه , وقعننا تحت انظاره للمرة الثانيه , وياليتنا لمرة واحد وقعنا تحت رحمته !
**
بعد الشجار الذي هز الشارع برمته بصوت حاد وضربات عنيفة , توسلت لاخي بشار ان لا يخبر والدي بشيء عما رأه وكنت اقسم اقسم له اني لم اكن على موعد مع سامي واني اتحدث معه للمرة الاولى وانه كان يحدثني عن اخته ليس اكثر !
حذرني واقسم على قتل سامي لو رأه مرة اخرى بصورة قريبة لي او حتى لطريقي , وكان قد شرط علي شرطه القاسي ذاك والذي بقبوله فقط يمكنه ان يخفي على والدي حقيقة ما رآه ..
لربما لو فصحت لك عن شرطه لتهاونتي به , لكنك لا تعلمين كما هو الاخر بأن سلسال الذهب ذاك الذي كان يطلبه مني مقابل صمته امام والدي , كان اكثر من كونه سلسال , هو اثمن ما كان يحتويه دولابي المعمر !
ليس لانه كان مصنوعا من الذهب , وليس لغلاء سعره . بل لانه الذكرى الوحيدة التي تبقت لي من امي
بل اول واخر هداياها لي ..
أتتصورين كم تمزقت بكاءا بعد ان اعطيته اياه !! يآآآه لازلت اذكر رطوبة وسادتي التي تشبعت دموع
ولم تجف حتى نهار يوم اخر ..
وقفت ذاك النهار لساعات طوال اغسل بهآ صحون لا تتعدى اربعة كؤوس و اربعة ملاعق كما الصحون الاربعة التي تماثل عدد افراد منزلنا ..
اتتصورين ! ساعات طوال لا اغسل بها سوى هذا العدد القليل ! ولكنك يا صغيرتي لاتعلمين انه كان المكان الذي انجز به اعظم تخيلاتي , تجتاحني فيه اعظم الافكار واقسى المشاعر والذكريات , فهو بالنسبة لي اكثر من كونه مكان لغسل الصحون !
الا انه من السهلة لتلك الافكار ان تتلاشى وتفجر لاي صوت يتردد لمسامعي كما فعل بها صوت والدي انذاك وهو يقول بصلابة حسه :
- هلا توقفت عن اصدار تلك الاصوات المزعجه ! الا ترين انني اجري مكالمة هاتفية ! سيعتقدون حينها اننا نصدر تلك الاصوات عمدآ لندركهم مدى جوعنا !
ذهلت من قوله ! كما اتصور ذهولك انت ايضا , ولكن نعم يا صغيرتي عليك ان تتقبلي تلك التقاليد والافكار المحدودة التي كانت تسيطر على والدي كما على غيره !
لا اعلم الى الان لم كان والدي متهم جدآ بتلك المكالمة الهاتفيه على غير عادته !
ولم تتاح لي الفرصة لاسأله شيء عنها , كما لم أكن اجرء على فعلها ولكنه طلب مني فجأة ان اسعاده بتوضيب حقائبه كما حقائب اخي محمد ايضآ ,
ستتسائلين حتما لم علي توضيب الحقائب بهذه الصورة المفاجأة , ولكن صدقيني يا صغيرتي حتى انا لم اكن اعلم
شيء عن قرار سفرهم المفاجئ هذا , صعب عليّ سؤالهم كثيرآ , حيث كان يوم جمعه كئيب جدآ بالنسبة لي !
والاصعب من ذلك ان اخي محمد قد سافر مع والدي , ولم يتبقى في هذا البيت المنهك سواي و بشار !
والخوف الذي يسيطري علي وانا بالقرب منه , من قسوته وجبروته وقلبه الخاوي من المشاعر !
الا انني كنت امر بسعاده عابره , كلما رحب بي صباح جديد اتهيئ به للذهاب الى المدرسة بأمل لقاء سامي !
حيث تخيب تأملاتي دائمآ , ولم اعد المح شيء من وجهه او حتى وجه مريم !
الشكوك والضنون باتت حليفتي اينما سرت , أتراه احبني فعلا ! أتراه يخاف علي لتلك الدرجة التي تجعله يقسم على قتل اي شخص يحاول ان يمسني بضر !
حيرني امره كثيرآ .. اتراه عاطفآ , أم عاشقآ , أم انه مجنون !
يآآه ما ابرد هذه الايام , أنها تدغدغ حتى ملامح قلبي , النهار يبدو ازرق اللون , وكأن السماء ستمطر هذا المساء !
تأخر أخي بشار على غير عادته , لم يأتي ليقلني الى المنزل بعد انتهاء الدوام , انتظرته كثيرآ , حتى امست المدرسة خاوية من كل حس ..
قصدت البيت وحيده , والمخاوف تسير خلفي وكأنها تحميني من ثمة امان قد يلتمس قلبي !
يآآه ,كم تبدو بعينيك المدينه غريبه وكئيبة جدآ , حينما يتلمسك الاحساس بالنقص , احساس الخذلان من الجميع
حيث لا صديق يلطف طريقك , ولا اخ يشعرك بالامان , و لا حتى عابر غريب يطلق لك الابتسامه دون سبب !
يآآه يا سامي , ليتك ما غابت عني كل هذا الغياب , يآآه يا الله ليتك ما بليتني بفاجعة ذلك اليوم ..
ذلك اليوم الذي بدى في عيني وكأن الله بعظمته قد تخلى به عني !
ولعلك تفهمين يا صغيرتي ان الله لو تخلى عن احد ما , سيتخلى عنه الجميع , اعذرني يا الله لهول ما اقول , ففاجعة ذلك اليوم تضاهي حجم المصيبة التي يصاب بها المرء لو تخليت انت عنه
ولتعذريني انت ايضا يا صغيرتي , كما فليعذرني كل من سمع حكايتي تلك ,
فليتك رأيت ذلك اليوم كم بدى وجه بشار مصفرآ , وملامحه تلك !
يآآه لازلت اذكر وجهه المذهول , المرتعب , وهو يوجه علي نظراته كقناص يحاول ان يحدد هدف ما
وكان هدفه في تلك اللحظه عيني ..
يآآه ليتني ما رأيتك يا بشار ابدآ , ليتك ما اتيت لتزف لي خبر موتي , واستشهادي , يآآآه يا صغيرتي لو فقط تعلمين ماذا افتعلت بقلبي كلمات بشار تلك .. يااه ليتيك تعليمن هول ما كان سيحيكه لي !
كنت احاول الاقتراب منه بتأني وخوف , خطوة خطوة , وعيني لم تقدر الا على ان تقابل عينيه بالخوف ذاته الذي ينطلق من وجهه
!
أقتربت أكثر , ومن ثم اكثر , ياآآ اللهي .. بشار ينهار ويسقط بكامل طوله وقوته وبنيته القويه , يسقط باكي على ساقيه !
أزددت رعبآ , وقلق , توارى المطر بالسقوط فجأة , فزادني البرد ارتجاف ورعشة :
حاولت ان سأله :
- ببب .. بب .. بشــار ! ممـ .. مــا .. ماذا حدث !!
ياه يا صغيرتي , لازلت اذكر تماما تلك النظرة التي رمقني بها وهو يقول ببرود الحق بكاءه الكثيف :
- ماتا ...
لالا , لابد انني اتوهم , يبدو اخي متعبا , لم اسمعه جديدآ , بلى , حقآ .. انا اتوهم ..
تكالبت علي الشكوك وازدت ارتعاب عاودت القول :
- ماذا ؟
فيرد ببرود وصوته الذي بدى اكثر قوة مما كان عليه قبل قليل :
- ماتا ..
تأكدت حينها من صحة ما سمعته , الهي , لا ارجوك .. ارجوك يا الله , لاتفعلها بي , لاتأخذ مريم و سامي مني ,
لم أخذتهم لا , لا , تالله لا مقدور لي بالعيش دونهم , يا الله .. ماهذا الرعب الذي يعيشني به بشار ..
أتراه ثمل ! .. من مات ! من ! من !
انت هنا مرة اخرى يا سامي , انت هنا في قاع ذاكرتي , ترعبني , لا .. مستحيل , لا بد من انك افتعلت تلك التمثيله امام اخي فقط ليرتاح منك ويكف عن ملاحقتك و ابعادك عني ..
اتصدقين يا صغيرتي ان هذا الحديث الطويل عن سامي تداور في نفسي بأقل من 5 ثوان !
نعم , هذا الرعب الذي عشته , والخوف , والافكار التي راودتني لم تتعد الدقيقة حتى صرخت في وجه بشار :
- مــن .. من مات يا بشار ؟؟ أخبرني بالله عليك ..
صوتي يرتفع , دموعي بدت تنزلق اسرع من المطر ذاك الذي يكاد يغرقنا ..
وهو الاخر “ بشار” بدأ يصرخ بوجهي :
- ماتا .. ماتا .. الا تفهمين !!
قلت لك ماتا ..
اضاف بعد ان كاد البكاء يخفي حسه :
- أبي مات ... أخيك محمد قد مات .. ماتا يا رهف .. ماتا ..
ماذا ! أبي انا ؟ أخي انا ؟ محمد مات ؟ أبي مات ؟ لماذا ؟ متى كيف ؟ كيف لم افكر بهذا ابدا !
يآل ذاك الموت الذي اصابني عندها , كيف تجمدت دموعي ؟ كيف تسلل البرد الي هكذا فجأة ؟
لا اذكر تماما كيف غمي علي حينها وكيف عدت الى البيت ومن الذي كان يغفو بجاني على هذا الفراش النحيف !
عندما رفعت رأسي عن الوساده قليلا , وجدت بشار غارق بنومه قربي , يآآه يا صغيرتي ليتك ادركت وجعي وانا امرر كفي الصغير بين خصيلات شعر وامسح عن جبينه دموعي المتساقطه عليه ..
طفت البيت , هنا كان يجلس ابي , هذه هي سبحته التي لم تكن تفارق يده , وهذا هو معطفه الذي بدى اشبه بحال هذه المدينه , ممزق , مرهق , لا شيء جميل به سوى عطره , انه يشبه عطر والدي كثيرآ , ظممته بلحظه جنونيه الى صدري , آآه عليك ابي , آااه عليك , ليتك ما حرمتني من حضنك ابدآ , ليتني حضيت بحنين تلك اللحظة ولو لمره واحدة , آااه عليك كم اشتاقك , ليتك اتيت الان غاضب وثرت علي بالضرب لتوقظني من هذا الحلم المرعب , ليتني اراك الان لاخذ من ذراعيك معانقه واحده فقط أخبر بها الناس انك تحبني ..
محمد اخي , صوتك وانت تتلو القرأن لازل يتودد مسامعي , اعتدت ان اغفى على حسك الصادر من اسفل الباب كالص يخطف مخاوفي , وذاك الضوء الاحمر المتصدر من غرفتك فجرآ ! كيف سأعتاد على منظره الاسود الان !!
لأجل من سأعد طعام لذيذ مرة اخرى ؟
من سيدافع عني امام انتقادات بشار ويقول ان طعامي لذيذ جدآ ؟
يآآه عليك يا اخي , كيف رحلت هكذا , كيف تركتني بهدوء وخفة , اودعتني بنظره غريبه , كانت المرة الاولى والاخيرة التي تمسح بها رأسي بحنين يدك وتوصيني ان اعتني بنفسي ,يااه كم اموت وجعآ ..
لم يعد لي احد , لا احد , فحتى بشار الذي بات طيبا معي لمدة يومين , عاد لطبعه , لغضبه , لانفعالته وقسوته
وعدت انا لعادة البكاء التي باتت قرينتي منذ رحيل والدتي , ما ابعدني عن تلك العاده هو وجود سامي ومريم
وها هم في غياب مجهول كما غيرهم , وانا لا رفيق لي سوى دمعه !
لا داعي يا صغيرتي ان اقص عليك ايامي التي اعقبت وفاة ابي واخي , لعلك تعلمين ان فتاة مثلي لا يمكنها الا ان تخضع لكل مطالب بشار القاسي , فتخاف وتتردد بحرف تحاول ان تنطق به ,
ولعلي نسيت ايضا ان اخبرك , اننا اخيرا عرفنا بأن ابي واخي ماتا بحادث ولم يقتلا كما كنت اظن !
***
كان يوم عاصف مترب على غير عادته , حيث استيقظت بدوار يكاد يفجر رأسي المآ , شعرت أن شيء ما سيحدث هذا الصباح , ومع ذلك لم اتردد ابدا في الذهاب الى المدرسة ,
كنت على وشك الخروج , فأصر بشار على ان اغسل له قميصه المتسخ , فهو فجأة قرر ان يترك دولاب كامل من الاقمصة ويلح كثيرا على ارتداء المتسخ منها فقط !
تابعت طريقي بعد ان اقنعته ان يرتدي شيء اخر من دولابه , الا انني ما ان تحركت خطوة الا وبه يجر يدي من ويبرحني ضربآ , حتى بدت جوانب وجهي كلها عباره عن احمرار ممزوج بلون ازرق ,
لا اذكر كيف خطر لي بعد ساعه , ان احمل حقيبتي واملؤها بأثمن الذكريات , واضعها على ظهري وانطلق بهدوء الى المدرسة !
يآآه ما اقسى ذلك الطريق الذي اتممته بدموع ماطره بقوه , والى الان لا اكر كيف لمحت بعيني الممتلأتا بالدموع وجه سامي , ذاك الذي يبدو بحال اسوء من حالي ..
آآه , على تلك النبضه التي ضربت قلبي عندها , انت هنا يا سامي , هنا من جديد , تقف امامي على بعد لا يتجاوز العشرة امتار , انت هنا لاجلي مرة اخرى , أااه عليك أين تتركني طوال هذه الفترة !
أااه على قلبك المولع بك ,وآآه على عذابك ذاك الذي تبثه بقلبي كلما اخذك الغياب الى زوايا مجهولة !
ولكن ما الذي يريده سامي وكيف جاء ؟ لم تلك النظره الممتلئه بالدموع ! الهي .. الهي .. الهي
لم اعد اطيق تلك الطرق , وتلك النظرات وتلك الوقفه التي ما تجمدت امامي الا وهي حاملة معها خبر فاجع ..!
يآآآه يا صغيرتي , فعلا تلك الوقفه فجعت قلبي , بل وحياتي , بل هي من غيرتني جذريآ , لا .. لم اتغير ابدا , لكنها هي من غيرت جذور حياتي و ظروفي كلها ... أااه ليتك ما اتيت انت الاخر يا سامي !
وما فجعتني بفعلتك تلك !
فلا اعلم كيف راودني الخوف ان اخطي تلك الخطوة بأتجاهه ولا اعلم كيف بدأ يقترب هو الاخر مني ,
اقدامنا تقصد طريق الاخر , تقابلنا بالاوجه ذاتها , وكأن حرب ما حلت بأجسادنا , اقترب هو مسرع
وضمني اليه بقوه , ثم بدأ يبك ويبك ويبك !
- ســ .. سـ .. سأمي !
ذراعيّ تحاول ضمه , ولكن ! ترددت كثيرآ , ارتبكت ماعدت اعرف ما الذي يحدث !
ابعدني قليلا عن احضانه ثم نظر الي وهو يجهش بالبكاء :
- ماتت .. مريم ماتت .. لقد ماتت يارهف !
- ربآآه , لاآآآآآآآآآآآآ ....
اذكر ان صوت تلك الصرخه زلزل سور المدرسه وكل ما يجاورها من بيوت !
أه عليك , انت الاخر لم يتبقى لك سوى أخ ! انت الاخر خسرت مسبقا والديك والان تخسر شقيقتك الاصغر
أه , آآآآه عليك ..
لم يكن هو يعلم شيئآ عن موت والدي واخي محمد , فكل ما دار بيننا ذلك اليوم من نقاش كان حول وفاة مريم
كان مستمرآ هو بالبكاء على كتفي , كما نسيت انا كل شيء ورحت الفض وجعي بين يديه بهيئة دموع !
فما بيدنا ان نفعله بعد ان نلتقيهم سوى البكاء والبكاء والبكاء !
اليس هو الوحيد الذي يعوضنا عن بوح ما اجتاحنا من وجع بمغيبهم ! اليس هو المتنفس الوحيد لارواحنا !
عناق لدقائق معدودة , وبكاء نتبادل به دفئ حنين مكتوم بقلوبنا لمده لا يحصيها زمن , مدة اهلكتنا وانهكتنا شجن ..
وللمرة الاولى كان يهمس لي بحرة ولهفة حسه :
- أحبك .. احبك رهف .. احبك جدآ .. كثيرآ
ثمة صوت يعكر علي صفو ونقاء تلك الكلمات ! اللهي ! الجيش الاسرائيلي يقتحم حارتنا بدباباته الفخمة التي تملئ شارعنا الضيق ذاك ..
وبشار ! كيف وصل بشار الى هنا !
اللهي , لا , كيف لن يخطر لي انه من الممكن ان يلحق بي ! بل من المؤكد ايضآ !
ماهذا المنظر الذي يراني به !
أنا , وسامي , واحضاننا تلك ! لا يا الله ! لا تفعلها بي ! لا تؤكد له اني فتاة سيئة !
يارباه , وحدك تعلم ان الصدفة هي من كانت ترمي بسامي امامي وانني لم اواعده ذات يوم ..
- رهـ ـ ـ ـ ـ ـف !!!!!!
بشار يزلزل الاماكن بصراخه ذاك .... الجيش الاسرائيلي يرتبك لما يحدث حوله !
سامي أخيرآ لمح شيئآ من بشار , وكان قد تهيئ لشجار ما !
أنه يخفيني خلف ظهره , محاول ان ينقذني من ضرب اعتدت عليه !
وبينما يقترب بشار بسرعته تلك ! كنت اتوسل سامي :
- بالله عليك ابتعد , اهرب هيا , انا خائفه جدآ , ارجوك ان ترحل وبسرعه !
- كفي عن الثرثرة ! لن اتركك لرحمة هذا الوحش الهمجي !
دفعني بعد ان اقترب بشار منا , فسار باتجاهه وبدأ العراك ! ولكن اي عراك هو ذاك !
الجيش الاسرائيلي يلتفت الينا ! بل انه في حيرة من امرنا !
ايظن اننا نفتعل هذا العراك لاجل خطة ارهابيه ! امن المعقول ان يفكر بأننا هنا من اجل التخلص منهم ليس الا !
احد العسكريين يقترب ! بمنظره العنيف يهدد سامي وبشار ! :
- توقفا ! فورا ! والا اطلقت النار عليكما !
ولكن اي صوت هو بأمكانه ان يتردد لمسامع شخص يثور غيرة و غضب ! وبالاخص أن كان هذا الشخص عربيآ شرقي !
الرعب يحيط بي وانا اتوسلهما :
- سامي .. بشار .. بالله عليكما ! توقفا ! توقفا قبل ان يوقف الله رحمته بنا !
الجندي يزداد غضبآ ! انه يوجه قناصه نحو بشار تارة ونحو سامي تارة اخرى !
وانا احوم متنقله بينهما ! احاول تهديئهم ولكن دون جدوى !
الجندي يحرك اصبعه ليطلق النار ! اللهي ! لا ... انه يحاول قتل بشار ..
ركضت مسرعة لاحميه . لاقف امام الرصاصة التي توجه نحوه , لانقذه من الموت !
آآآآه , وجهي يصبغ تماما بالدماء , بشار لازال واقف والرصاصات تأوى الى جسده واحده تلو الاخرى
يآآه , لازل صوتها يصدع بأذني , اثنا عشر رصاصة لازالت عالقه هناك , على حائط ذاكرتي
كيف أوت اليك ! كيف حرمتني منك ! كيف خطفت روحك بتلك السلاسه !
اي نظره كانت تلك التي رمقتني بها وانت على اعتاب الموت ! وجهك يزداد بياض مع كل رصاصة تخترق جسدك , وفمك , ذاك الفم الاحمر الصغير الذي كان يزداد وسعة شيء فشيء !
وتلك الحجارة المتدحرجة من بين اصابعك , كيف انتهى كل شيء بسرعة البرق !
وثم من جرني بتلك السرعة التي حرمتني من انقاذك من الموت !
لم اعد ارى شيء ابدآ , فدمائك التي ملأت وجهي لم تتيح لي فرصة لارى ما حدث بعدها !
ولكن ثمة شخص ما يحملني من ثوبي المدرسي ويركض بي الى مكان ما !
لا اذكر هل كان بالفعل يركض ! ام انه يطير !
رمى بي عند مقدمة حاره اخرى ! كان سامي , بوجهه الذي الى الان اعجز عن تفسيره ,
لازلت اذكر كلماته التي اكلفته الكثير قبل تنطق :
- ابتعدي يارهف .. ابتعدي من هنا .. اركضي هيآ , فليضيعوا دربك , لا تتركيهم يمسكون بك هيا ابتعدي !
كان يصدمني كما صدمني موت بشار وصدمني ما حدث ذاك اليوم !
- سامي .. اتتركني !
قال وهو يخطو خطاه الى الخلف مرتجف و يصعب عليه التنفس !
- احبك .. احبك يارهف .. كثيرآ .. لاتنسيني .. احبك ..
ثم تلاشى واختفى من امامي بسرعه لا يمكن لاحد ان يتصورها حتى !
اللهي اليس هذا بكثير ! كثير جدآ جدآ ! اليس هذا فوق طاقة تحمل البشر ! اي عذاب هو ذاك الذي اذقتني اياه بعمر لايزال طفولي ! واي ضمير هو ذاك ! الذي غرز سكاكينه بقلبي وجعآ وندمآ .. اكنت السبب في موت بشار ! ام جنى هو علي بالقتل فمات قبلي !
يا الله , قلبي ما عاد قادرآ على كل هذا , اني موت , واموت واموت .. ما الذي سيحدث لي !
ثمة بكاء يحجب علي الهواء انني احتضر ,, رحماك يا الله .. رحماك بي !!
***
لعلك تتسائلين الان ياصغيرتي عما سيحدث لي بعدها , ولكني لا اذكر تماما كيف وصلت لذلك الرجل الاسرائيلي
الذي كان يتقن لهجتنا العربيه اكثر من العربي ذاته !
لم يكن عسكري , وهو بصورة اوضح لايمت للسياسة بأية صله , كان مجرد وحش يصنع من نفسه اله تنقية الشوارع من المتسكعين والمتسولين ومن ليس لديهم احد !
وما اوصلنه اليه ذاك اليوم , هو غبائي ! او خوفي ! او توهمي انه من الممكن ان يكون عربي ذو رحمه !
قصصت له حكاية ذاك اليوم البشع , فقال ان حارتنا تلك ستدمر بعد ساعات قليلة , لان الجيش الاسرائيلي كان قد عثر على خلايا خفيه من المجاهدين الفلسطينيين بها !
وعرض علي أخذي لمنزلهم لغاية ان يتبين لي قريب سواء كان خال او عم !
ولكني وكما لا تعلمين يا صغيرتي , لم يكن لي هناك ثمة قريب او دم يربطني بأحد !
لان والدي كان من اصول عراقيه , بل هو كان عراقي حقآ , استقر بفلسطين بعد ان اتى به القدر الى هنا ليتزوج من امي الفلسطينية التي كانت قد فقدت عائلتها كلها بكوارث الحرب والتدمير ثم لتموت هي الاخرى مقتوله بعد ان انجبتني ب خمس سنوات !
ورغم ذلك , لم يكن بيدي الا ان اقبل عرضه ذاك واركب معه بحافلته العتيقه , والتي تضم الاف الاشخاص الذين يماثلون حالتي المرهقة , ولشدة الرعب الذي كنت به , لم يخطر ببالي ان اسال نفسي اين سيأخذ هذا الرجل بكل هذا العدد الهائل من الاطفال ! اتراه سيتبناهم جميعا !
بل جلست على نافذة الحافلة ببكاء صامت لا يصدر ثمة صوت , مرتجفه جدآ , واطياف بشار تحيط بي كل ما اغمضت لي جفن !
كنت اعاني الموت كثيرآ , الم يحدث لاحد من قبل ان يعاني الموت ! كأن تمر عليه اطياف ذكريات تلدغ قلبه , تبث به السكرات , فلا ترحمه ابدا , فلا هي تأخذ بروحه وتنهي حياته , ولا هي تتركه ينسى ويعيش !
على ما يبدو ان منزل ذلك الرجل كان بعيدآ جدآ , هههه اتتصورين الغباء الذي كنت به وانا اردد تلك الكلمات
بعد ان قضيت ساعات في تلك الحافله !
تلك التي منها ابتدأت حكايتي...