كان الشاعر الراحل "أمل دنقل" فقيرا، لايملك من الدنيا سوى شعره، بينما كانت "عبلة الرويني" من أسرة ثرية. صارحها أمل يوما:
- دنقل: إنني لن أستطيع الزواج بك..!
- عبلة الرويني: سنتزوج
- دنقل: ستشقين معي، فأنا لا أملك قوت يومي
- عبلة: سأشقى بدونك، وأنا أملك قوت غدي..!
تزوجا...، وكان أصدق وأجمل ما قاله "أمل " لزوجته "عبلة":
-"إنني لا أبحث فيك عن الزهو الإجتماعي، ولا عن المتعة السريعة العابرة. ولكني أريد علاقة أكون فيها كما لو كنت جالسا مع نفسي في غرفة مغلقة".
-"حقا هي أشياء لا تشترى ..!
وإليكم الحكايه كاملة، كما تم نشرها على لسان الأستاذة عبلة الروينى.
بداية اللقاء بين عبلة وأمل دنقل، كان عام 1975م، حيث التقته في مقهى (ريش) في بداية عملها في جريدة "الأخبار"، لإجراء حوار صحفي، حذرها البعض منه باعتبار أنه "عصبي وسليط اللسان"، كما حذرها أحد المحررين السياسيين في الجريدة، من أنها ستجد صعوبة في نشر اللقاء معه، لأنه شاعر يساري.
وتضيف "عبلة":
- "ذقت الأمرين للعثور عليه، كنت أذهب إلى المقهى الذى يرتاده، لكنه لا يأتي إلا ليلا، كما أخبرني الجرسون، واضطررت لترك رسالة، يبدو أن رقتها جعلته يتصل بي بالأخبار ، على غير عادة " أمل"، فقد كان حدثا كبيرا، وأعطاني موعدا في دار الأدباء بالقصر العيني، ولم أكن أعرف أمل شخصيا، لكنه تأخر إلى أن جاء، وجلست بجواره في الصفوف الأخيرة، بعد أن طلب لى فنجانا من القهوة، كان حوارا ممتعا، حكى فيه عن ذكرياته وطفولته والشعر والرفض".
وأشارت الرويني في كتابها، إلى أن هذا الحوار كان أول حديث لأمل دنقل وآخر حوار له، حيث كان على قائمة الممنوعين إلى جانب أن"رئيس القسم الأدبي" بجريدة "الأخبار"، كان يشطب اسم أمل من أي خبر. وتقول الرويني، فى كتابها أن أمل دنقل فى لقائهما الرابع، قال لها:
-"يجب أن تعلمى أنك لن تكوني أكثر من صديقة". فرددت: "أولا لست صديقتك، ولن أقبل لأحد أن يحدد مشاعري وعلاقتي بالآخرين".
وتضيف:
-"كان مغرما بإهدائي كتب الشعر ، مثل أعمال سعدى يوسف وبدر شاكر السياب، وكان يصفني بالمشاكسة في إهداء الكتب لي، كان خطه جميلا، تكلم معي عن كيمياء "استقبال الشعر"، كنا في خناقات دائما، لكن في اليوم الثاني يكون الصفاء".
وتضيف: "صارت علاقة حب بيننا، والكثيرون كانوا يتحاشون التعامل مع أمل دنقل لحدته".
عبلة الروينى، التى عايشت الشاعر المتمرد أمل دنقل، قالت أنه يحمل كبرياء الفرسان، وعزة نفس كبيرة، ورغم غلظته، كان رقيق القلب، ورغم فقره كان أغنى الأغنياء بكرامته، فهو رفض العلاج على نفقة الدولة، وكان يرفض عزومة أي أحد له.
وتتذكر الروينى بعد زواجهما، أنها ذهبت وأمل دنقل وستة من الضيوف إلى أحد المطاعم، وجاءت فاتورة العشاء أكثر مما فى جيب أمل، وأصيبت هى بالارتباك، فرد أمل عليها هامسا أن العالم لم ينهر، وكتب في ورقة إلى الجرسون:" إن هؤلاء ضيوفى، وفى جيبى 60 جنيها، والفاتورة بلغت ثمانين. هل تسمح أن تأخذهم حتى أمر غدا، ورفض أمل مساهمة أحد من الضيوف، وما كان من الجرسون إلا أن ابتسم، وأوصل أمل وضيوفه حتى الباب تقديرا له.
لم تكن عبلة تدرك أن ثمة فقرا يصل بشاعر إلى حد الاستدانة، أو أن هناك رجلا لا يستطيع امتلاك ثمن كوب من الشاي أو فنجان من القهوة، لقد كان "العالم البرجوازي" الذي قدمت منه يحكم عيونها، فقد كانت تنتمي إلى منزل هادئ، كما أن طفولتها أتت من أيدي الراهبات الفرنسيات، وعلى الرغم من ذلك، كانت تملك قلبا مستعدا لأن يبيع العالم كله من أجل هذا الشاعر الذي لا يملك سوى بنطال واحد أسود ممزق!
شيئا فشيئا، أقنعها أمل بالتخلي عن "منطقها البرجوازي"، وكان مقهى ريش هو مكان التقائهما الدائم، فضلا عن أنه أجمل وأرق الأماكن الصالحة لالتقاء عاشقين، فقد كان ريش ضرورة لابد منها، ففيه كان أمل يؤجل دفع الحساب لحين توفر النقود معه!
تقول عبلة: كنت أمتلك الكثير من الأشياء، والكثير من التدليل للابنة الوحيدة في الأسرة، وكان أمل ينتمي إلى الريح والاضطراب، فرغم عزوة عائلته وقوتها وثرائها، إلا أنه كان دائما لا ينتمي إلا لنفسه، لقد كان أمل ينتمي إلى الشوارع والأزقة والطرقات، حتى إنه ذكر يوما أن تاريخ الأرصفة هو تاريخه الشخصي.
وتستكمل: "منذ معرفتي بأمل، سقط عندي كل الزيف البرجوازي، ولم أعد أرى سوى عالم واحد، هو عالم أمل دنقل، الذي خاصمني الكثير من الأصدقاء لعلاقتي به، بل حذرني الكثيرون من أصدقائه وأصدقائي من الاستمرار في هذه العلاقة خوفا على سمعتي من رجل لاسمعة له".
وتقول عبلة: "بالتحديد، بعد مضي تسعة أشهر على زواجنا، ظهر ورم صغير في جسد أمل يتزايد يوما بعد يوم. قال الطبيب بعد ثلاثة أيام فقط من ظهور الورم، إنه السرطان. ظللنا صامتين نخشى من ترديد اسم المرض، وانتابتني حالة من الرقة البالغة في التعامل مع أمل. ربما هو الخوف، نهرني أمل عن تلك"الرومانسية في التعامل"، مؤكدا أن أمامنا موقفا صعبا، وراح يفكر في مواجهة الغد، كما حدد الطبيب موعدا لإجراء الجراحة، ولم نكن نملك مليما واحدا، وأجر الطبيب ثلاثمائة جنيه، هذا إلى جانب أجرة حجز المستشفى وثمن الدواء وأشياء أخرى. إنها المرة الأولى التي نعرف فيها حقيقة قسوة الفقر".
وتضيف زوجة دنقل: "جرت العملية، لكن عام 1980م، وبعد خمسة أشهر من الجراحة الأولى ظهر ورم سرطاني آخر، وكان ذلك إيذانا بالخطر، حتى جاء فبراير1982 ليقول "الطبيب الجراح" لأمل في حدة قاسية: "المرض منتشر في جسدك منذ أكثر من سنة، وأنت لا تأتي لمتابعة الكشف، تذكر أنك مريض بالسرطان، وأن الأمر أكثر خطورة من أن تتعامل معه بمنطق الشاعر، لقد تجاوز المرض الجراحة، ولابد من ذهابك في الغد إلى معهد السرطان".
وتروى عبلة ما حدث يومها: انفجرت باكية بينما ظل أمل صامتا يقتله الحزن الشديد، حتى فاجأني بسؤال غير متوقع :
- لماذا لا يريدني الطبيب أن أتعامل مع السرطان كشاعر؟
كانت الغرفة رقم 8 في الدور السابع على موعد معنا، فقد صارت منذ اليوم سكننا الدائم، بل هي أول منزل حقيقي تمتد فيه إقامتنا لأكثر من سنة ونصف السنة، حتى رحل في 21 مايو 1983م.