قال الحسن وقتادة نزلت هذه الآية - وهي قوله: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} - في اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وفي قولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} ، وقال مجاهد: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، وقال ابن عباس في قوله: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} وذلك أن اليهود قالوا: إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل اللّه على محمد: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} الآية.
وقال الضحاك: قالوا ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللّه: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} فيهم، وقيل: نزلت في ذم التمادح والتزكية؛ وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب، وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع رجلاً يثني على رجل فقال: (ويحك قطعت عنق صاحبك ثم قال: إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على اللّه أحداً)، وروى ابن مردويه عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار، وقال الإمام أحمد عن معبد الجهني قال: كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: وكان قلما يكاد يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (من يرد اللّه به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح) وقال ابن جرير قال عبد اللّه بن مسعود: إن الرجل ليغدوا بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا نفعا فيقول له إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله ثم قرأ: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} الآية ولهذا قال تعالى: { بل اللّه يزكي من يشاء} أي المرجع في ذلك إلى اللّه عزَّ وجلَّ لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، ثم قال تعالى: { ولا يظلمون فتيلاً} أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل، قال ابن عباس: هو ما يكون في شق النواة.
وقوله تعالى: { انظر كيف يفترون على اللّه الكذب} أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وقولهم: { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} ، وقولهم: { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} ، واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم اللّه أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} الآية، ثم قال: { وكفى به إثما مبيناً} أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً.
وقوله: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} . أما الجبت فقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد. وعن ابن عباس وأبي العالية: الجبت الشيطان، وعنه: الجبت الأصنام. وعن مجاهد: الجبت كعب بن الأشرف. وقال الجوهري في كتاب الصحاح: الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث: (الطيرة والعيافة والطَرقُ من الجبت) وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا.
وقوله تعالى: { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب اللّه الذي بأيديهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل اللّه { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً} الآية. وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، قال: فنزلت: { إن شانئك هو الأبتر} ونزل: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} إلى قوله عزَّ وجلَّ { وآتيناهم ملكاً عظيماً} ، وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى اللّه شرهم، { ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللّه المؤمنين القتال وكان اللّه قوياً عزيزاً} .