بلغ العجبُ بي مبلغَهُ من بعض كتابات الأدباء (مصطفى الرافعي ، عباس العقاد ، إبراهيم المازني ، الـ ...) مما ضمنوه نقدهم لبعض الأدباء من سخريةٍ لا تليقُ ، ووضعٍ من قامة المنقود الأدبية ، والتلفظ بألفاظٍ أصدق وصف لها : (سوقية لا يتلفظ بها إلا الرعاع) !
سمي الأدبُ أدبًا لارتقاء ألفاظه ، وسمو معانيه ، وإن المطلع على بعض ما كتبه أولئك ، لا يجدُ فرقًا بينها وبين شجار العامة وسخريتهم بين الأزقة وأمام الحوانيت !
من المواقف التي لن أنساها حتى يواريني صفيح الملحد :
في ليلةٍ من آخر ليالي شهر صفر ، وتحديدًا 27/2/1427 هـــ ، دلف إلى المنزل توأم الروح –غفر الله له ، ورزقه الفردوس الأعلى برحمته- وعندما رأيته ، قلتُ له : لعلكَ تذهبُ وتُحْضرُ لنا عشاءً نتناوله معًا !
فأجابني قائلاً : إني على عجالةٍ من أمري ، فاعذرني !
ثم صمتَ قليلًا ، ومسَّدَ لحيته الخفيفة جدًّا ، ونظر إلى السماء ، قليلًا ، ثم ابتسم ، وقال : على الرحب والسعة ، لكَ ذلك يا أبا فتاين .
ثم مضى ، وأتى بعشاءٍ تناولناه معًا ، ثم عانقني ، وودعني ، ومضى ، وسافر سفرًا لم يَؤبْ منه !
لم يغمض له جفنٌ من الحنين الذي طما طوفانه ، وجافى مَضْجِعَهُ جنباه –كأنه على شجر القتاد يتقلبُ- فاتجه إلى باحة المنزل ، وأطال النظر إلى النجوم والبدر المكتمل ، وعند تباشير الفجر الأولى مضى إلى القرية ، وجال في أنحائها مستعيدًا أيام طفولته ، فعند هذا المنزل الطيني كان يرقب المارة بخوف وخشيةٍ ، ويسلِّمُ على من يمرُّ به وقدمٌ داخل المنزل وقدمٌ في الشارع -ليسهل عليه الفرار إلى الداخل إن اقترب منه أحد- ، وهنا كان يجلس على المطصبة مع أترابه ليتجاذبوا أطراف الحديث ، وتحت الشجرة الضخمة كان يتذرع التفيُّؤَ تحتها من هجير الشمس ، لينظر إلى الصبية التي تلعب أمام منزلها ، وهذا حانوتُ تاجر الحلوى ، الذي يشتري منه مثلجاتٍ ، ويختلسُ –على غفلةٍ منه- قطعة حلوى ، أو لبانٍ ، أو... ، وهذا ، وهذا ...
عندما تعالى الضحى مضى إلى الأثلة في طرف القرية ، وطاف حولها قليلًا ، وجال في مغاني صباه ، مستعيدًا ذكراها ، ثم مضى إلى البيت الطيني المقفر من أهله وروَّاده ، ودلف إلى باحته ، وأجال ناظره فيه ، ثم قال : أيها الطللُ العزيزُ : هأنذا أعوجُ عليكَ وحيدًا ، بعدما أوهن المتلونان قوتي ، وأخذا شبابي ، وألانا قناتي ، وأثقلا كاهلي ، ومضيا بأجمل عهد ، وأنقى قلبٍ ، وأرق نسمتين !
ثم اتجه إلى نافذة الغرفة المطلة على الباحة ، ووقف أمامها مليًّا ، يتذكر حينما كان يتحدثُ أسفلها مع سارة ، ويمضيان خلف أخيلتهما وأمانيهما ، وحين يعدو خلفها ، فتهبط من النافذة ، وتتجه إلى الغرفة من جديد لتهبط من النافذة مرة أخرى –ويتبادلان الأدوار إن ضرب ظهرها بكفه- ، ثم قال : هل يبزغ علينا قمر اللقاء ، وتشرق شمس الوصل ، وينجاب ليل النأي ، ويضيء صبح الحب علينا تحت سقفٍ واحدٍ سعيدين أبد الآباد ؟!
ثم جلس تحتها ومد يده فوصلت درفتها ، وكان فيما مضى يشعر أنه يهبط من شامخ حين يهبط منها ، ثم نهض ومضى إلى الدرج المؤدي إلى السطح وصعدها ، وأجال ناظره في السطح الصغير الذي كان فيما مضى يشعر بالتعب قبل أن يصل نهايته .
اتجه إلى حائطه القصير ، وأطل منه على الأزقة الضيقة ، والبيوت المتلاصقة ، والمزارع المهجورة ، ثم نزل واتجه إلى حوض النخلة الذي كاد يندرس رسمه ، والذي كان يلعب عنده مع سارة ، فيأخذان خوصتين ، أو بسرتين صغيرتين مما سقط من العذوق ويقذفانها في ماء الحوض ، ويحركان الماء بأيديهما لينظرا أيهما تسبق الأخرى ، وأخذ عودًا ، ونكتَ به الأرضَ ، ثم قال : لاتنتظريني على شاطئ البحر كما التقينا بعدما شببنا ، ولا تأتي إلى الأثلة عند النبع في مغنى الصبا ، ولا تنتظري أن تهمي غيوم الحب على حقولنا القاحلة ، ولا تنتظري نورس الوصل أن يرفرف فوقنا مؤذنًا باللقاء ، فما عاد لنا في هذه الفانية لقاء ، ولعل الرحمن الرحيم ادخر لنا اللقاء الأعظم ، والوصل الذي لا يعقبه فراق ، في جنةٍ عرضها السموات والأرض ، أما في هذه الفانية ، فقد مضت أجمل العهود ، وأحلى الليالي ، وأرق نسمتين ، وأمسى قلبي مسرحًا لأظعان الفراق ، وأطلالًا لغربان البين ، ومسرىً لأعاصير النأي ، ولم يبق من الشمس إلا أشعة أصيلها التي لن تلبث حتى تُؤْذِنَ بالأفول ، فإذا أفلت حياتي مع أشعة شمس الغروب ، وأدرج اسمي في سجل الراحلين ، فارقبي الأكف وهي تنزلني إلى جدثي ، وتحثو التراب ، ثم ارفعي أكفَّ الإخلاص ، واسألي اللهَ لي الرحمة والغفران ، فهذا غايةُ ما أرجوهُ ، وآملهُ منكِ !
ثم نهض واتجه إلى الباب ، وهو يقول : الشَّبَابُ جَنَّةُ العُمْرِ ، والصِّبَا فِرْدَوْسُهُ !
رأى حرف الصاد والراء والسين والباء ، فخال في يمينه صارمًا لا يفل ، وفي شماله رمحًا يخترق ، وفي جعبته سهمًا يشكُّ ، و بين يديه بركانًا يحرقُ ويحيل ما يمر به يبابًا ، فنفخ الشيطان في منخريه ، فقال : من يعدلني ، أو يستطيع الوقوف أمامي وأنا الزلازل المدمرة ، والبراكين المحرقة ، والبحار الزخارة !
ترى عينيه تنتقلان بسرعة البرق إلى كل حركة ، وسمعه مصيخٌ لكل حرفٍ ، فلا يعزبُ عن فهمه -بنظره- مغزى كل حركة وكلمة ، فاحذر كي لا يسمع غطيطكَ وأنت نائم ، فيعلم ما تراه في منامك ، فإنه يعلم مغزاكَ من الحديث ، والصمت ، والوجوم ، والسرور ، ويعلم ما تفكر به ، وما أشجاك ، وأما أسعدك !
طفلي : الكلبُ النبَّاحُ ، يشعر بالغريزة والفطرة أنه ليس ندًّا لليث ، فلا ينبح بل يفر إلى جحره –مؤثرًا السلامة والنجاة- ، وأنتَ مصابٌ بداء العظمة – فلا فطرة ولا غريزة- فتأتي للهائج الخضم بغصنٍ جافٍّ ، وللبركان بنعلٍ من جلدٍ ، ولليث بعصا حلوى ، وتخال بكَ القدرة على تسكين الخضم ، وإخماد البركان ، وهزيمة الليث !
طفلي : أنتَ كصردٍ هاجم نسرًا ، وبعوضةٍ ولجتْ غيلَ هزبرٍ ، وذي شدقٍ معوَّجٍ يقاولُ بليغًا ، فاعرف قدرك ، ولا تتعرض لما لا طاقة لكَ به ، وامضِ إلى حوانيت الحلوى فابتع منها ما تتوقُ إليه نفسكَ !
• القطار يسير في سكته غير آبه لحجر ، أو حيوان يعترض سبيله ، فكن على حذر ، واجتنب مواطن الهلكة !
1442 هـــ /4/11 ــــــ 5:39 م .
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 07-01-2021 في 05:38 AM.
لم أشأ العودة إلى تلك البيداء المقفرة ، ولكنهم –كما قال ابن عباد- فأبتْ تغلبٌ علي اعتزالي- ، وقد بادرني أحدهم بما يسوء ، وأرسل يرعدُ معتدًّا باللون الأحمر وأزارير لوحة التحكم ، فكانتْ هذه :
قومٌ تجلببوا جلباب الأدب ، ادَّعوا حبه والحرص عليه ، وصونه من الدخلاء العابثين ببيانه ! المرنِّقين نميره ! المغتالين عنادله ! المشوهين رواءه ! وهم –وايم الله- لم يتجاوزوا النية والحديث فقط ! أما الحقيقة فهي اللهاث خلف الإناث وتبجيل نصوصهن –التي لو سمعها النابغة أو أحد رواد سوق عكاظ- لثنى عنان جواده ، وقال : أتقادم بي العهد فالتبستْ علي السبل ؟! أم أنني في دار أعاجم ؟! ويحي مالذي حل بي ؟!
يتشدقون بأفواه تتسع لما بين المشرقين بأن غايتهم من المنتدى الأدب والنهوض به ، وهم من قام على نحره ، وسعى في وأده ! وأقام اللكنة والركاكة على أنقاض عروبته ورصانته !
سبحان الله إلى أن يبعث النابغة وامرؤ القيس وطرفة وزهير وعنترة وبشر و... ! يجعلون ما وضعوه بأعلى الأقسام وحيًا لا يجبُ تجاوزه ولا الإخلال ببعض ما فيه وهو على هذا على البعض دون البعض الآخر ، مع أني لا أحفلُ بما أوردوه وما وضعوه وليفعلوا ما شاؤوا !
عفوًا ! عفوًا ! عفوًا ! عزب عني لبضع لحظاتٍ أن صروحهم الفردوس وأنها النعيم الدنيوي قبل النعيم الأخروي الدائم ، وأنه لا يجبُ علينا إلا الامتثال والانقياد ! وإلا خسرنا أحد النعيمين !
لا أحفلُ والله لو كان من بادر بما يسوء جديرٌ بأن أحتمل هفوته ، وأذخرها لذلك اليوم ، ولكنه اتخذ (ما أريكم إلا ما أرى) و (إن هو إلا وحيٌ يوحى) يرى بأنفه ، ويتحدث بحاجبه ، ويزن بمفرقه !
أي بني : وقِّرْ من عمره في الأدب يفوق سنيَّ عمركَ كلها !
وقِّرْ من يقضي من ساعات اليوم بين الكتب ما يعدل ما تقضيه في النوم والأكل والشرب والمسامرة !
وقِّرْ من لا تفقه ما يفقه ، ولا تعي ما يعي ! فمن الغضاضة والفجاجة والفظاظة التحدث بما يفوق استيعابكَ ! والزمجرة بألفاظٍ لا تعي معناها ! وأنتَ على علمٍ بأن الهزبر ما زال في عرينه ، مُبرزًا مخالبه ، مُكشِّرًا عن أنيابه ، ولا قدرة لكَ –ولا من معكَ- على مجابهته ! فلا تلوِّحْ بحيلة الضعفة العاجزين –لوحة أزارير التحكم- !
أي بني : لا يعني الصمتُ الضعفَ ! ولا التواضع الخنوع وجبن الجنان ! وقد قصدتم بحرًا زخَّارًا تقذفُ أمواجهُ الزَّبَدَا ! حمل الحيتان والقروش والسفن وابتلع ما ابتلع فهل سيحسبُ حسابًا لبضعة أقوامٍ خالوا بهم القدرة على قطع عبابه ، وتسكين أمواجه !
* صمتَ الهزبرُ فخالوا صمته ضعفًا وجبنًا فنبحت الجراء ، واستأسدت الثعالب !
قرأتُ نعي أخي وصديقي العزيز أبي يزن أحمد داوود الطريفي (أحمد حماد) فكانتْ نفثة الشجى هذه :
أخي وصديقي العزيز أبا يزن أحمد داوود الطريفي : ها هو من تناديه بـــ (العزيز عبد العزيز سيد الأبجد) * يكفكف دموع الشجى ويجالد جحفل الحنين ، ويختصر مع كل يوم ينصرم من عمره شاسع المسافات التي تحول بينه وبين أحبته في باطن الأرض ، ويلتقي بهم في ملكوت الذكرى !
يا الله ! إنكم وايم الحق لا تمضون خلو اليدين ! بل تمضون بأعنة القلوب ، وأزمة الأكباد ، وحدق العيون !
تمضون وأعيننا على الخط المرسوم الذي سبقتمونا إليه ، والذي سنصله في نهاية المطاف !
تمضون وتنعون لنا أنفسنا وتخبرونا أنَّنا على الإثر ماضون حيث مضيتم !
تمضون لتنبؤونا أن الدنيا دار الهوان والزخرف الزائل ! دار الضغن والأحقاد والتنابز والتفاخر والتكاثر !
أبا يزن : لم أعهد عنكَ وايم الحق إلا رحابة الصدر ونقاءه من الكثير من أمراض القلوب التي استعمرتها !
مضيتَ وأبقيتَ لنا إرثًا خالدًا من الأدب الناصع والنقد البارع !
مضيتَ وأبقيتَ لنا دماثة خلقك التي تعد الصغير بها ابنًا والكبير أخًا !
مضيتَ عن الدنيا حميدًا ولم تمضِ عن قلوب أحبتكَ فأنتَ خالدٌ فيها حاضرٌ أمام نواظرهم ، فرحمكَ الله ورضي عنكَ ولقَّاكَ الأمن والبشرى والكرامة والزلفى !
* أعلم أنه لا ينبغي إيراد هذه الجملة ولكنني أوردتها لما لها من وقعٍ عظيم على قلبي من الراحل العزيز أبي يزن رحمه الله !
كان منذ ريعانه يعوجُ على ذلك المقهى الذي كان فيما مضى مرجًا يلهو به ويلتقي مع من شغفته فيه ، ويعدو فوق الوهد وهي تتبعه ثم يصعد الرابية فتنتظره في الأسفل لكي ينزل ، فيقهقه ويستلقي على ظهره ويرنو إلى السماء والسعادة تكاد تنبجس من قلبه !
يندر أن يمضي يومٌ ولم يُلْممْ به ، وفي أحد الأيام فوجئ بتلك النَّصَفِ جالسة على الطاولة ! رافعة فنجان القهوة تحتسيه وعيناها تطالع كتابًا !
أحد النظر إليها ولم ينبس ببنتِ شفة ، ومذْ ذلك اليوم حرص أن يأتي باكرًا ويجلسَ في مكانٍ قصيٍّ يرقبها من حيث لا تشعر ! وإذا بدأ رواد المقهى بالانفضاض انفض مع أوائلهم !
مُذْ ذلكَ اليوم والحنين والخشية يعتلجان بقلبه فطورًا وطورًا ! وكان مع هذا يأتي باكرًا ويمضي مع أوائل المنفضين ، ولم يفجأه في أحد الأيام إلا وردة موضوعة على الأصيص فوق طاولته !
اختلس النظر إلى طاولة النَّصَفِ فلم يرها ، وأجال ناظره في المكان فلم ير لها أثرًا ، وبعد مضي بعض الوقت أتتْ وكعادتها فنجان قهوة وكتاب !
أطال النظر إليها خلسة ، والذكرى تمر أمام ناظريه وفي قلبه يعتلج ما يعتلج ، ومع هذا ظل قابعًا مكانه وطلب كوب شاي أتبعه بآخر ، وبعدها نهض ومضى صوب الباب ، وتوقف قليلًا ، ونظر إليها ، ثم اعتدل وخرج .
لم يقرَّ له قرارٌ تلك الليلة في منزله ، فخرج واتجه صوب الرابية ، وصعد إليها وهبَّتْ نسماتُ المساء العليلة مضمَّخةً بذكرى من لم تبرح عقله وقلبه ، فقال : الدنيا تُفرِّقُ أكثر مما تجمع ! وتُقصي أكثر مما تُدني ! وتُشجي أكثر مما تسعدُ ! واجتماعنا بعد هذا العمر إنما هو اجتماع الكمد والفراق والتشفِّي ! وإني لماضٍ إلى حيث الخلوة التي لن تطول حتى يَأْزَفَ خروجي الذي لا أوبه منه مدى الدهر ! فمتى تهبُّ الرياح لتأخذ هذه اللعاعة بين جنبي وتمضي بها إلى حيث طال حنيني في الموطن الذي سبقني إليه أحبائي ؟!
أطال النظر إلى البدر المكتمل ، وهو يرى فيه من شغفته ، فقال : لستُ أختلسُ النظر إليكِ وأنتِ قادمةٌ ! بل كنتُ أختلسُ النظر إلى شمس حياتي ، وبدر ليلي وربيع دنياي ومجرة سروري البعيدة المنال !
لما بدأت النجوم بالأفول انحدر من الرابية ، وهو يقول : -وايم الحق- لم يعد لتغريد بلابل الوصل معنى بعد هذا العمر الذي آن فيه الاستعداد لذلك الشقِّ وما فيه من أهوال !
وصل منزله بعيد الفجر ، فأخلد للمبيت وقبيل الظهر أفاق من نومه ، وبعد أداء الصلاة قر عزمه على ما يرى أنه لابدَّ منه ، فاتجه إلى طاولته وأخرج الورق وأمسك القلم ، وبدأ يكتبُ : مُذْ مضيتِ عن القرية وأنتِ لي في حلكة الشجى أنسًا وسرورًا ! وفي غمرة القنوط بدر أملٍ يضيءُ ويجلو جحافله ! وإني لأذكركِ خاليًا فترتسم البسمة على محياي وينساب السرور في قلبي ! وتروضُ يباب الأمل القاحلة !
مُذْ مضيتِ والعوج على المرج المنبسط لي فيه بعض السلوى فسليه وسلي التلال الممتدة عن سيري فيها ومناجاتي لأحجارها وأشجارها وعنادلها وبثي لها صبابات قلبي ووجده !
أما عدونا على سفوحها الممتدة ؟! أما مددنا أكفَّنا الصغيرة حتى تمتلئ بالغيث ثم نشربها بأنس وسرور ؟! أما كنا نستكن تحت أيكة اللقاء ؟! بل أيكة السرور والبهجة والطهر والبراءة ، ثم أنحني فوق رأسكِ لأقيكِ من المطر ؟! أما كنتِ تطرقين علينا الباب لنذهبَ معًا إلى الرابية والتلال للعدو واللعب ، وحينًا أنا من يطرق الباب ؟! أما كنتُ أختلسُ بعض النقود من خزانة أبي لأشتري لكِ بعض ما يأتي به الباعة المتجولون وأهديكِ إياه ؟! أما ... ؟! أما ... ؟!
سلي هذا المرج كم عجتُ عليه في ريعاني –بعد ظعونكِ- وشبابي وغرة كهولتي مرجًا وحوانيت ومقهى ، وما دعاني إلى العوج عليه إلا هواكِ والحنين إليكِ والغدو مع محياكِ العذب والرواح مع ذكراكِ في عهد الطفولة العذب النقي –كقلبكِ- ، وطالما وددتُ من كل قلبي -في عمري الذي مضى- أن أُبهجَ ناظري بمحيَّاكِ العذبِ البديع ، وقلبي بالوصل الذي حال دونه أمد النأي الذي لم ينقضِ ، وأشنِّفَ سمعي من عذب حديثكِ ! أما الآن فحيل بين الهوى والوصل بضباب الخشية والندم والرنو إلى الأمام ومضي الشمس صوب الأصيل ، واستبدلتُ بالدموع التي كانتْ تنهمرُ من الحنين وشجي الشعر ، دموع الخشية والندم وما يطرق سمعي مما يزلزلُ !
طوى الورقة ووضعها في ظرف وضعه في جيبه وبعد العصر مضى صوب المقهى ، واتخذ مكانه المعتاد واحتسى بضعة أكواب من الشاي ، وعيناه على الباب حتى رآها تدلفُ وتتخذُ مكانها المعتاد ، فنهض واستدار وخطى بضع خطوات نحوها ، وتوقف فجأة يقدِّمُ رجلًا ويُؤخرُ أخرى !
لبث برهة على هذه الحال ، حتى غلبه ذلك الأمرُ فاستدعى النادل وأعطاه الظرف وطلب منه أن يسلمه لتلك النَّصفِ بعد ذهابه !
لما دنى الأصيل دفع ثمن القهوة والشاي وانصرف ، فاتجه النادل بالظرف إليها ، وسلمها إياه ، ففضته وقرأتْ الرسالة فطفرتِ الدموع من عينيها وهي تقرأ ما تقرأ ، وبحثتْ عنه في المقهى فلم تجده فخرجتْ وعدتْ إلى الرابية ، فرأته مستقبلًا الشمس المائلة للغروب ويمضي صوبها ، ويقول :
عيدي إليكم أيها الراقدون تحت أطباق الثرى ، قلب مرمض وأكف ترتفع للرحمن الرحيم أن يجعلكم آمنين مطمئنين تسألون تعجيل النشر لما بشرتم به ورأيتموه من رحمته ولطفه .