أصعب ما يواجه الإنسان فى وجوده المحدود، المؤطر بقدر، رؤيته اهتزاز كل ما نشأ عليه، هكذا تسرى الغربة، تكتمل الفجوة بين المرء وما يحيطه، ما يتحرك فيه، ما يتنفسه من هواء، ما يطالعه من وجوه تغيب عنه ملامحها مع أنه ظل يطالعها عمره كله، ما يصله بالآخرين يهن، يضعف، حتى يصل إلى لحظة بعينها يتمنى عندها المفارقة، بل ويسعى إلى اكتمالها.. فبتغير الأماكن، وزوال المعالم، وافتقاد الصحبة، وضياع العلامات، وتداخل الإشارات، يصبح ما يدل على الغرب جواز مرور إلى الشرق، وما جاء متماسكاَ يستمر مجزأ، غير قادر على التواصل، إنه اغتراب الغربة ذاتها.
بين شطىّ الماضى والمستقبل يجرى نهر الحياة ثملاَ بعقيقه الفخم، ليصب فى بحر الأبدية حيث لا جديد ولا قديم، وخيالات البشر تتهادى بين جماجم الموت وأغراس الحياة مخفية طى ضلوعها كثيراَ من الآمال وكثيراَ من الكلوم.
فإلى بحر الأبدية، أيها العام الراحل! وأنت أيها العام الجديد، إلينا!
لكل منّا قصته.. وقصة كل واحد تختلف عن قصة الآخر. مئات الوجوه، آلاف الوجوه، ومئات وآلاف القصص، والزمن يسيل، والوقت يمضى، والعمر ينقضى.. بعضنا ما زال فى الطفولة، وبعضنا فى الشباب، وبعضنا الثالث فى الكهولة أو الشيخوخة، وكلنا نريد أن نعيش، كلنا يدفع ضريبة العيش، ومن عجب أن الجميع يريدون الاستزادة، مع كل ما فى الحياة من تعب!
هكذا هى الحياة، حلوة رغم مرارتها، ومطلوبة رغم كرهها، ومباركة رغم لعنتها.
هناك كائنات يظن المرء أنها لم تُخلَق إلا للتضحيات الصامتة التى يتطلبها الحب المفعم بالأخزان والهموم، كائنات ترى فى الغموم الناشئة من آلام من يمتون إليها بصلة، جوها الخاص بها وتعتبرها ضرورة عضوية بالنسبة لها. وقد زودتهم الطبيعة مقدماً بالهدوء الذى بدونه تصبح التضحية اليومية أمرا مستحيلاَ، وخففت ببعد نظرها، من حدة طموحهم ورغباتهم الشخصية، وذلك بإخضاعها للصفة المسيطرة فيهم. وفى بعض الأحيان تبدو هذه النفوس كأنها باردة مفرطة فى الرزانة خالية من العواطف. فهى تصم آذانها امام نداءات هذا العالم المثيرة وتسير فى طريق الواجب الحسن وهى هادئة هدوء من يسير فى طريق السعادة الكاملة، وتبدو باردة برود القمم المغطاة بالثلوج، ولكن لها جلالها.. كما أنها مغلقة أمام هموم هذه الدنيا التافهة، ولا تستطيع النميمة والصغائر أن تدنس ثيابها الطاهرة، كما لا يستطيع رشاش الوجل أن يدنس ريش البجعة.
إن جهد عامل المناجم فى استخراج الذهب من المنجم أهون من معاناتنا فى اقتلاع الصور من أحشاء أكثر اللغات عقوقاً.. وإذا كان هدف الشعر وضع الأفكار فى حيّز معيّن يمكّن جميع الناس من رؤيتها والإحساس بها، فعلى الشاعر أن يتسلّق دون انقطاع سلّم العقول البشرية، وعليه أن يخفى تحت أزهى الألوان المنطق والعاطفة، وهما قدرتان متعاديتان، وأن يحصر عالماً من الأفكار فى كلمة، ويلخّص فلسفات كاملة فى لوحة، وأخيراً فإن أبياته بذور يجب أن تتفتح أزهارها فى القلوب منقبة فيها عن الأقلام التى حفرتها العواطف الشخصية
ها قد دق قلبى، فأسرع إلى جوادك! ذلك ما فعلته وشيكاً
كان المساء قد هدهد الأرض، وتعلق الليل بالجبال، وانتصبت شجرة البلوط متلفعة فى الضباب كمارد متكوم هنالك
حيث الليل يرنو من الدغل بألف عين سوداء
كان القمر يرنو شكيّاً، وهو على تلّ من السحب، من بين العطور
والرياح تهز أجنحتها فى هدوء، وتعصف بأذنى بشكل مخيف.
ها قد ولد الليل ألف مارد، لكن مزاجى كان منتعشاً مرحاً:
يالها من نار تتوهج فى عروقى! وياله من جمر يتقد فى قلبى!
هذه السعادة.. سعادة الحب.. سواء فى تلهف النفوس الحساسة إليها.. أو تمتعها بها أو شقائها بذكرياتها.. هى سعادة.. وهى نبل.. وهى سمو.. وهى العزاء والسلوى عن مرارة الحياة وسخافاتها.. إن فى نار الحب المحرقة ما يطهر تلك النفوس.. ويرفعها.. وينقيها.. وإن تلك المقطوعات الشعرية أو الموسيقية الساحرة، بل أستطيع أن أقول إن كل قطعة من الفن الجميل.. تهتز لها أوتار القلوب فى عنف هى نتيجة مباشرة - أو غير مباشرة - للحب.. أو للشعور القوى الذى تنعكس فيه صورة أحلامنا.. وحنيننا.. والذى تصب فى جدوله البلورى كل ما وضع فى النفوس من سمو.. وحساسية.. ونور
لا تتركها حبيسة داخل جدران صدرك، أو ترددها فقط فى خاطرك أو تقلها سراً بينك وبين نفسك.. اذهب الآن وقلها فوق الجبل، فليس هناك أخطر وأشرس وأكثر إيذاء من الكلمة الحبيسة، إنها تربى بداخلك أنياباً ومخالب تأكل بها جوفك وتنهش صدرك وتحيل حياتك كلها إلى جحيم لا يطاق! فما خلقت الكلمة إلا لتكون طليقة ترى الهواء والنور وتركض كالجياد البرية القوية فى ضوء الشمس
فالأطفال سعداء لأنهم يعبرون عن مشاعرهم بتلقائية لا تضع اعتباراً للقيود الاجتماعية التى تلتف حول أعناقنا، فهو إذا ابتهج ضحك بصوت عال وفى أى مكان.. وإذا تألم بكى بصوت أعلى وفى أى وقت.. وليس له باطن وظاهر وما فى قلبه على طرف لسانه وفوق تعبيرات وجهه فإذا أحب إنساناً ابتسم له وإذا كرهه عبس فى وجهه لأنه غير مضطر إلى مجاملة أحد أو إخفاء مشاعره.. ثم هو - وهو الأهم - لا يكره أحداً كراهية عميقة ودائمة.. فكراهيته مؤقتة قد لا تستغرق دقائق وصفاء نفسه دائم لهذا فهو سعيد.. لأنه طفل أو لأنه فيلسوف أدرك ما لم ندركه نحن من أسباب السعادة!