رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (6)
الشيطان والعجوز
كان الشيطان و ابنه يلبسان أبهى حلتين ، و يتجولان في سوق أسبوعي . كانت تفوح من جسديهما رائحة الخزامى . لم تكن بادية عليهما وعثاء السفر ، كأنهما نزلا على التو من السماء . في الوقت الذي كان فيه الأب هادئا ، كان الاضطراب باديا على الابن الصغير ، فكان يحتمي بوالده ويمسك بتلابيبه . كان الناس يفسحون لهما الطريق . و إذا دخلا إحدى المقاهي الشعبية فرّش لهما صاحبها الفُرُش و بسط أمامهما السفرة و جاءهما بالشواء و الشاي . لم تكن أيديهما تمتد إلى الطعام .
و كان الناس يتحلقون حولهما يتملّوْن بطلعتهما البهية . كان كل من رآهما يترك ما بيده من أمور التجارة و الصناعة و يتبعهما كالمسحور، حتى تعطل السوق نهائيا . و سكت الناس عن الصياح . فقط ،كانت الحمير تنهق بقوة نهيقا غير عادي . و تعض
و ترفس كل من اقترب منها ، حيوانا كان أو إنسانا .
في غمرة هذا الاحتفال غير المعلن ، نطـّت من وسط القوم عجوز شمطاء و اتجهت مباشرة إلى القاعدين أمام الجموع . كانا لا يكلمان و لا ينظران إلى أحد . لما رآها الشيطان نهض من مكانه و قـبـّل رأسها
و أجلسها قربه . و بإشارة من يده أمر القوم بالانصراف . و دار حديث خافت بين الاثنين. حتى أولائك الذين كانوا وراء الخيمة يسترقون السمع لم يسمعوا شيئا . سمعوا وشوشات امتدت إلى الزوال.إلى وقت انفظاظ سوق البادية ذاك .
خرجت العجوز من الخيمة و في أثرها الشيطان و ابنه . و شقوا طريقا جنوبيا عكس الطريق الذي يأتي منه " السوّاقة " . و أعين الناس مشدودة إليهم حتى اختفوا وراء التل. انتبه الناس إلى أنفسهم و تجارتهم فوجدوا أن الحيوانات في غفلة منهم أكلت الخضار
و الفواكه و اللحوم و أتلفت بقية السلع الأخرى .
لما عاد السواقة إلى دواويرهم كانت كل أحاديث سمرهم تدور حول ما وقع يوم السوق ، على الشخص الصافي البشرة الأزرق العينين الأحمر الوجنتين الفاحم الشعر . و ذلك الطفل الصغيرالذي كان صورة مصغرة لأبيه . قال أحد القرويين :
- عطسه من منخاريه .
و من يوم السوق أصبحت للعجوز قيمة عند أهل الدواوير . هي من قام إليها القادم الغريب و قبـّل رأسها
و جالسها ساعات عدة . لعلها أخذت كل بركته و امتلأت بسره . فما أسعدها و أسعد الدواوير بها !! .
كان القوم يولِمونَ و يستدعون العجوز، و يرجونها أن تحدثهم عن الغريب ، و هي ترفض و تغضب .
كانت الدواوير على وفاق تام حول الماء و العشب . و سادت في المنطقة فترة جميلة من السلم و الأمن . أعقبها ازدهار في الحرف و التجارة و الفلاحة أغاض الشيطان. فقام بتلك الرحلة . و كانت قد سقطت من يده كل الحيل للإيقاع بالقوم و العودة بهم إلى التطاحن . فما كان منه إلا المجيء إلى السوق في تلك الصورة البهية ، و اللجوء إلى تلك العجوز دون غيرها . كان يعلم بذلك الغـّل الذي كانت تحمله لسكان الدواوير بعد مقتل زوجها و أولادها الثلاثة في معركة مجنونة . امتدت من صباح يوم مشئوم حتى ليله . سالت فيها دماء غزيرة .
زارها الشيطان ليلا في خربتها و طرح عليها أمر إعادة القوم إلى سالف عهدهم من التطاحن و الخسران . وجدت العجوز في الأمر غاية انتقامها و أقسمت للشيطان بأغلظ الأيمان أن تكون عند حسن ظنه بها لكن بشرط أن يعيد لها اعتبارها بين القوم . و ذلك ما فعل يوم السوق . سألها كالأبله كيف ستنفذ الأمر . نهرته بشدة و قالت له :
- شوفْ و اسكتْ !!
رد بخضوع :
- سمعا و طاعة يا أمي .
مرت العجوز إلى مرحلة التنفيذ . و اختارت لذلك زوجة أحد أبناء الأعيان . زارتها في منزلها و طلبت منها أن تصنع لها كسكسا بالحمص و الزبيب . ففعلت . و أثناء تناول الطعام طلبت العجوز من السيدة أن تأتيها بملعقتين . و بدأت تأكل بهما من موضعين متباعدين في الصحن . و السيدة تأكل قبالتها مستغربة . دخل الزوج و سلم على العجوز و رحب بها .
رفعت العجوز عينيها إلى الزوج و قالت لزوجته :
- أهذا الذي كان يأكل معنا قبل قليل ؟
تحولت إجابة السؤال إلى دماء سالت غزيرة بين أهل الزوج و أهل الزوجة ، انخرطت فيها الأحلاف ، و عاد التطاحن بين الدواوير .
و رقص الشيطان و أمر ابنه أن يرقص. وأهدى للعجوز منديلا من الحرير الخالص. عقده في طرف قصبة طويلة و مده إليها على بعد أمتار . ضحكت العجوز ملأ شدقيها و سألت الشيطان سؤالا استنكاريا :
رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (7)
ربة الحسن الأسود
فرنسا القرن التاسع عشر، عاصمة الثقافة والنور وأيضا عاصمة الأدباء والفنانين الفقراء..في شوارعها الواسعة يجولون، ضامين معاطفهم المرقعة على أوراقهم أو لوحاتهم وأحلامهم الباردة..يشقون طرقهم الوعرة وسط الأنواء والمطر، وباريس لا ترحم أبدا..
ليلة من ليالي ديسمبر الباهتة، تتساقط فيها أوراق الشجر، مثلما تتساقط أوراق التقويم، تتساقط قطرات المطر، وتتساقط أحلام كثير، تذوب وتندثر..
الحادية عشر مساءا..عبرت العربة التي تجرها الخيول الشارع الخاوي..ومن داخل العربة تصاعدت همسات، ضحكات:
- "إلى أين ستذهب بي؟"
هكذا سألت الحسناء الجالسة في المقعد الخلفي
- "لن أقول إنها مفاجأة.."
زمت حاجبيها متصنعة الجدية:
- "مسيو بودلير..أعلم جيدا أنك شاعر كبير جدا، لكنك أيضا فقير جدا.. لن تستطيع الذهاب إلى مطعم فاخر..أليس كذلك؟"
- "بلى ، لكنه مكان أجمل بكثير.."
- "أين؟"
- "لن أقول.."
ضحكت بصوت مرتفع:
- "أها..هل عدنا ثانية؟"
لكن يبدو أن سائق العربة لم يكن يروقه الجو المرح الذي يسود عربته..كان يبدو متضايقا متوترا أو قلقا من شيء ما، ويلتفت وراءه من آن لآخر، حتى أضطر بودلير أخيرا أن ينهره بخشونة:
- " هل هناك مشكلة؟.. لمَ تنظر خلفك؟"
هز الرجل كتفيه في حرج، وعاد يدير رأسه إلى الطريق أمامه..بينما التفت بودلير إلى محدثته:
- "والآن عزيزتي..لقد حان الوقت لكي أعصب عينيكِ الجميلتين بهذا المنديل الحريري.."
- "ومن أين لك بالحرير؟"
- "أوه ..إنه مجرد تشبيه شاعري فقط..والآن اتركيني أؤدي عملي.."
من جديد رجت ضحكتها العربة:
- "كف عن هذا يا شارل..إنه طفولي.."
- "أرجوكِ..حتى تكتمل المفاجأة.."
قالت في دلال وهي تسلمه رأسها:
- "حسن.."
بعد لحظات..هتف شارل بودلير بالسائق:
- "هنا!!!"
نظر له السائق في شك، لكن شارل لم يعره اهتماما..انزلق من العربة وعاونها على النزول ثم دس في يده النقود..أوشك السائق أن يقول شيئا لكن بودلير أدار له ظهره، وهو يدفعها أمامه:
- "هل أزيح العصابة الآن؟"
- "لا، ليس بعد.."
- "لو رآني أحد الآن لأعتقد أنني حمقاء أو مجنونة.."
- "وأنا أيضا مجنون.. لا مشكلة..ليذهب الناس إلى الجحيم.."
أمسكها من يدها وقادها داخل المكان..وتوقف بها عند بقعة بعينها في وسطه:
- "الآن استعدي.."
وجذب المنديل من على عينيها..شهقت في انفعال؛ فأمامها وعلى ضوء القمر الفضي امتدت شواهد القبور كمناديل بكاء بيضاء ملقاة وسط الظلام..والعجيب أنها هتفت:
- "هذا رائع.."
- "تقولين هذا رائع..!!..ماذا إذاً لو سمعت قصيدتي من أجلك..ومن أجلها أتيت بكَ إلى هنا؟"
صفقت في جذل:
- "وقصيدة أيضا.."
ابتسم ورفع عينيه إلى القمر الذي بدا وكأنه يبتسم أيضا لكن في حزن :
- "أهيم بك هيامي بقبة الليل..
يا آنية الحزن، يا حليفة الصمت..
وزاد في حبك أنك تجافينني.
وأنك يا زينة ليالي ، في جفاك وسخرك
تباعدين الشقة بين ذراعيّ
وبين سماواتك المفتوحة
ولكني أبدا عارج نحوك، أساورك واصعد إليك
كما يصعد إلى الجثة فوج من الديدان..!!!
أنا أيتها الضارية التي لا تشفى لها غلة
عاشق وامق أهوى حتى جفاكِ
فأنت به أبدع في ناظري وأروع
"
وفي تلك الليلة ولدت تلك قصيدة بودلير الغريبة (ربة الحسن الأسود) ..
هذا هو ما أقسم لي عليه صديقي الناقد الشهير(ايمانويل سولييه)..وقد استعان بمن يدعي انه حفيد حارس تلك المقبرة..يقول أن جده رأى ذلك الرجل المخبول، واقف يحدث نفسه أمام شواهد القبور ويتلو تلك القصيدة المفزعة..وأنه خاف أن يكون الرجل مخمورا أو مجنونا أو الأسوأ شبحا؛ فيؤذيه؛ فآثر ألا يقترب منه..
يقول كذلك أن سائق العربة قد عاد يستقصى نبأ راكبه الغريب الذي ظل يحادث نفسه طوال الطريق ونزل عند المقابر في منتصف الليل..وأنه قابل جده حارس المقبرة وتبادل معه أطراف الحكاية ومن هنا اكتملت القصة..
لكن الرغم من كل ذلك ومما عُرف عن بودلير من غرابة الأطوار لم يصدق أحد صديقي الناقد..حاولت مساعدته وكتبت مقالا في جريدة عربية فرنسية فكانت النتيجة أن لم يصدقنا احد نحن الاثنين..والآن بعدما سمعت القصة بنفسك، هل تصدقنا أنت؟!!!
رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (9)
إمرأة.... في زمن الغربة
( قصة حقيقية)
هدأ القصف وساد المكان صمت مطبق الآ من صوت رضيع يتأوه من ألم الجوع وأمه التي مر عليها عدة أيام لم تذق طعاما ...ذوى جسدها ولم يعد ما لديها ما تقدمه لهذا الكائن الضعيف ، تشغله بالرضّاعة تارة وبسبابتها تارة أخرى عسى أن يكف عن البكاء ، ولكن دون جدوى ..... لم يعد ثديها قادرا على در ما يطعم هذا المسكين لم يكن لديها من تلجأ إليه ليعينها .... فقد حل الخراب والموت في كل مكان ، لم ينم طفلها طوال الليّل وكذلك هي .... فالجوع لا يرحم ...والجيران الذين كانوا يقدمون لها بين الحين والحين مايسد رمقها ، انقطعوا عن التواصل ، مما يعني ان أوضاعهم باتت هي الأخرى سيئة ، طلع الضياء ، حملت رضيعها وهامت به تبحث بين أكوام القمامة ، عسى أن تجد ما يسد رمقها ، تاهت بين المتاريس وحواجز الرمل التي سدّت كل الطرقات لا تعرف ماحل بزوجها الذي غادرها منذ شهرين ولم تسمع عنه شيئا .... أين تذهب ؟ وممن تطلب العون ؟... تطالع أكوام القمامة وبينها كلاب وقطط نافقة ، لم تجد حتى في القمامة ما يسد رمقها ... فكيف تجد مالم تجده الكلاب والقطط السائبة .... ظلت هائمة بين الطرقات تتطلع الى معظم المحال وقد نهبت ! والبعض مقفل خشية النهب أوقتل أصحابها ..لم تكن تعرف مالذي يحصل...
انتهى أكثر من نصف نهار اليوم وهي تسير على قدميها عسى أن تجد من يطعم ولدها قبل إطعامها .... علهّا تجد من يتصدق عليها بقطعة خبز أو قدح حليب لولدها ...
كانت تسير على الجهة الثانية من الكورنيش المحاذي لشط العرب ، تسمع بين الحين والحين أصوات اطلاقات نارية صادرة من الضفة الثانية للشط ، وأحيانآ تجهل مصدرها ،فجأة تمر في الشارع عجلة حمل متوسطة الحجم وهي تحمل أعداد من الرجال ، فوجئت بمظهرهم وملابسهم ، أشكالهم غريبة وتصرفاتهم أغرب ! كانوا يهتفون بلغة لم تفهمها ،ويلوحون ببنادقهم في الهواء ، تبدو عليهم السعادة والفرح الغامر ، عندما مرّوا بقربها ،بات البعض منهم يوميء بيده باشارات تدل على البذاءة والدناءة ، توقفت وآنسحبت لتسند جسدها المتعب على الحائط وباتت تخشى ما قد يقوم به هؤلاء الغرباء ، من هم ؟، من أين أتوا ؟
التقت في طريقها برجل يحمل كيسآ ، بادر قبل أن تسأله : أسرعي الأمريكان يوزعون الطعام بسياراتهم على الأهالي عند ساحة سعد ، فوجئت بهذا الكلام ، ماذا يعني؟ وماذا يفعل الأمريكان في البصرة ؟ ومن هؤلاء الذين رأتهم قبل قليل ، وماذا حلّ بزوجها الذي ذهب مع الجيش الى الحرب ؟ فاتجهت صوب المكان علهّا تحظى بشيء لوليدها ، شاهدت منظرا أبكاها ...رأت الرجال الذين مرّوا بها قبل قليل وهم يربطون حبالا حول التماثيل المطلّة على شط العرب ، فوجئت بهذا السلوك ! من هم هؤلاء ؟ولماذا يزيحون تماثيل الرجال الذين ضحّوا بحياتهم لأجل الدفاع عن العراق ! مالذي يجري ؟ نسيت جوعها وبكاء رضيعها من هول ماترى ، تتمنى أن تعرف مالذي يحصل ؟ ماذا حلّ بالعراق ؟ لمَ هؤلاء يدمرون رموز البطولة والشجاعة ؟ واصلت سيرها نحو المكان الذي أخبرها به الرجل الذي مرّت به قبل قليل ، شاهدت منظرآ لم تتخيل ان ترى مثله في يوم من الأيام ! وقفت حائرة ، وانهارت الدموع من عينيها ، وبلا وعي نطقت ...لا...لا.....لا..! مالذي يحدث ياعراق ، أين رجالك ؟أين ابطالك؟ اين جيشنا البطل ؟ كيف يحدث هذا ؟ ولماذا ؟ وتمنت الموت على أن تقبل الإهانة التي رأت ... شاهدت جنود الاحتلال بسيارة كبيرة تسير وخلفها يركض العشرات وبين الحين والآخر يرمون بقطعة خبز اوكيس طعام فتتصارع الأجساد لتلتقط بعضا منه ! كانوا يعاملون هؤلاء الجياع وكأنهم كلاب تركض خلف عجلتهم وكانوا مسرورين ويتضاحكون فيما بينهم وعندما تتباطأ حركة العجلة ويقترب منها احد الجياع ينال ضربة بعصا تطرحه أرضا ليأتي غيره ... استسلمت لقدرها وانزوت على ناصية احد الشوارع وجلست عازمة على أن تموت مع ولدها في هذا المكان على أن تتسول من هؤلاء الرعاع لقمة الذل ، ودموعها تنساب بلا انقطاع ...الموت أشرف لي ولولدي من أن اتسول من هؤلاء ،قارب النهار على نهايته ، فقررت أن تنزوي في ركن أحد الزقاق وتنتظر الموت خيرآ من الذل الذي رأت ...وقد يقوم أحد المارّين بدفنها وولدها ، أفضل من أن تعود إلى البيت وتموت وحيدة لا يعرف احد بموتها ....فأهلها وأهل زوجها يقطنون في محافظة أخرى ولاتوجد وسيلة للوصول اليهم ولاحتى وسيلة للاتصال بهم ...
على بعد عشرات الأمتار .... لمحت شابا يهم بفتح محله ليطمئن عليه أو ليأخذ غرض ما .... نهضت مسرعة باتجاهه ودخلت إلى محله .... لا تدري ما تقول لا تدري كيف تبدأ ... بادرها ....
تفضلي ماذا تريدين ؟...
أجابته بكلمات ممتزجة بالألم واللوّعة ودمعها ينهمر بلا انقطاع حتى ضاعت الكلمات ... فلم تمر يوما بموقف كهذا ....
ونطقت أخيرآ :ولدي سيموت من الجوع !
- وماذا استطيع أن افعل لك ؟.... أنا أبيع العطور ومواد التجميل .
- استحلفك بالله أن تقدم شيئا لهذا الطفل ، فانت عراقي وانت ابن بلدي ، هل تقبل أن أمد يدي لهؤلاء المجرمين والقتلة ومن احتلوّا بلدنا ؟
- استطيع أن أمر على احد جيراني اعتقد أني سأجد شيئا ... هات نقودك لأشتري لك بعضآ مما لديهم .
- أجابته ... ليس عندي ما أعطيك ...
- تطلع إليها من الأعلى إلى الأسفل ظنّ انه أمام واحدة ممن يتخذون تلك الطريقة للتسول ، أو شيئآ آخر !
- أنت مازلت قادرة على أن تدفعي ثمن ماتريدين ...
- اقسم لك إنني لا احمل ثمن طعام ولدي ...
- لاأتحدث عن النقود ... أتحدث عنك !
- فوجئت بكلامه ، نظرت في عينيه نظرة عتاب وألم .... نظرة عزٍ وكبرياء، نظرة امرأة لم تفرط بشرفها يوما ... فقد فهمت مايروم من كلامه ونظراته ، ولم تفكر يومآ بأن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان سيصل إلى هذا الحد من الإذلال، انهمرت دموعها ... واستدارت ببطء ، كان قرارها أن الموت أهون عليها من بيع جسدها ... تحركت باتجاه الباب ووقفت خارج المحل ونظرت إلى السماء تستجير بخالقها ... بعد أن أذلهّا بنو جنسها ...
- احتار الشاب من موقف تلك المرأة وخرج إليها متسائلا : ما قصتك ؟... أهذه أول مرة تدخلين محلا وتطلبين شيئآ دون مقابل ؟ ألا تعرفين من يفعلن ذلك ؟ أجابته : معاذ الله من أمرأة تبيع نفسها للشيطان مقابل بعض الطعام لولدها ... أنا امرأة مؤمنة ، وأخاف الله وزوجي ذهب إلى الحرب وطالت غيبته ، ولم يعد لي معين في هذه الدنيا ، فإذا كنت تطمع بجسدي لكي تطعم ولدي فلك ذلك ولكن تعدني بأن تتكفل باعالة ولدي ، وأن تقتلني بعد أن تنال ما تريد ...
- كانت تلك الكلمات كافية لتجعل الشاب يخجل من نفسه لأنه فكر أنّ تلك المرأة تشبه البعض ممن كنّ أحيانآ يمررن على محله يبعن كل شيء ...
- طلب منها أن تدخل إلى المحل ، وأجلسها على الكرسي لترتاح وأعاد سؤالها ... هل هذه المرة الأولى التي تقومين بهذا العمل ...
- أقسم بالله وبغربة زوجي ، لم أمد يدي لأحد طوال حياتي وقدري دفعك في طريقي لاستجير بك ...
- تذكر الشاب أخاه الذي لم يعد هو أيضآ لحد الآن ، ومايقدمه لعائلته في غيابه الذي طال .. بات الشاب مقتنعا بما قالته .... وهزت كلماتها مشاعره وغيرته العربية ، ونخوة أهل البصرة وطيبتهم ، أيقظت بداخله روح المؤمن ... والإنسان .... فسألها : أي نوع من الحليب يشرب طفلك وكم يكفيه لمدة اسبوع ... أجابته بعد تردد بالنوع والعدد ...
طلب منها أن تنتظر حتى يعودعسى أن يجد ما طلبت ، ثم غادر المحل... وبعد بضعة دقائق جاء ومعه ماارادت ، نهضت غير مصدقة وأمسكت بعلبة الحليب التي ستنقذ ولدها ... دمعت عينيه لرؤية لهفتها لما سينقذ ولدها من الموت ، سارعت بفتح العلبة ، وأخرجت من كيسها الصغير رضّاعة الطفل وقنينة فيها القليل من الماء وأكملت عمل وجبة الطفل ، والذي تلقفها وأمسكها بكلتا يديه الصغيرتين وكأنه غير مصدق ...
... وبادر بسؤالها ... كم يكفيك مصروفا كل أسبوع ؟ ..
. فوجئت بسؤاله ونسيت جوعها وضعفها أمام ما توفر لولدها .
أجابته : بارك الله بشبابك وما فعلته يكفي ، المهم أن ولدي لن يموت جوعآ ...
- كلا ! اخبريني بكم أستطيع مساعدتك أسبوعيا لتعيشي مرفوعة الرأس ولا تحتاجي لأحد ... صمتت واحنت رأسها ...
شعر الشاب كم تلك المرأة عظيمة وأمينة ... اخرج من جيبه كمية من المال ودسها بين القماش الذي تلف به ولدها وتمنى لها الخير والتوفيق وأن عليها أن تمر كل أسبوع بنفس هذا الوقت لتأخذ نفس المبلغ أو أي شيء تحتاج ومعه حصة ولدها الاسبوعية مما يكفيه من الحليب ... حتى يفرجها الله ... غادرت تلك المرأة محل الشاب ونظرت إلى السماء تشكر الله ... عمّا وهبها ، وأحسّت إن العراق مازال بخير مادام فيه هكذا رجال ... وسارت في طريق عودتها إلى البيت ... وبقي الشاب يتطلع إليها ، وشعورا عميقا بالألم ، والفخر، والإيمان يملأ قلبه.، لأن الله مكّنه أن يمد يد العون لهكذا أمرأة ....
يا ترى هل عاد زوجها من الحرب ... ؟
إن حماها أحد اليوم ، فمن سيحميها في المستقبل ؟
وكيف ستربي ولدها ؟ وتحمي عرضها ؟... إذا لم يعد ذلك الزوج إلى الأبد ...
هل هناك من سيذكر زوجها الذي قد يكون احد شهداء الوطن ... أو مات في مكان ما ، ولم يعثروا على جثته واعتبر مفقودا ...
فمن سيمد يد العون لك ولولدك ؟ أيتها العراقية الأصيلة...
هل من يُسقِط ويَسرق تماثيل الأبطال من سيقدمون العون لك ؟
أم من دمروا حضارة وتاريخ وطن لانه أراد أن يثأر ممن طعنوا نساءه بشرفهن ؟
أم من أرادوا سرقة ثرواته وتجويع أهله واذلالهم ؟
وأراد أن يعيش مرفوع الرأس شامخآ ، لايرتضي الذل....
من سيحميك أيها الوطن بعد أن تكالب عليك كل الطامعين والحاقدين وانصاف الرجال ؟ من سيحميك من حقد الحاقدين ، وجوع الظالمين ؟
وأقول لمن يدّعي أنه جاء محررآ ومنقذآ :-
(أمة لا تكرم من ضحى لأجل عزتها ...
لن تجد اليوم ، من يضحي لأجلها ...
وهكذا..... تموت الأوطان )
رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (10)
رذاذ العيون
حدث إن جرت أمور ليست بالحسبان وانقلبت رأسا على عقب حالت دون اكتمال رحلتي عبر كتب الأقوام الخالية إلا بعضا مما حملته ذاكرتي , بيد إني سددت كل جهودي صوب مادونه أخي في دفتر حكايات وأوصاني وحفظت ما أوصاني به , وجاءت موجات الحروب المتوالية لتصدع قناعاتي أن اترك كل شيء وأذوب مع مشوارا لخوف تبلعني ظلمة الليالي وتتقيئني نهارات الارصفه المنسية ولكن بقي ديدني التدوين , لذا فأني انفلت الآن لاستوحش زوايا البيت وحدي , بعد انسكاب الهدوء في فجوات المكان وامتزاج الريح الطيبة لتلك الليلة مع همساتي التي أرسلها بحب يافع إلى أفراد أسرتي وأنا أخاطبهم : اطمأنوا .. ناموا وعالم الحلم ، لأشاكس نفسي بالكتابة عما أوصاني به أخي علّي أتنقل معه من أعلى قمة جبل ألقلعه إلى وادي السلام والملتقى في كرمة علي ولعلي أجد المبررات ألكافيه لما ذهبت إليه , وهكذا تكون الكتابة إحساسا ترتجف له علامات الاستفهام م لتثير فضولي المثخن بالأشياء, أنا لا أخفي , فمنذ نعومة محاولاتي الأولى وأنا اشعر بالحاجة الماسة للكتابة عن أمور أحسها أجزائي المبعثرة في ساحة حرب كبرى اعجز عن لمها بكل تأكيد لو لا الحرف والكلمة وعلاقة العناق بينهما ولولا سطوي المستمر على جنات نعيم الهدوء والنوم مشاكسا دائما والذي يتسبب لي بالكثير من المحن وهي أن أقول قولتي وكفى , ولما كنت وسط أمواج الحيرة حاولت الرجوع وخطواتي بحذر شديد , لأكون مع واحة الروي والحكي , لاسيما وانا في حوزتهما , والألم الذي حشّ أمعاء أخي وطرحه في الفراش , لازال محور نقطة البحث عن سر أعلم القليل عنه , ولكنني اعلم إن محنة الموت ذات عشق أسطوري لاتقبل البديل , حسنا بدأت أحط الرحال لتدوين الأسطر الأولى عن حكاية ابتسامة عشتروت والنورس المسافر بين الجبال وهي أحدى حكايا دفتر أخي والتي لازالت عالقة بذهني وأليت عدم التوقف والسبب هو سيل الاسئله الاستفهامية وهطول الأمطار حتى توازى الماء وحافة الباب حينها زغردت النجوم أنشودة المطر : ( مطر .. مطر .. مطر .. وفي العراق جوع ) نزعت إلى حال أخرى وبدأت أدعو من الأعماق ففي ثلاث يقبل الدعاء , وقت الآذان .. نزول الغيث ..الصائم حتى يفطر .. تمزقت جوانحي من حرقة الدعاء . بمحراب الخشوع ان يشفى اخي (صالح) وان يشفى وطني من الجوع , وبعد رحلة شاقة ومضنية وجدتني اكتب بنهم عن ( صالح ) ولعنة المرض تزاور يبن عينيه وأنا كمن سل سيفه لمعركة حاميه الوطيس وأثناء اللحظات الحرجة جدا تلك , بدأت جولتي الأولى في ظني البائس كسبتها , لكن ( صالح ) بقي يلازم الفراش لا يحرك ساكنا سوى تأوهات تخـــــــز القلب ..
ولان المرض والجوع يسيران بطريق الألم الواحد , تكونت صور قاتمة وظهرت تترى , ثم إن السكون توقف بانشداه الضجيج المرتقب , والدواء خرج من الدائرة بينما الطبيب بدأ ينهي العمل بصمت مريب سوى رذاذات حزن العيون التي ترقب الجسد المسجى .
كانت الكتابة تغزوني لا تحط الرحال بين الجبال والاهوار أو بين الشطوط والأنهار فقط إنما سفينتها المبحرة عبر أجواء البلاد عامة غذائها تمر النخيل , وخبز التنانير , وغزلها السمر المليح لابنتي اليافعة ( رمله ) والاتزان وعمق العينين لحبيبتي ( ك) أحبها حب مجانين ماركيز , وعنوان كتابتي الألم وزخات الانفجارات والرصاص .. أصوات الباطل وأصوات الحق , ثم يعتلق التعبير الصادق ليضيء واقعة انتحار الجوع .. الحصار .. الظلم على أعتاب ابتسامة عشتروت وزهراء وكل الفتيات بريعان الصبا , وكلما أوغلت في عالم الكتابة ارتحل ثانية كي اكتب عن مغامراتي العاطفية مثلا وأنا بأشد الحاجة لذكرها مطعمة بأريج الم الوجود تعتمر الثوب العذري , وحتما هناك مبررات تثبت صحة قولي , حاكموها إن شئتم وادخلوا في مجرات حكاياتها , إنها تروي ما يحدث في رحلتي ودفتر أخي .. أخي الذي يعلم الكثير من أسراري ويشاركني غربة الأشياء من حولي , حتى إني حاولت مكاشفته بحالاتي العديدة , غير إني قبل رحيله بقليل أحجمت لحين من الدهر , علّ السماء وهي مرصعة بالآليء النجوم الموشاة بغيوم بيضاء تزغرد بأنشودة مطر أخرى .. ( مطر .. مطر .. مطر وفي العراق (( خير )) )..
رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (11)
رماديّ
مدّ يَد جرأته ,تطفّل على عالمها الأبيض
سلب من نهارها زقزقة العصافير التي كانت ُتلقنها الحرية
والشمس التي كانتُ تحييها ,ماتت على أعتابِ ليلٍ بِلا نهاية
تدثّرت السماء بوشاح ِ الرماد
تغيّرت ملامح أيامها
وجهلت بعد ذلك لون نفسها....
رد: مسابقة منتديات نبع العواطف الأدبية الثانية للقصة القصيرة
القصة رقم (12)
إمرأة لـِ ليلةٍ واحدة
أفاقتْ مِن غَفوتها لتراه لا زال مستلقٍ إلى جانِبها , أعادتْ سَرد أحداث الليلة المُنصرمة وكُل ما حَصل. بدأت تُدرك شيئاً فشيء فداحةَ فِعلها. بإسم ذاك الأمآن..!
تبادرت إلى ذهِنها كُل الأفلام التي شاهدتها, وَضعتْ نفسَها في مكانِ كُل ممثلة وعلى الأغلب إختارت الثانوياتِ مِنهن. الصورة التي في ذهنها تكررت مرات عديدات, حاولت أن تمحي الصورة, أن تُغيِرها, إلآ أنها لَم تستطع, تِلك الصورة التي كثيراً ما أنكرتها وإستنكرتها, حدثت. تكرارها كان يقتُل بصيص الأمل فيها. إمرأة لليلة واحدة..إمرأة لليلة واحدة..
تَخيُلها لذاك الواقع المؤلم والمُرّ أفقدها صَوابها. لَم تنبُس بكلمة ولَم تُصدر أي صوت.إندفعَتْ مُسرعة إلى الخارج وأخذت تتنفس وكأن الاوكسجين لن يعود ليكون موجوداً
وكانت ثوانٍ ودقائق ولَحظات.. لَم تشعُر بمضيها إلى أن عادت, عادت لتراه لا زال مُستلقٍ وعلى شفتيه إبتسامة وما يَهُمه هوَ فهوَ رَجُل, أو شبِه رَجُل وما يَعنيها ذلك.ما عاد يعنيها ما كان عليهِ هُوَ..ما كان يَهُمها حينها فقط أن تختفي.أن يختفي وُجودها...
أمسكت بِعِطرها المُفضل وأخدت ترش به على كافة أنحاء جسدها وفي كُلِ رشةٍ لا زالت تُشمُ رائحة جسدهِ فتُعطِر نفسها أكثر!
خَطت قلمِ شِفاهها الوردي ورَسمت كذلك إبتسامة وردية وما أن فَعلت ذلك حتى إنطلقت مُسرعة لتتقيأ, تتقيأ إمتلاكُه لشِفاهها!
ما عاد بمقدورها أن تحتمل جسدها أكثر, خرجت مِن ذاك الجُحر وفي قَلبِها تَحمل "الوعد" ..وعدهُ لها بالبقاء !
مَرَّت وقَد خارت قِواها..مُترنِحةٌ في مِشيتها كَمن سَكِر الليلَ بطولهِ وهي سَكِرت كذلك! تجاوُزِها الحَد الأدنى لِأن تكون أفعالها مُترتِبة عليها كان قد ألّحَّ عليها بضرورةِ أن تُسْكِر نفسها بِما صُنّفَ بالطيّبِ كثيراً. لَم تدرِ أن طيبَهُم علقماًَ حين أسكرتها أسواطهم الهدامّة وحِجارتهم المُشمئزة لإنوثتها الجوفاء!!
أثقلوها فمضت..قدماها الصغيرتان المُتثاقِلتان ما عاد بإمكانهما المُضي أكثر! إرتمت هُناك على حافة طريق! طريقٌ ضبابي! تُغرقه العَتمة ويلُفه المجهول!
تَمرغّت بالوحلِ هُناك, قوةٌ شيطانيةُ سَكَنَت كِلتا يداها أخذت تنعف الرَمل وتنعف وتُبعثِر شَعرها وتَشُده تارة. وزادها حُباً بالشدة وإكتفاءً أكبر مِن فِعلها, الشعر الذي تخلل كِلتا يداها. فَبّلََتْ شَعرها! ذاك الميِت مِنذ ثوانٍ مَعدودات, وبدأت مراسِم الدَفن له, لعلّها تَشفع له بأن تُكْرِمَهُ.
حَفرت بأناملها الرَمل ودَثرت ذاك الميت وبدأت بالدُعاء له وعَليه. راقَتها المراسِم وحُضورها مراسِم الدَفن الأولى في حياتها.فهي أنثى وهلَ يَحق لأنثى أن تُشارِك مراسم الدَفن ؟!
دَمعة واحدة سَقطت, رغبةً بالتعاطِف مَع الميت, لا حُباً ولا حُزناً. واحدة فقط وتلتها ضِحكات وإبتسامات مُتعددة. لتقومَ مِن جديد. هيَ وقَدميها وما تبقى مِن قُواها تَنفُضُ ملابِسُها السوداء التي لائمت المراسِم وكأنَّها عِرفّت النهاية المتوقعة لكًل يَومِها ..رَتبت شَكلها وبدأت تَدفَع نَفسها لتَخرجُ قليلاُ فقليلاً مِن حافةِ ذاك الطريق.
تَخرجُ جديدةً وقد أعلنتْ أنَّ ذاك ماضٍ, ماضٍ لَنْ يؤرِقها ولَنْ يَجعلها تتسَمر مكانها, ماضٍ هو ماض ولَن يعودَ ليَكون جزءاً من حيآتها.
ماضٍ لَن تنساه إلآ إن أعلنت أنها ميتةُ جسدياً أيضاً!