ها هي المدينة
مدرسة و مكتب للعمدة و محكمة و مستشفى و منازل مأهولة متناثرة، و محلات متعددة الاختصاصات
و ساحة تضج بالحياة كلما أزف موعد السوق الاسبوعي.
ها هي المدينة
و هناك قصر النبيل .
له ذوق خاص في المعمار، إذ آثر تشييد منزل فاره على الطريقة الأوروبية الكلاسيكية، و لتوفير مصاريف البناء قام بتخفيض مرتبات أجراء معمل يملكه في أحد أطراف المدينة، كما أجبر زوجته على التقشف، رغم أن الأهالي يعتمدون على حبها للانفاق الباذخ، فهي تتسوق كل يوم، تقتني ملابس جديدة و تمنح الاعانة الشهرية لجمعية الايتام باسم زوجها النبيل.
استغرقت تحضيرات القصر ثلاث سنوات لم تتعلم أثناءها السيدة الاقتصاد، فقد استأنفت حياتها الفارهة في أعقاب إعلان النبيل عن اختتام أعمال بناء القصر الذي سيدير انطلاقا منه شؤون المدينة.
سيطر على منصب العمدة لعشر سنوات مثلما كان أسلافه. ينتخب الأهالي العمدة، بيد أن عائلة النبيل توارثته وغدا عمليا منصبا جينيالوجيا.
لا يترشح أي من السكان للتضييق على النبيل، ذلك أن مكانته البورجوازية تجعله زاهدا في الممتلكات العامة، و كي يبقى للانصاف موقعه السامي، فالخدمات التي وفرها النبيل شملت جميع السكان و كثيرا ما أعربوا خلال الأمسيات الثقافية و الاحتفالات الجماعية عن تأييدهم المطلق للنبيل.
اعتاد على تمويل مؤسسات الرعاية الاجتماعية الموجهة للمعاقين و الأيتام مثلما خصص مصاريف لتطوير المدرسة و ساهم في انشاء ثلاث مدارس أخرى.
صرف الى العبادة مبنى واحدا، فالتنوع الديني في المدينة لا يسمح بانشاء مبنى للعبادة لكل جماعة دينية. و للتعبير عن سيادة السلام الأهلي، كانت الديانات تمارس جنبا الى جنب في المبنى الذي قسم الى عدة أقسام تبعا لعدد الديانات التي تشهد حركة دائمة في الأتباع، فالديانة التي تمثل الأغلبية السكانية هذا العام قد تتحول الى الأقلية خلال العام المقبل و تعود مجددا للاستحواذ على الأغلبية طبقا للقناعات التعبدية المتغيرة لدى الناس. تخليدا لعراقته الجينيالوجية حرص النبيل على استدعاء وجهاء الجماعات الدينية الى احتفال سنوي بهيج يرسم ذكريات الانجازات التي قدمتها العائلة السعيدة للمدينة.
(2)
استيقظت المدينة مثلما أراد المعتاد اليومي، و بدأت أوائل إياه الشمس بغسل جدران القصر، فتواجده فوق التلة العالية يفرض على الشمس الطالعة أن تبدأ بغمره بنورها قبل أن تصل الى باقي أجزاء المدينة. و حين تميل نحو رقدتها المؤقتة يكون القصر آخر من تستودعه أسرار يوم آخر من حياة هادئة الوطيس
لم يغير انسجام المدينة سوى سلسلة جرائم تستهدف فتياتها انطلقت بعد أيام من احتفال زوجة النبيل بعيد ميلادها الخامس و الأربعين، ساد اعتقاد راسب لدى الناس مؤداه أن أحد المدمنين على الخمر يحاول النيل من استقرار المدينة
بدا النبيل خلال هذا الصباح أكثر حبورا، فقد قرر البدء في انشاء مؤسسة لرعاية أسر الفتيات اللائي شملتهن سلسلة جرائم القتل المروعة.
إذ تصاعدت خلال الفترات الأخيرة عمليات استهداف فتيات المدينة، و بذل مجلس المدينة تحت رئاسة النبيل العديد من المخططات الأمنية لاكتشاف أغوار القاتل الذي أذاع الرعب داخل تفاصيل المدينة، فما إن تنتشر بوادر المساء حتى يأوي السكان الى منازلهم و يحكموا اغلاق المنافذ اليها ثم يسيطر الصمت الصاخب على أرجاء المدينة.
بعد تزايد أعداد الضحايا، أقر الاداريون مشروع بناء المؤسسة التي ستتكفل بمتابعة أسر الضحايا تفاديا لانهيار الاستقرار الاجتماعي الذي يزرع فكرة ضرورة الاذعان للنبيل في التصور العام للأهالي. لاثبات رغبة مسؤولي المدينة في مطاردة قاتل الفتيات أشرف النبيل شخصيا على تدبير الاعانات الدورية التي تمررها المؤسسة الى المشمولين بارهاب الزائر الليلي. و كي يحرص رجال الأمن على سلامة أسرهم فقد أتاح لهم النبيل صلاحية المكوث في منازلهم لحمايتها و الابقاء على دوريات الحراسة الليلية لمواجهة الطوارىء.
عند انقضاء أشهر في دراسة مكونات القضية، استشف المحققون أن القاتل لا ينفذ جرائمه إلا لدى اكتمال القمر.
كلما شارف القمر على الاكتمال يبادر رجال الأمن الى تشديد اجراءات المراقبة و الحراسة، غير أن صعود شمس اليوم الموالي لاكتمال القمر يكشف عن جثة فتاة جديدة أراق القاتل دماءها بهدوء.
يرقب اكتمال صورة القمر، و ينتزع قلب الفتاة ثم يضعها داخل صندوق خشبي و يضع قلبها المنتزع بجوار الصندوق و قصيدة شعر يوضح تاريخ ارسالها اليها.
لدى اكتشاف الصندوق يستدعى النبيل و الأمنيون للاطلاع عليه، يقوم رئيس الشرطة بفتحه و يصاب الناظرون بذهول عميق، الفتاة مرتبة بعناية فائقة في كفنها الأبيض، غير أن أكثر ما استدعى استغراب الحاضرين الابتسامة الخفيفة التي تبدو على شفاه كل الفتيات اللائي استهدفهن الزائر الليلي. بل إن وجود الابتسامة الخفيفة و القلب المنتزع و صفاء الجثة يمثل أقوى دليل على أن الأنثى الراقدة في الصندوق إحدى ضحايا السفاح الأنيق. بعد الانتهاء من تفحص الجثة و اعادتها الى الصندوق استعدادا لتشييعها الى مثواها الأخير قال رئيس الشرطة :
- يبدو أن هذا الرجل يؤدي الطقوس الجنائزية بعد الانتهاء من قتل ضحاياه كما أن كل جرائمه اتسمت بالأناقة.
قاطعه النبيل بسرعة خاطفة :
- لا يوجد ما يثبت أن القاتل ذكر، احتمال كونه أنثى غير مستبعد. لدى أي أنثى نداء داخلي صاخب يدعوها الى ارتكاب أي فعل يؤكد لها أنها المرأة الوحيدة التي تملأ عيني الرجل الذي أهدته قلبها.
تدخل أحد عملاء الشرطة مستفهما :
- هل تقصد حضرة النبيل أن اقتراف هذه الجرائم البشعة يحتمل أن يكون صادرا من امرأة؟
استطرد النبيل :
- افتراض رئيس الشرطة أن القاتل ذكر سينشر الريبة في انطباعات نساء المدينة حول أزواجهن و انتشار هذا الانطباع قد يجهز على ما تبقى من مؤسستنا الأمنية. فلتطلعوا مدير مؤسسة رعاية أسر الضحايا على المعلومات المتصلة بالفتاة كي يتمكنوا من الحصول على الاعانات اللازمة. جراح هذا القاتل يجب أن تتوقف
هتفت أم الضحية مترنحة بعد أن كفكفت دموعها المخضلة :
- جراح القلب لا تشفى حضرة النبيل.
اقترب النبيل منها و استل منديله ليجفف زخات الدمع المنهمرة من عينيها :
- بما أننا سيدتي عاجزون حتى الآن عن كشف مرتكب الجرح فعلينا على الأقل أن نبذل جهودا خاصة لتضميده
أجابت الأم الأليمة :
- فليدم حنانك المتدفق لسكان هذه القرية أيها النبيل.
جهز رجال الدين صندوق الفتاة، لم يستبدلوا الصندوق الذي دفنه فيها القاتل تنفيذا لتعليمات النبيل، فقد بدا لائقا. و نفذت مراسيم الدفن بحضور العشرات من أهالي المدينة.
تزامنت مراسيم الموت مع عودة ابن النبيل من سفره الدراسي. عقب الانتهاء من دفن الفتاة تناول النبيل الحديث بعد أن تحلق حوله الأهالي :
- لقد تزامن وقوع هذه الجريمة مع عودة ابني من سفره الدراسي، كنت أخطط رفقة والدته لاجراء حفلة بهيجة على شرفه، لكن الروح التي صعدت الى بارئها ليلة أمس تستحق أن نعلن الحداد تخليدا لذكراها.
نهض من بين الجمع أحد آباء ضحايا الزائر الليلي :
- أيها النبيل، إنني الآن أتكلم باسم أهالي المدينة دون استثناء. لقد ساهمت بعزم و صرامة في تطوير مرافق المدينة كما انصب اهتمامك على القطاعات الخدمية و نتائج اجتهاداتك الدائمة و انتمائك النقي لهذه المدينة ماثلة للعيان و للتاريخ. بعد ظهور هذا القاتل بيننا تكرمت بافتتاح مؤسسة لرعاية أسر الضحايا. لكل هذه الاعتبارات الراقية سيادة النبيل لن نسمح لهذا المجرم بحرمانك من الاحتفال بعودة نجلك السعيد، و لن نسمح له بحرماننا من الافصاح عن سعادتنا بعودة النبيل المقبل.
بعد انتهاء الرجل من حديثه، تعالت أهازيج الجمع خفاقة :
- فليحيا النبيل...فليحيا النبيل.
استجابة لارادة الأهالي، أقيمت حفلة فخمة بمناسبة عودة نجل النبيل من سفره الدراسي. دعي كل أهالي المدينة الى القصر الذي احتضنهم جميعا، و شعروا بالدفء بين ثناياه، فهو القصر الذي يأوي الرجل الذي يبذل كل شيء في سبيل رقي مدينتهم. تبادل الأهالي أنخاب الفرح و المجد، و اعترت أسر الضحايا علامات السعادة...فلأول مرة يكتمل القمر دون جثة جديدة...و لأول مرة يتناسى الأهالي مأساة الفتيات البريئات اللائي رحلن نحو السماء. كل هذا الشعور بالاطمئنان يفسر بتواجدهم جميعا في حضرة النبيل و داخل قصره. لقد كانوا يفكرون بنفس الطريقة، القاتل لا شك أحد سكان المدينة إذ لم يقدم إليها أي غريب منذ سنوات و بالتالي فهو لن يستهدف قصر النبيل الذي غمر عطفه و حنانه كل السكان. بعد انتهاء الحفلة و انصراف المدعوين، انفرد النبيل بزوجته الفاتنة :
- تناقص عدد النساء اللائي كنت تعتقدين أنهن أجمل منك
ارتسمت ابتسامة الاطمئنان على شفتيها :
- تختار العبارات المنسجمة مع انطباعاتك الشخصية، بالنسبة لي لقد تناقص عدد النساء اللائي يمكن أن يهددن صورتي في عينيك
- أنت تدركين يا سيدتي أن النساء جميعا يعتقدن أن مشكلتهن هي أنهن لسن أنت لكن مشكلتهن أنك أنت كل نساء هذا الكون
رمقته بنظرة متلألئة من عينيها بينما كانت منهمكة في التجمل أمام مرآتها الفسيحة. استدار نحو النافذة المطلة على المدينة و التي يراقب من خلالها شروق الشمس و غروبها. أخذ رشفة طويلة من غليونه قبل أن يصدر تنهيدة عميقة رافق صدى صوتها خيوط الدخان و هي تتلاشى أمام ناظريه.
استغرق في تأملاته البعيدة قبل أن يوقظه عناق زوجته له :
- ما لم أفهمه صرفك لكل هذه المبالغ من أجل تلك الصناديق الخشبية التي تضعهن فيها
- أؤمن أن لكل واحدة منهن الحق في أن تموت مياسة.
(3)
اكتمل القمر مرات عديدة بعد ذلك العناق الذي جمعهما رغم أنها حددت له أوصاف السيدة التي يجب أن يقتلها لأنها تفترض أنها أجمل منها. كلما اكتمل القمر تسهر الليلة و تلاحق لهفتها أنفاس الفجر، لكن الصدمة تكررت. بات واضحا أن عزوفه عن قتل السيدة التي منحته أوصافها ناجم عن سقوطه في شباك غرامها. بدأت تحادث نفسها و الكآبة تمزق مشاعرها :
- هل أحبها؟ لقد اكتمل القمر عشرين مرة حتى الآن و ما زالت تلك السيدة على قيد الحياة؟ يستحيل أن يقترف هذه الجريمة. لقد أحببته، أخلصت له، حبه يسري في عروقي فلماذا؟ إذا لم يكن لي فيجب أن يموت...أجل يجب أن يموت، لن يستمر حزن الأهالي طويلا عليه فابننا قادر على وراثته.
أشرقت شمس ذلك اليوم مثقلة بسحب رمادية، لم يأت الهدهد الى حديقة القصر كعادته كل صباح. كان النبيل جالسا الى النافذة يراقب شروق الشمس. جلست الزوجة و ابن النبيل الى المائدة ينتظران التحاقه بهما. مضت لحظات قاحلة.
ناداه الابن...بلا جواب.
عندما اقترب منه ألفى لون وجهه شاحبا. كان غليونه في فمه، بدا كل ما فيه يوحي إلى الناظر إليه أنه فارق الحياة، إلا عينيه فقد لزمهما ذلك البريق المتوهج الذي كان يرى فيهما دائما.
باستطاعة المسافر عبر عينيه أن يدرك أنه كان يوزع نظراته الأخيرة على المقبرة التي أنشئت خصيصا لاحتضان أجداث الفتيات اللائي قتلهن الزائر الليلي. عندما تناهى الخبر المكفهر الى أسماع الأهالي خرجوا جميعا الى الشوارع. تصاعدت أصوات النحيب و الصراخ و شهدت بعض الأحياء حالات انتحار جماعي، ارتدت المدينة من أقصاها الى أقصاها...ثوب الحداد القاتم
أقام الأهالي تمثالا عظيما كتذكار يخلد سيرة النبيل، تمثال عظيم غرس بذور الضغينة في قلب الزوجة، فقامت بعد انقضاء أسابيع قليلة باستدعاء الأهالي لتؤكد لهم أن الشخص الذي بالغوا في احاطته بالهيبة و العظمة هو الذي انتزع قلوب فتياتهن المتضوعات.
في اليوم الموالي لتصريحات زوجة النبيل الراحل، انطلقت مظاهرات حاشدة تندد بأقوال الزوجة و تطالب باعدامها، و تزعم ابن النبيل أي النبيل الجديد المظاهرات و اللقاءات الخطابية التي أجمعت على ادانة و تجريم أقوال زوجة النبيل الراحل، و اتفق النبيل مع النائب العام على اصدار مذكرة اعتقال بحقها و حرر مدير المستشفى وثيقة طبية تؤكد أن زوجة النبيل مصابة بارتجاجات نفسية جراء عدم تحملها لفراق زوجها الذي ملأ حبه قلبها.
تسارعت الأحداث، اعتقلت الزوجة و وضعت في جناح المرضى العقليين. كلما زارها أحد الأطباء أو الممرضين تشد ثيابه بقوة و تؤكد له أن زوجها هو القاتل الذي نشر الرعب في المدينة و أنهما خططا معا لتلك الجرائم ليحافظ كل منهما على حبه النقي للآخر. كانت تقضي لياليها في الصراخ و تكرار اتهامها للنبيل الراحل، لم تنجح الأدوية في التخفيف من آلامها، ظلت تحترق و تذوب....إلى أن أشرق الصباح الذي خمد فيه الصراخ الليلي بعد مرور سنوات على اختفاء جرائم الزائر الليلي...
أقيمت لها جنازة وضيعة، حيث حضرها المكلفون بالدفن فقط
و ما أن ووري جثمانها الثرى و سكبت عليه آخر حبة تراب هتف المحتشدون خارج المقبرة :
- فليحيا النبيل ابن النبيل.